ملخص
العدد القليل للمدارس المتخصصة بتعليم الصم والبكم وسعتها الضعيفة يجعل آلاف الأطفال من هذه الفئة من دون تعليم في المغرب
وسط عالم يسمع بطلاقة ويتكلم بحرية، يجذف وليد، شاب مغربي، قارب حياته وسط أمواج من الصمت المطبق بسبب فقدانه السمعية، ما جعله يتجرع معاناة نفسية واجتماعية منذ صغره، وحتى وهو متزوج في عقده الثالث.
وليد واحد من بين أكثر من مليون و600 ألف شخص مصابين بمشكلات سمعية في المجتمع المغربي، لا يسمعون ولا ينطقون، كما يولد زهاء 600 ألف طفل كل عام بمعضلات سمعية، الشيء الذي يعرقل التواصل والنطق، وفق أرقام رسمية.
لغة الإشارة
لا يستطيع وليد الحديث مع محيطه سوى بواسطة حركات وإشارات يحاول من خلالها فهم الآخرين، غير أنه في كثير من الأحيان يجد صعوبة بالغة في تحقيق هذا الهدف، فلا يفهمهم كما يتعذر عليهم فهمه.
يقول وليد، وهو يحرك يديه يميناً ويساراً، إنه ذكي يفهم كل من حوله، لكنه لا يدرك بسهولة ما يتفوه به الناس ما يجعله يشعر بنوع من العصبية عندما لا يتجاوب بالشكل المطلوب مع محيطه.
بشرى الحكيمي، متخصصة في لغة الإشارة في جمعية للصم والبكم، تؤكد أن وليد حاول تعلم الإشارة بطريقة عصامية وفطرية، لأنه لم يتعلمها كلغة معيارية تعبر عن لغة الصم بالمغرب كما هي متعارف عليها.
ووفق المتحدثة ذاتها، يتعين على وليد أن يختار إحدى الجمعيات والمراكز، على قلتها، وفق تعبيرها، من أجل تعلم لغة الإشارة لكونها ستساعده كثيراً في فهم الصم والبكم، وأيضاً في فهم ما يبث على التلفزيون، خصوصاً الأخبار التي تترجم بلغة الإشارة.
وتورد في هذا الصدد وزارة التضامن، المكلفة بفئة الصم والبكم، أنه "على رغم أن لغة الإشارة المغربية هي لغة الأم للأشخاص الصم ووسيلتهم الأساسية للتعبير عن آرائهم، فإن الأشخاص الصم ليسوا على دراية تامة بالقواعد النحوية والتركيبية للغتهم، وذلك راجع إلى غياب بنية ممعيرة متعارف عليها".
التسرب المدرسي
مشكلة أخرى تواجه فئة الصم والبكم في المغرب تلك التي تتعلق بتعليمهم، حيث يضطر الأصم في الكثير من الأحيان إلى ترك مقاعد الدراسة، ما يفاقم في ظاهرة التسرب المدرسي في البلاد.
سناء، شابة عشرينية، تحكي عن طريق الإشارة، كيف أنها لم تجد مدارس خاصة بهذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة، الشيء الذي جعلها لا تتابع دراستها وتدخل في دوامة من الأمية التعليمية.
تورد سناء أنها لم تدخل المدرسة من الأصل، بالنظر إلى أن أسرتها قررت عدم إلحاقها بالمدارس بسبب صعوبة تواصلها مع الآخرين، وخشية التنمر عليها من قبل التلاميذ.
وتلتقط زينب الكبدي، رئيسة جمعية محلية في الرباط تعنى بفئة الصم والبكم، خيط الحديث من سناء بقولها إن هناك عدداً قليلاً جداً لمدارس متخصصة بتعليم الصم والبكم، موزعة على مختلف مناطق البلاد.
ولفتت الكبدي إلى أن العدد القليل لهذه المدارس وسعتها الضعيفة لأعداد الصم الذين بإمكانهم متابعة الدروس الخاصة، يجعل آلاف الأطفال من هذه الفئة من دون تعليم في المغرب، بينما آلاف آخرون تابعوا بضعة أعوام من التعليم قبل أن يقرروا الانقطاع عن الدراسة لأسباب ذاتية.
وفي السياق تورد أرقام غير رسمية لجمعيات مدنية أن عدد الأطفال الصم في المغرب يتجاوز 33 ألف طفل ذكوراً وإناثاً، منهم أربعة آلاف فقط يتابعون دراستهم.
معضلة الشغل
وعدا معضلتي التعليم والتواصل، يكابد العديد من الصم والبكم مشكلات مستعصية مع الشغل، حيث بالكاد يجد بعضهم فرصة عمل، بالنظر إلى أن مهناً كثيرة تعتمد على التواصل اللفظي.
ياسين، شاب في عقده الثالث، أحد هؤلاء الشباب المغاربة الذين لم يجدوا فرصة عمل مستقرة، ما جعله يتنقل من مهنة إلى أخرى، حتى استقر به المقام في مهنة الحلاقة الرجالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول ياسين في هذا الصدد، بمساعدة صديق له يتقن لغة الإشارة، إنه وجد "مشقة في المداومة على بعض المهن، لكونها مهناً مخصصة للأشخاص الأسوياء الذين يحسنون التعبير اللفظي، ويتكلمون ويسمعون بسلاسة".
يكمل ياسين بأنه اضطر لتعلم تقنيات الحلاقة عند حلاق في حيه الشعبي الذي يقطن فيه بضواحي العاصمة الرباط، قبل أن يصبح حلاقاً بالفعل ويتخذ له محلاً خاصاً به مكنه من الاستقلالية المالية.
وحول اختياره مهنة الحلاقة تحديداً، قال الشاب الثلاثيني إنها إحدى أفضل وأيسر المهن والحرف التي يمكن أن يزاولها الأصم الأبكم، لكونها تعتمد فقط على المهارة، وإذا أراد الزبون طريقة ما في الحلاقة يخبره بها عن طريق الإشارات أو الصور الموضوعة في المحل.
وتوجد في المغرب جمعيات مدنية تقدم للصم البكم المنخرطين فيها خدمات مختلفة، وورشات تدريبية في مجالات الطبخ والحلاقة وصناعة الحلويات، بغية إدماج هذه الفئة في النسيج السوسيومهني وسوق الشغل بالبلاد.
التنمر ومشكلات نفسية
ليس التعليم والشغل والتواصل فقط ما يعترض الصم البكم في المجتمع المغربي، بل أيضاً الندوب النفسية التي تحدثها هذه المشكلة في نفسية الأصم - الأبكم، خصوصاً في فترة الطفولة والمراهقة.
في حي "الواد" بمدينة سلا، المجاورة للرباط، وقف طفل من فئة الصم والبكم أمام مكتبة يحاول أن يقتني منها كتباً بمناسبة الدخول المدرسي، قبل أن ينهره البائع ويستهزئ منه بسبب عدم فهمه لما كان يريد قوله.
تحول هذه المشكلة التواصلية بين الطفل وبائع الكتب إلى مشاحنة ساخنة بعدما عاد الطفل إلى البيت باكياً، ليذهب الأب غاضباً صوب البائع، ويحصل تضارب بالأيدي انتهى عند الشرطة.
محمد قجدار، المعالج والباحث النفسي، يعلق على هذه الحيثية بالقول إن هناك مشكلة تواصلية ونفسية حقيقية حيال طريقة التعامل والتواصل مع فئة الصم البكم، حيث إن هناك من يبخس حقهم أو يزدريهم أو يتنمر عليهم، خصوصاً في الفئات العمرية الصغيرة.
وأوضح المتحدث ذاته أنه خلال مرحلة الطفولة والمراهقة كثيراً ما يتعرض الأصم لتهكم أقرانه، لأنهم يكتشفون إنساناً يختلف عنهم ولا يتواصل معهم وقد لا يشاركهم اللعب، فيحصل التنمر الذي يمكن تفهمه بالنظر إلى تلك السن الصغيرة، معتبراً أن الذي لا يمكن قبوله هو أن يتعرض الأصم للتنمر أو التبخيس أو الازدراء من طرف شخص سوي وعاقل وراشد، فحينها يمكن التساؤل عن مدى أحقية هذه الفئة في تعامل كريم من قبل المجتمع الذي يتعامل أحياناً بقسوة مع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.
مجهودات الحكومة
مقابل هذه المشكلات المتراكمة التي تقف وراء صعوبة اندماج الصم والبكم في المجتمع المغربي بشكل يسير، تحاول الحكومة أن تأخذ بيد هذه الفئة على رغم اعترافها في أكثر من مرة بقصور هذه الجهود في تحقيق المأمول.
وقامت وزارة التضامن والأسرة، المعنية بملف الصم البكم وبقية الإعاقات، بتعزيز "الولوجيات التواصلية" لتمكين فاقدي السمع من المشاركة الكاملة والفعالة في المجتمع.
وعمدت الحكومة إلى معيرة لغة الإشارة المغربية، من خلال وضع قاموس إشاري خاص ودراسة السبل المنهجية والتقنية لنشر وتعميم لغة الإشارة في الممارسات اليومية.
وتعمد الوزارة الوصية أيضاً على توفير السماعات الطبية للأطفال والأشخاص الذين يعانون من مشكلات في السمع، كما تقوم وزارة الصحة بعمليات زرع القوقعة في المراكز الاستشفائية، مع تأمين مواكبة طبية وخدمات تأهيلية من قبيل تقويم النطق وتأهيل السمع قبل عملية الزرع وبعدها.