ملخص
في أعقاب كل هذا القصف المدفعي الذي تتعرض له القرى الحدودية الجنوبية، وما دمرته مئات الغارات الجوية ومئات الأطنان من الصواريخ والقذائف المتنوعة في البلدات الحدودية والداخلية والقرى والتجمعات السكنية، لم تؤت العملية الإسرائيلية أكلها، ولم تتحقق أياً من العناوين المختلفة التي أطلقها القادة الإسرائيليون.
مرت أسبوعان على قرار الحكومة الإسرائيلية تنفيذ عملية توغل عسكرية برية لقواتها في الأراضي اللبنانية الحدودية وصفتها بـ"محددة" الهدف والدقة لضرب قدرات "حزب الله" وتطهير الحدود والسماح بعودة عشرات الآلاف من سكان الشمال إلى منازلهم، لكن حتى اليوم لم تستطع هذه القوات اختراق الحدود الجنوبية أكثر من بضع مئات من الأمتار ثم التراجع تحت الضغط الميداني، الذي أوقع 12 عسكرياً قتيلاً (بينهم ضباط) وإصابة 168 آخرين. فيما على جانب الحزب، لا يصدر أي بيان رسمي يومي يوضح عدد القتلى الذين يسقطون في معارك الجنوب، وهو ما أثار تساؤلات حول سبب توقف نعيه لمقاتليه كما كان يفعل سابقاً.
الصواريخ لم تنقطع
وبعد آلاف الغارات التي نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي على مئات الأهداف في الأودية والتلال وعلى الأبنية وعشرات البلدات والقرى اللبنانية، يلاحظ المتابعون للميدان أن صواريخ الحزب لم تتوقف على المستوطنات الإسرائيلية الشمالية، بل ازدادت وتيرتها في اليومين الأخيرين موقعة إصابات في صفوف المستوطنين، بحسب المصادر الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية، وأحدثت دماراً وحرائق في الأبنية والمؤسسات، وباتت تستهدف الداخل الأبعد من الحدود اللبنانية، وصولاً إلى حيفا التي تبعد نحو 138 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية، وإلى أبعد من حيفا.
القصف المدفعي الإسرائيلي الذي يطال القرى الحدودية الجنوبية، لا سيما كفركلا والخيام والعديسة والطيبة وغيرها من بلدات وقرى في أقضية مرجعيون وبنت جبيل وصور، وما دمرته مئات الغارات الجوية ومئات الأطنان من الصواريخ والقذائف المتنوعة في البلدات الحدودية والداخلية والقرى والتجمعات السكنية، لم يترجم حتى الساعة تقدماً برياً كبيراً للجيش الإسرائيلي كما كان متوقعاً، ولم تتحقق أياً من العناوين المختلفة التي أطلقها القادة الإسرائيليون على هذه العملية، مرة لإعادة المستوطنين إلى الشمال، وأخرى لإبعاد عناصر "حزب الله" عن الحدود، أو إلى خارج جنوب نهر الليطاني.
مزيد من الحشود
ميدانياً، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الثلاثاء الماضي أن "فرقة (همفتس 146) بما في ذلك لواء "كرملي" (الثاني) ولواء "القبضة الحديدية" (205) بدأت عمليات برية في القطاع الغربي من جنوب لبنان، ضد أهداف وبنى تحتية عسكرية تابعة لـ "حزب الله"، هذا وبعد نحو عام من خوض الفرقة معركة دفاعية على الحدود الشمالية الغربية. وتعمل القوات الآن بمرافقة قوات مدفعية تشكيل (هتكوما) أي القيامة (213) وقوات أخرى، بهدف كشف البنى التحتية للحزب وتدميرها".
وبانخراطها يصبح عدد الفرق العاملة في جنوب لبنان أربعاً هي: 98 و36 و91، والفرقة 146. ومنذ بدء عمليته البرية في جنوب لبنان قبل أكثر من أسبوع يدفع الجيش الإسرائيلي بمزيد من القوات على رغم ادعائه في بدايتها أن "العملية ستكون محدودة وقصيرة".
نموذج حرب 2006
في 12 يوليو (تموز) 2006 شن "حزب الله "عملية أطلق عليها اسم "الوعد الصادق"، أدت إلى أسر جنود إسرائيليين، فبادرت القوات الإسرائيلية مباشرة واقتحمت الجدار الحدودي ودخلت إلى الأراضي اللبنانية، فترصدها الحزب وقصف دبابتين، فقتل ثمانية جنود إسرائيليين، من بينهم إيهود غولدفاسر وإلداد ريغف اللذان أسرا إلى لبنان من دون الإبلاغ عن مصرعهما.
شن الإسرائيليون في أعقابها عملية عسكرية واسعة طاولت مختلف الأراضي اللبنانية، تماماً مثلما يحصل اليوم، لتحرير الجنديين سميت بـ"الثواب العادل". وتتابعت الأسماء بحسب المعطيات فأشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى هذه الأحداث باسم "حرب لبنان الثانية" أو "حرب إسرائيل الأولى مع العرب" لضراوتها، ثم أصبح هذا الاسم "حرب إسرائيل الثانية" رسمياً في إسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حرب يوليو (تموز) 2006، وفي أعقاب عملية توغل أطلقت عليها إسرائيل تسمية "تغيير اتجاه 11" (بدأت في 11 أغسطس قبل ثلاثة أيام من انتهاء الحرب)، سجلت القوات الإسرائيلية المهاجمة خرقاً محدوداً. وتقدمت هذه القوات مدعومة بقصف جوي وبري وبحري وتوغلت بضعة كيلومترات في داخل الحدود اللبنانية، بهدف تحقيق مكاسب برية قبيل دخول قرار مجلس الأمن 1701 الداعي إلى وقف الحرب حيز التنفيذ، وكانت في مواجهة عناصر من "حزب الله"، على رغم أن القوة الدفاعية واللوجيستية والبشرية للحزب لم تكن على المستوى الذي آلت إليه بعد 18 عاماً من المواجهات التي خاضتها وجهاً لوجه مع أكبر وأقوى جيش نظامي في الشرق.
ماذا حصل؟
حدث التوغل عام 2006 بالفعل عبر عملية إنزال جوية في بلدة الغندورية (في قضاء بنت جبيل)، وشارك في عملية الإنزال والتوغل، وحدات كوماندوس من الفرقة "162"، واللواء المدرع "401"، والذي اقتحم عناصره وادي الحجير إلى بلدة الغندورية، ومنها إلى منطقة جويا (شرق صور). تقدمت الفرقة في مسالك غير مكشوفة، وشقت طرقات ترابية، تحاشياً لأي عبوات مجهزة سابقاً، من قبل "حزب الله". وعبرت (في قضاء مرجعيون) من الطريق العام بين العديسة ورب ثلاثين، إلى الطيبة، ومنها إلى خربة كساف، المحيصبات، القنطرة، عدشيت القصير، وصولاً إلى "خلة براك" (شمال غربي عدشيت القصير)، حيث شقت طريقاً منها نحو "بستان جميل"، الذي وصلته قبيل الحادية عشرة من صباح السبت 12 أغسطس من العام نفسه.
وبينما كان اللواء "النخبوي" 401 يشق طريقه باتجاه وادي الحجير، بدأ استهداف المدرعات، وعلى رأسها دبابات "ميركافا 4" إذ وقعت في كمين محكم بعد أن كان "حزب الله" قد زرع مسبقاً كامل المنطقة بالألغام والعبوات الناسفة، إضافة إلى تحصن مقاتليه بين أشجار الزيتون في الغندورية. كانت الرمايات تتوالى من مرابض ضد الدروع، في قرى شمال الليطاني، بخاصة تلك التي أغفلها الجيش الإسرائيلي تماماً، خلال إعداد خطة العملية، نظراً إلى عدم توصل أجهزته الاستخباراتية إلى معلومات تفيد بامتلاك المقاومة صواريخ روسية متطورة ضد الدروع، من نوع "كورنيت"، يصل مداها إلى نحو 5.5 كيلومتر.
عندها، قام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف مركز وكثيف، هادفاً إلى إيقاف النيران المضادة، وتأمين متابعة التقدم، ما سهل انتقال "الكتيبة 9" إلى "عين عيديب"، ومنها توجهت نحو الغرب، على الطريق الترابية، المنحرفة شمالاً باتجاه الغندورية. كان هذا الطريق يبعد مئات الأمتار غرباً، عن الطريق الأول، الذي خطط له "لواء الناحال"، والواقع بين فرون والغندورية. سقط في هذا الطريق قائد "الكتيبة 9" المقدم آفي ديفرين، إلى جانب اثنين من مرافقيه بعد إصابتهما بصواريخ موجهة. في خضم هذه المعركة، نفذ الإسرائيليون إنزالاً جوياً كبيراً شاركت فيه نحو 50 مروحية نقلت أكثر من 2000 جندي، إلى منطقة العمليات. وبعد قتال ضار دام نحو 60 ساعة، انسحب الجيش المتقدم واعترف بمقتل نحو 34 جندياً، وخسارة عشرات المدرعات والآليات.
"بانتظار المعركة البرية"
يقول رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة العميد الركن المتقاعد هشام جابر "لا يمكن القول إن الحزب استعاد المبادرة، هو اليوم يشتبك مع الجيش الإسرائيلي الذي لم يستطع حتى الآن تحقيق مكاسب ولم يحتل أي أرض في الجنوب، تكبد خسائر لكنها حتى الآن لا تكفي الحزب الذي خسر الردع كما نعلم وإلى أن يستعيده هذا موضوع آخر".
ويضيف أن "القوة الردعية للحزب ستكون في الداخل، في الميدان، وليست على الحافة الحدودية، يهمه أن يتوغل الجيش الإسرائيلي إلى الداخل مثلما حصل في حرب 2006، لأن المعركة ستكون لمصلحة المقاتلين وهذا غير مختلف عليه، وإلا كان الإسرائيلي توغل ولم ينتظر، ونفذ اجتياحاً أو خرقاً، كل ما يقوم به حتى الآن هو عمليات استطلاع بالنار كما يسمونها، وكل ما جرى حتى الآن هو في قرى حدودية ملاصقة، بينها مسافات تراوح بين 500 متر و1500 متر وهذا يعتبر خارج الميدان".
ويؤكد العميد جابر أن ما يقوم به الإسرائيليون "لا يناسبهم، إنه استنزاف لقواتهم، يحتاجون إلى خرق ما، وحتى الآن لم يقدروا عليه. أنا افترضت أن يحصل هذا الشيء في القطاع الغربي، في الخط الساحلي بين الناقورة ومدينة صور بمسافة تبلغ نحو 18 كيلومتراً. يمكن أن يتقدم بآلياته على هذا الخط الساحلي بسهولة بحماية وتغطية جوية، لكنه عسكرياً لا يقدر أن يتوغل في الخط الساحلي من دون احتلال مرتفع مهم جداً مسيطر على الخط الساحلي اللبناني وعكا، اسمه اللبونة، كان يوجد فيه الجيش اللبناني قبل إعادة الانتشار الذي أجراه منذ أسبوع تقريباً. يمكن القول إن الإسرائيلي وقبل أن يقوم بأي خرق ساحلي يجب عليه السيطرة على هذا المرتفع".
ويتوقع جابر خطة ثانية قائلاً "يجب ألا يذهب من بالنا احتمال تنفيذ عملية كوماندوس بحرية على الشاطئ بين الصرفند والقاسمية أو بين القاسمية وصور، بحثاً عن أهداف معينة في غالب الظن أنها صواريخ أرض- بحر تشغل بال الإسرائيليين إذ لا يعرفون مخبأها أو يستطيعون كشفها، إنه احتمال مفترض. ويجب ألا ننسى احتمال قيامه بإنزال جوي، لكن أين؟ ليس على الساحل حتماً، في الداخل أو في البقاع أو شمال الليطاني".
وحول ما يطلقه "حزب الله" من صواريخ على المستعمرات الشمالية وحيفا يعتبر العميد جابر أنه "يصب في خدمة الحزب لكنه لا يرتقي إلى مستوى وقف الهجوم الإسرائيلي أو ردعه، لن يرتدع الإسرائيلي إلا بضربة موجعة توقظه من سكرته، تكون بضرب منصات النفط والغاز بصواريخ أرض- بحر، أو الصواريخ الدقيقة المدمرة على نحو إطلاق دزينة منها (12 صاروخاً). حتى الآن لم يستعمل الحزب شيئاً منها، يجب ألا يتوقف الأمر على أهداف غير كوشتان وميناء حيفا".
قدرات إسرائيل للتقدم الميداني
يقدم نائب رئيس مركز "كارنيغي للشرق الأوسط" والباحث السياسي مهند الحاج علي تحليلاً مختلفاً، معتبراً أنه من الواضح أن إسرائيل لديها القدرة على التقدم ميدانياً، وأن هناك تدريباً وأسلحة متطورة على المستوى البري، ويقول "يبدو أن هذا الدخول مؤجل بسبب التركيز على ضرب إيران وعلى أساس ذلك يتم التوغل في الميدان، فهم لا يريدون إشغال قواتهم حالياً على مستوى عال في الأراضي اللبنانية، أعتقد أنهم في هذه المرحلة يؤثرون أن تسير الأمور على ما هي عليه، ولا خسائر كبيرة على المستوى الإسرائيلي في لبنان حتى الآن".
ويشير إلى أن القوات الإسرائيلية لم تتقدم "لكنها موجودة في نقاط معينة، على نحو ميس الجبل ومارون الراس وغيرها وهناك تقدم على مستوى بسيط، والعملية الجوية لا تزال مستمرة، وهناك ضغط داخلي لبناني على الحزب وأعتقد أنه جزء من التعويل الإسرائيلي في المرحلة المقبلة، وما يتحدث به الإسرائيليون اليوم أن الحزب أسهل من حركة حماس".
يشدد الباحث في شؤون "حزب الله" على أنه على المستوى المعنوي يلاحظ الإسرائيليون فراراً سريعاً من التجهيزات ومن أماكن أعدها الحزب على فترات طويلة تركت من دون معركة، وأن مستوى المواجهات متدن. هناك بعض الاختبارات طوال أسبوعين تقريباً والخسائر متدنية برأيهم على الأرض، وحتى مستوى القصف من قبل الحزب لا يزال كما هو، قصف لمناطق في حيفا وغيرها، لكن مستوى الضحايا من جرائها منخفض جداً، يمكن الاستمرار على هذه الوتيرة مدة طويلة.
لكن هل هناك نية إسرائيلية لدخول جنوب لبنان أبعد من الليطاني؟ يجيب الباحث المتخصص في شؤون "حزب الله" أن التحضيرات الإسرائيلية على الأرض توحي بغزو واسع لجهة التجهيزات وعمليات الإخلاء وما يتم تجاه قوات الطوارئ الدولية "يونيفيل" ربما يعزز هذه النظرية. ويضيف "لكن هل هناك نية إسرائيلية للدخول إلى بيروت بعد الدخول حتى نهر الأولي؟ هذه الأسئلة تكررت وهكذا فعلوا عام 1982، إن كمية النصر المعنوي للدخول إلى بيروت عظيمة للجانب الإسرائيلي وتحديداً لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ولحساباته التي أظهرت أنها ضيقة جداً لا علاقة لها بالحسابات السياسية الشخصية"، ويختم بالتأكيد أن كل الاحتمالات مطروحة، خصوصاً إذ حصلت الضربة الإيرانية بالحجم والنوعية ومرت من دون رد إيراني حقيقي ومؤثر، فوقع ذلك على الحزب معنوياً سيكون كبيراً وسيؤثر في الأرض.
إخلاء الشاطئ الجنوبي
منذ يومين، وجه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تحذيراً عاجلاً "للمستجمين والموجودين على شاطئ البحر وكل من يستعمل القوارب للصيد أو لأي استعمال آخر من خط نهر الأولي جنوباً". وأضاف عبر منصة "إكس"، أن نشاط "حزب الله" يجبر جيش الدفاع على العمل ضده، وقال "من أجل سلامتكم امتنعوا عن الوجود في البحر أو على الشاطئ من الآن وحتى إشعار آخر. الوجود على الشاطئ وتحركات القوارب في منطقة خط نهر الأولي جنوباً يشكلان خطراً على حياتكم".
الجدير ذكره أن نهر الأولي يصب في مدينة صيدا على مسافة نحو 60 كيلومتراً إلى الشمال من الحدود بين لبنان وإسرائيل.
ويرى العميد جابر أن الإنذار الإسرائيلي "يصب في خانة إرهاب الناس والصيادين أولاً، والدفع نحو مزيد من النزوح، وكذلك خلو الشاطئ الجنوبي أمامه فيما لو حاول القيام بإنزال بحري ما عند هذا الشاطئ".
وذهبت بعض التحليلات السياسية والأمنية والعسكرية، إلى توقع أن يلامس التوغل البري الإسرائيلي "فيما لو حصل" ليس جنوب الليطاني فحسب، بل إلى حدود منطقة الزهراني التي تبعد نحو 50 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية، أو أن تكون مدينة صيدا من ضمن هذا التوغل، ومن هنا يأتي ذكر شمال نهر الأولي في هذه التحذيرات. "لكن لا شيء ثابتاً حتى الآن في ظل عدم نجاح أي توغل إسرائيلي في الأراضي اللبنانية حتى اليوم".