Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تولستوي سؤال الإبداع الجوهري واكتفى بالجواب الأسهل

يؤكد الأديب الروسي في كتابه "ما هو الفن؟" أنه ليس أكثر من خدمة توضع في تصرف المجتمع

ليو تولستوي (1828 – 1910) (غيتي)

ملخص

بالنسبة إلى تولستوي وعلى ضوء أحداث زمنه، ما كان في وسعه أكثر، أن يوافق على حيادية الفن أو انزوائه بعيداً من هموم الناس

هل يمكن أن تقاس قيمة الغذاء الذي نتناوله بالاستناد إلى ما يبعثه لدينا من متعة أو لذة؟ مِن هذا السؤال، تقريباً، ينطلق الكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي، صاحب "آنا كارينينا" و"الحرب والسلام"، في مجال بحثه عن ماهية الفن، في كتابه الذي يكاد يكون الأقل شهرة بين أعماله الغزيرة والذي يحمل عنواناً ولا أبسط: "ما هو الفن؟". هذا الكتاب وضعه تولستوي في العام 1896، في وقت كان فيه العالم، عند تلك الآونة الانعطافية في تاريخ البشرية، يشهد العديد من المتغيرات. وكانت المتغيرات من التسارع إلى درجة لم يعد من الممكن معها للفنان، بوصفه ابن زمنه، أن يقف متأملاً، راكضاً وراء مفاهيم مثل: اللذة والمتعة والجمال واللهو واللعب... وما إلى ذلك من مفاهيم كانت ربطت قسراً بالفن من قبل فكر "جمالي" أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يعبأ بالقيمة الحقيقية لحياة الناس ومجتمعاتهم، أو هذا ما كان قد بدأ يراه وينادي به عدد كبير من المفكرين الذين يبحثون عن أسلحة يواجهون بها التفاوت بين البشر وتطلعات الناس نحو العدل والتغيير، فوجدوا في الإبداع ذلك السلاح.
بالنسبة إلى تولستوي لم يعد السكوت ولا البقاء في ما كان يسمّى بالأبراج العاجية ممكناً، فالكاتب/ المفكر العجوز، الذي كان قد مضى زمن طويل منذ وضع أعماله الكبيرة، والتي على أية حال نعتبرها دائماً أعمالاً نرى أنه من الصعب جداً أن نطبق عليها تلك النظريات الاجتماعية و"الوظائفية" التي عالج تولستوي الفن بها، في خريف عمره. فهذا الكاتب، على ضوء أحداث زمنه، ما كان في وسعه أكثر، أن يوافق على حيادية الفن أو انزوائه بعيداً من هموم الناس. ومن هنا نراه في كتابه الذي نتحدث عنه، يُكثِر من إيراد فقرات مثل هذه التي ننقلها هنا، عن ترجمة للدكتورة أميرة حلمي مطر للكتاب نفسه: "عندما نقول إن عملاً فنياً ما جيد ولكنه غير مفهوم لغالبية الناس، فإنما يشبه قولنا إن نوعاً من الطعام شهي جداً، ولكن أكثرية الناس لا يمكنها أن تتذوقه. إن العمل الفني الأصيل لا يحتاج إلى تربية عقلية على نحو أنه لا ينبغي أن يتعلم الإنسان الهندسة قبل أن يفهم حساب المثلثات، وإنما يمكن للفلاح البسيط أن يفهم العمل الفني الجيد وقد لا يفهمه المثقف المنحرف عن الدين. وفضلاً عن ذلك لا يمكن أن يكون العمل الفني موضع تفسير، لأنه لو كان من الممكن تفسيره باللغة العادية لعبّر عنه الفنان باللغة والكلمات. العمل الفني الأصيل يلغي الفواصل بين الفنان والمتذوق. في التقارب والاتصال تكون قوة الفن".

ضد المذاهب الفنية السابقة
إذاً، بتأكيدات مثل هذه، يمكن بكل بساطة مجادلتها اليوم، حمل تولستوي - بحسب ما يفيدنا الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه القيم "مشكلة الفن" - على المذاهب الجمالية السابقة. ولكي يتمكن صاحب "الحرب والسلام" من هذا، ويجعل أفكاره عملية و"في متناول الناس"، بدأ دراسته النقدية هذه باستعراض تاريخ المذاهب الجمالية، قبل أن يعرّج على موضوع الفن نفسه، مقرراً أن "الفلاسفة دأبوا على تعريف النشاط الفني بالرجوع إلى مفاهيم الجمال واللذة (...)، في حين أن المهم هو معرفة الدور الذي يلعبه الفن في حياة الإنسان أو الإنسانية بصفة عامة". وهنا يقول لنا تولستوي إننا "إذا أردنا أن نعرّف الفن تعريفاً صحيحاً، وجب علينا أولاً وقبل كل شيء، أن نكف عن اعتباره مصدر لذة، لكي ننظر إليه بصفته مظهراً من مظاهر الحياة البشرية. ولن نجد أدنى صعوبة عندئذ في أن نتحقق من أن الفن هو إحدى وسائل الاتصال بين الناس". وهنا يستطرد تولستوي قائلاً: "كما أن الإنسان ينقل أفكاره إلى الآخرين من طريق الكلام، فإنه ينقل إلى الآخرين عواطفه من طريق الفن". ومعنى هذا - في رأي تولستوي - أن الفن لا يخرج عن كونه أداة تواصل بين الأفراد، يتحقق من طريقها "ضرب من الاتحاد العاطفي أو التناغم الوجداني بينهم".

صدمة في انتظار الأدباء

إزاء أفكار مثل هذه، لن يدهشنا هنا أن نرى كيف أن هذا الكتاب أحدث دويّاً كبيراً في زمنه، ولا سيما في أوساط الأدباء، حيث أن تولستوي، وفي كل بساطة، أخبر أكثرهم أنهم يعملون عبثاً "فما كان ما يزعمون من أعمال فنية متصلاً بالفن، كما عرّفه، هو، لا من قريب ولا من بعيد". ومن أجل الوصول إلى هذه التعريفات يقسم تولستوي الفن على مدى تاريخه إلى ثلاثة أنواع: الفن الطيب، الفن الخبيث، والفن الباطل أو الزائف. وبما أن "قيمة الفن لا تقاس بمقياس مجرد كنظريات علم الجمال مثلاً، بل بصلته بالناس والمبادئ السامية التي لا بد منها لحياتهم، لا يمكن تجريد الفن من مفهوم الفضيلة". بالنسبة إلى تولستوي "الفن الحقيقي هو أن تنقل إلى غيرك ما تحس في نفسك مما تأثرت به تأثراً عميقاً، والفرق بينه وبين الزائف من الفن، أن يحسّ الفنان حقاً في أعماق نفسه ما يريد أن ينقله إلى غيره، وأن يبلغ من قوة الأداء أن يؤثر في غيره بحيث يجعله شريكاً له في إحساسه (...) وإنما تتجلى قوة الفنان حقاً في كمال هذا النقل، وكلما كثر عدد من يشاركونه نفس إحساسه كان إلى ذلك الكمال أقرب".

بعيداً من الشعور الحكيم

فماذا عن الفن في الزمن المعاصر - لكاتبنا -؟ "لقد بَعُدَ الفن في المدنية الحديثة والثقافة الجديدة، عن ذلك الشعور الحكيم الذي أخذت به جميع الأديان (...) والذي اعتنقه أساطين الفكر في العالم، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو. وفقد الفن بذلك وظيفته في السمو بالنفوس والعقول وأصبح ملهاة أشبه بلعبة لاعب، ولئن قال قائل إن الفن في الأمم البدائية ضرب من اللعب، يُرَدّ على ذلك بأنه إن وصل إلى ذلك الوضع في الأمم المتمدنة، كان دليلاً على انحطاطها إلى مستوى البدائيين". ويستطرد تولستوي هنا ليخبرنا أنه قد أصبح في أوروبا منذ النهضة نوعان من الفن: فن للعامة وفن للخاصة، وبات فن الخاصة قاصراً على فئة معينة، وقد حيل بالضرورة بينه وبين العامة، لما يتطلبه من نفقات لا يطيقها العامة، وما زال يضيق ويبعد عن الروح الكونية حتى ليحسن تسميته بالفن الإقليمي، ثم ازداد ضيقاً فسماه أصحابه بالرمزية، وأحرى به أن يسمى بالببغاوية". وبالنسبة إلى تولستوي يقوم محك هدف العمل الفني على مدى انتشاره من طريق العدوى. وكلما كانت هذه العدوى أقوى كان الفن أصدق، بغض النظر عن مضمونه، أو عن قيمة العواطف التي ينقلها إلينا. ودرجة العدوى الفنية إنما تتوقف لديه على شروط ثلاثة: أولها، الأصالة أو الفردية أو الجدة في العواطف المعبَّر عنها. ثانيها، درجة الوضوح في التعبير عن هذه العواطف. وثالثها، إخلاص الفنان أو شدة العواطف التي يعبر عنها. أما الفن الزائف فهو "ذلك الذي لا ينبعث عن شعور حقيقي في النفس، وإنما هو وليد التقليد والرغبة في كسب المال والشهرة أو تملق عواطف الجمهور. وهو يبدأ من حيث ينتهي الإلهام، وقوامه الكذب والطلاء الخادع". و"حسبك أن صاحبه يحاول أن يؤثر في النفوس ونفسه فارغة، ويزعم أنه ينقل إليهم إحساسه وما يحس شيئاً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سنوات العبقري الأخيرة

عندما وضع ليون تولستوي (1828 - 1910) كتابه هذا كان في السبعين من عمره، وكان قد أنجز كتابة العدد الأكبر من أعماله الكبيرة منصرفاً إلى المشاكسة (السياسية والاجتماعية) وإلى التأمل الروحي والفلسفي. ومن هنا لم يكن غريباً أن يسعى في سنواته الأخيرة تلك إلى رسم ما يشبه الوصية الفنية، التي من الصعب طبعاً القول إنها تتطابق في بُعدها الجمالي مع الأفكار الكامنة في خلفية معظم أعماله، غير أنها تتطابق مع نظراته الفلسفية في الحين الذي كتبها ودعواته الاجتماعية، بل حتى سعيه للوصول إلى ما كان يعتبره ديناً جديداً يستند إلى مبادئ فلسفية تجعل مصلحة الإنسان وأبعاد حياته الروحية مدارَ اهتمامه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة