Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

برغمان بين المسرح "زوجته" والسينما "عشيقته": لا مكان للغيرة

عندما بدأ كبير السينما السويدية حياته الفنية مسرحياً محترفاً يخص النساء باهتمام استثنائي

لقطة لاثنتين من أفضل ممثلات برغمان في "برسونا" (موقع الفيلم)

ملخص

لاحظ مؤرخو عمل المخرج السويدي إنغمار برغمان في أعماله المسرحية قدرته الهائلة على العثور، ولا سيما في النصوص التاريخية الكلاسيكية، على سمات تكاد تكون خفية يعمل على تظهيرها والتركيز عليها في تعاونه الذي يكاد يكون صامتاً مع ممثليه

يعرف أهل السينما وجمهورها النخبوي أن المخرج السويدي الراحل إنغمار برغمان لم يكن مبدعاً سينمائياً فقط، بل كان مسرحياً أيضاً ومسرحياً بصورة خاصة على أية حال. فنحن إذا قارنا بين عدد الأفلام وعدد المسرحيات التي حققها، سنفاجأ بالتفاوت الكبير بين الرقمين. ففي مقابل كل فيلم كان يحققه مرة كل عامين كمعدل عام، نجده يقدم أكثر من 10 عروض مسرحية أحياناً لمسرحيات كان يكتبها بنفسه، ولكن غالباً من "الريبرتوار" العالمي، وبخاصة الكلاسيكي. ففي نهاية الأمر وعلى عكس ماكس رينهارت وبريخت وغيرهما، لم يكن إنغمار برغمان ليحفل كثيراً بالتجديدات الشكلية على الخشبة، بل كان أكثر ما يهمه هو أداء الممثلين وإيصال النصوص إلى جمهور يريده أن يعيش الحالة المسرحية معه، ومن هنا لم يكن صدفة أن يهتم برغمان أكثر ما يهتم  بتقديم مسرحيات لشكسبير وموليير من الكلاسيكيين القدامى، وإبسن وسترندبرغ من الجدد.

العثور على سمات خفية

ولعل ما لاحظه مؤرخو عمل برغمان المسرحي وشددوا عليه دائماً كان ما رصدوه لديه من قدرة هائلة على العثور، ولا سيما في النصوص التاريخية الكلاسيكية، على سمات تكاد تكون خفية يعمل على تظهيرها والتركيز عليها في تعاونه الذي يكاد يكون صامتاً، مع ممثليه الذين يسند إليهم مسؤولية كبرى تكاد تجعل منهم ومنه كلاً واحداً. ومن هنا ما ينقله إليهم دائماً من "اكتشافاته الصغيرة" في ثنايا المسرحيات التي يشتغلون معاً عليها، طالباً منهم أن يحدثوه عما يمكن لهم هم أن يكتشفوه، مؤكداً لهم أنه يعتبر أن ها هنا يكمن جوهر العمل المسرحي بمقدار ما يكمن، وعلى عكس ما يحصل في السينما حيث يصور النص مرة وإلى الأبد، في ذلك الاكتشاف المتواصل الذي يمكن دائماً رفد العروض التالية للمسرحية به.

ومن المعروف تاريخياً أن اهتمام برغمان بالمسرح بدأ وهو في الـ11 من عمره حين كان شغوفاً بمسرح الدمى مستعداً لأن يمضي ساعات وساعات وهو يتفرج على عروضه، وهو ما بلغ سن المراهقة حتى راح يكتب نصوصاً لذلك النوع من المسرح سيعود ويحققها عائلياً ومع رفاق له، مطوراً ما سيسميه هو "أسلوباً تركيبياً جديداً"، سرعان ما سيكتشف عجز متفرجيه الصغار عن تلقيه "فأجلت ذلك لحين أصبح محترفاً"، كما سيقول.

ملكوت الاحتراف

وهو بالفعل أصبح محترفاً و"رجل مسرح" منذ النصف الثاني من سنوات الـ30، متأثراً خصوصاً بسلفيه الكبيرين ألف سيوبرغ وأولوف مولاندر. الأول الذي كانت مسرحيته "كلاس الكبير وكلاس الصغير" أولى تجاربه حين عمل معه في المسرح الدرامي الملكي، والثاني الذي اعتبر برغمان إخراجه لـ"مسرحية حلم" (1935) المهد الذي ولد منه ارتباطه النهائي بالمسرح. والحقيقة أن هاتين التجربتين قادتا برغمان إلى اتخاذ قراره النهائي بترك بلدته الأم وحياته العائلية للتفرغ في المسرح منتمياً إلى مجموعة ماستر أولوفسغارتن في ستوكهولم. ويبدو أنه أبدى منذ بداية انخراطه في العمل المسرحي، وبالأحرى ممثلاً أول الأمر، وصولاً إلى قيامه بدور في "ماكبث"، صرامة وتمرداً جعلا له سمعة بالغة السوء، لكن ذلك كان ما أسسه حقاً في وقت لم تكن السينما خطرت له على بال.

مهما يكن من أمر، بدأت مكانة برغمان تتألق في ذلك الحين إلى درجة أنه حين تأسس مسرح للأطفال في ستوكهولم عام 1941 جرى تعيينه مديراً له، ولقد تبع ذلك تأسيس فرقة مسرحية جديدة إنما صغيرة في الوقت نفسه، انضم إليها برغمان، فربطته فيها صداقة مع غونار بيورستراند الذي سيصوره لاحقاً في بعض أبرز أفلامه. وقبل ذلك سيدعمه بيورستراند دعماً كبيراً كما سيلتقي بإرلند جوزفسون وأولف جوهانسون وغيرهما من الكبار الذين سنلتقيهم لاحقاً في أفلام له ربما كتب بعضها من أجل واحد منهم أو آخر. وفي عام 1942 مع هذه الصحبة الطيبة وضمن إطار نشاطات المسرح الملكي، سيخرج برغمان أول مسرحية من تأليفه بعنوان "موت لكمة".

اسم يجتذب الجمهور

في تلك الآونة كان برغمان بات مسرحياً معروفاً يكفي اسمه على ملصق أية مسرحية تعرض لاجتذاب الجمهور، وصارت له في كل موسم مسرحيات عديدة إما يقوم بإخراجها أو يكتبها ويخرجها معاً. كذلك بدأ يتنقل بين المدن الكبيرة والصغيرة وبين الفرق ويكتب مزيداً من المسرحيات التي كان بعضها يحقق نجاحات لم تكن متوقعة كحال مسرحيته "راشيل وبواب السينما" التي يبدو أنها كانت من أولى إشارات توسع اهتمامه نحو الفن السابع الذي كان على المسرح في تلك الأعوام بالذات أن يتقاسم معه اهتمام المعلم. وكانت تلك الفترة بالذات هي التي وسعت اهتمامته من ناحية اختيار المسرحيات، فقدم كامو (كاليغولا)، كما قدم المسرحية الوحيدة لبرتولت بريخت التي أخرجها في حياته "أوبرا القروش الثلاثة". ولم يعد ثمة الآن حدود لنشاطه المسرحي، بخاصة أنه انطلق في الوقت نفسه في نشاط سينمائي، مما اضطره إلى أن يوازن الأمور أكثر وأكثر محاولاً أن "يعدل" أكثر وأكثر بين كبيرات المتعاونات معه من ممثلات يرغبن في خوض تجارب جديدة تنتمي إلى الفنين معاً.

ومن الجدير بالذكر أن معظم تلك الفنانات سيصبحن من "حريمه" الخواص في زمن أو في آخر: من هارييت أندرسن إلى إنغريد تولين، ومن غونيل ليندبلوم إلى بيبي أندرسن ونايما ويفستراند من دون أن ننسى الفنان الذي "اكتشفه" في تلك الآونة بالذات، وسيكون بطلاً لعديد من أفلامه الكبيرة لاحقاً، كما بطلاً لبعض شكسبيرياته المسرحية الكبرى: ماكس فون سيدو الذي سيخلد دور الفارس في فيلم برغمان اللاحق "الختم السابع". ومع هؤلاء جميعاً راح برغمان يكثف من تقديمه للريبرتوار النسائي في مسرحيات لإبسن وسترندبرغ محاولاً تعديلات تخفف من "كراهية" هذا الأخير للنساء في مسرحياته بصورة عامة، معوضاً على ذلك بالإكثار من إبسن ومسرحه المناصر للمرأة وقضيتها عموماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مسرحي محترف

ومنذ ذلك الحين لم يعد ممكناً إحصاء ما يقدمه برغمان من مسرحيات في كل موسم، فهو أمعن في التحول إلى رجل مسرح محترف بصورة نهائية إلى جانب اهتمامه بالسينما اهتمام الرجل بعشيقته بفرح وإقبال في مقابل اهتمامه بزوجته، على سبيل الواجب في بعض الأحيان! من دون أن يفوتنا في السياق نفسه كم أن برغمان عرف مرتين في مساره في الأقل كيف يتبع نزواته الخاصة، فقام بإخراج عملين أوبرالين كبيرين رسما له صورة المبدع الأوبرالي. ونعرف أن ثاني هذين العملين، "الناي السحري" لموتسارت، سيصوره سينمائياً في فيلم يحمل العنوان نفسه. ومن اللافت أن برغمان أشار بعمق، ولكن بشيء من المواربة، إلى ازدواج تجربته هذه في واحد من أفلامه المتأخرة "بعد التمرين".

لكنه عدا عن ذلك ظل يحرص على أن يكون ثمة حاجز سميك بين عمليه المسرحي والسينمائي، حتى وإن كان لا يفوت الراصد النبيه أن يجد في بعض أجمل وأقوى أفلام برغمان أصداء تقديماته المسرحية الرائعة التي جعلت له مكانة ازدادت رسوخاً في المضمار المسرحي في السويد كما في ألمانيا وغيرهما، لمسرحيات من تشيخوف وإبسن وآرثر ميلر، وبخاصة "من يخاف فرجينيا وولف؟" لإدوارد آلبي التي أطربته وأطربت جمهوره ونقاده، إلى درجة أن داعبته يوماً فكرة اقتباسها في فيلم سينمائي.

دور أساس للقطة المكبرة

مهما يكن لا يمكننا أن نختم هذا الكلام من دون التوقف أخيراً عند سمة أساسية من سمات التفرقة "البرغمانية" بين السينما والمسرح وتتعلق باللقطة المكبرة "الكلوز آب" التي اشتهر بالإكثار من استخدامها في أفلامه وبخاصة "النسائية" منها، إذ نجده يقول إن تلك اللقطات إنما كانت أجمل إعلان حب منحه لممثلاته الجميلات، مضيفاً "ولكن أجملها على الإطلاق كانت لقطة ’الكلوز آب‘ على الممثل والمخرج الكبير فيكتور سيوستروم في فيلم ’التوت البري‘، إذ تقترب الكاميرا من وجه الممثل العجوز، وهو يرى على ضفة النهر المقابلة والديه، على الهيئة نفسها التي كانا يتراءيان له فيها عندما كان طفلاً، ثم نراهما يلوحان له". وسيقول برغمان دائماً إنه إذا كان يعطي فؤاده أولاً وأخيراً للمسرح "الذي هو المحك الحقيقي لقوة المخرج وتعمقه في التعامل مع النص"، فإن لقطات مقربة من هذا النوع تحققها السينما تبدو دائماً مبررة لحبه الكبير للفن السابع، "وحتى إذا افترضنا أن في إمكاننا باللعب التقني أن نستخدم مثل هذه اللقطات في المسرح فإننا نستخدمها بواسطة شاشة سينمائية نعلقها في مكان ما فوق الخشبة، مما يعني أننا حتى هنا نعود للسينما!".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة