ملخص
مع تجدد الرهان على دور محوري لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، يعتقد كثيرون أنه بات أقوى في غياب أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله، فيما يرى آخرون أنه فقد فاعليته منذ أن صار مقيداً بالحزب ومتماهياً مع سياسته الداخلية والإقليمية.
على مدى ثلاثة عقود متواصلة، منذ تسلمه عام 1992 رئاسة السلطة التشريعية، نجح رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في الإمساك باللعبة السياسية داخل البلاد من جوانبها كافة، وصنفه بعضهم برجل المهمات الصعبة للأزمات المتعاقبة.
حاز رئيس البرلمان لقب صاحب الحلول أو المتعارف على تسميتها بـ "أرانب" بري التي رأى فيها بعضهم حلولاً إنقاذيه، فيما اعتبر بعضهم الآخر أنها صبت في معظمها لمصلحة المكاسب الضيقة أو لمصلحة "الثنائي الشيعي" المكون من حركة "أمل" و"حزب الله".
أقنع بري على مر الأزمات الماضية كثيرين في الداخل، وكذلك في الدول العربية والمجتمع الدولي، أنه قادر على تدوير الزوايا بين الأضداد واجتراح الحلول حتى بوجهيه "الحركي" نسبة لرئاسته لحركة "أمل"، والمؤسساتي من موقعه كرئيس للسلطة الثانية في لبنان بعد رئاسة الجمهورية، والمحطات والأمثلة كثيرة بدءاً من اغتيال الرئيس رفيق الحريري والالتفاف على تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومروراً بحرب يوليو (تموز) عندما كلفه أمين عام "حزب الله" الراحل حسن نصرالله ليكون الممثل السياسي للحزب في المفاوضات الدولية، ودعمه لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي وصفها بحكومة "المقاومة"، قبل أن يشارك في فرض حصار عليها، وصولاً إلى دوره المحوري في الاستحقاقات الرئاسية والنيابية وتسيير تكليف رؤساء الحكومات والتشكيلات الحكومية وفي إسقاطها.
ورد اسم بري عبر أكثر من مبادرة تحدث عنها الكاتب السعودي أحمد عدنان "لم تأت بنتائج فعالة في واقع اللبنانيين"، و"طاولة الحوار الوطني عام 2006 التي التفت على مؤسسات الدولة وعلى الغالبية النيابية" كانت إحداها، وقال في مقالته الأخيرة "بري كان شريكاً في انهيار لبنان والانقلاب على الدستور وإضعاف رئاسة الحكومة التي ثبت أنه لا نهوض للبنان إلا بها، ولا شك في أنه وسطي على صعيد النوايا، لكنه من صقور قوى 8 آذار عملياً وفعلياً، مع التنبيه إلى أننا أمام ظرف استثنائي، إذ لأول مرة سنرى بري في ظل ضعف الحزب الإلهي، مع أنه لم يصدق ذلك إلى الاَن".
تجدد الرهان
في هذه المرحلة التي يواجه فيها لبنان اشتباكاً إسرائيلياً - إيرانياً على أرضه، وبعد اغتيال نصرالله، تجدد الرهان على الدور المحوري لرئيس مجلس النواب خصوصاً بعد إعلان نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم تفويض بري التوصل إلى وقف لإطلاق النار، واصفاً إياه بـ "الأخ الأكبر". رد بري لم يتأخر وأتى بعدها بساعات من خلال تصريح إعلامي قال فيه إن تفويض الحزب له بالمفاوضات السياسية "ليس جديداً، وإن كان تم تجديد تأكيده".
يعتقد بعضهم أن فاعلية بري في استنباط الحلول صارت أقوى بعد أن بات المقرر الوحيد عن الطائفة الشيعية وبتكليف من "حزب الله"، وفي المقابل يرى كثيرون أن بري فقد فاعليته مذ أن صار مقيداً بـ "حزب الله" ومتماهياً مع سياسته الداخلية والإقليمية، فضلاً عن أن تكليف الشيخ قاسم بدا مشروطاً ومحصوراً بنقطة واحدة هي وقف إطلاق النار، أما تفاصيل اليوم التالي فليست للأخ الأكبر، كما وصفه قاسم.
وما تم تداوله عن اللقاء بين بري ووزير خارجية إيران عباس عراقجي وما تلاه من تصريحات جاء ليؤكد بأن بري فقد إمكان التمايز عن "حزب الله"، في حين يكشف مصدر دبلوماسي في واشنطن لـ "اندبندنت عربية" أن المجتمع الدولي أبلغ بري بصورة مباشرة أن اللعبة انتهت، والمطلوب استعادة دوره كرئيس مجلس وليس كجزء من الثنائي الشيعي.
5 أسباب للتراجع
يرى كثيرون أن ما يواجهه لبنان اليوم لا يشبه حروباً سابقة مثل عام 2006 وعام 1996، ويعتبر محللون أن الرئيس بري بات يواجه تصدعاً بنيوياً في فاعليته للأسباب التالية:
أولاً التماهي الكامل مع سياسة "حزب الله" الداخلية والالتزام بسياسته الإقليمية التي تقودها إيران حد أن السؤال الذي بات مطروحاً أين لبنانية "حركة أمل" التي كان يتغنى بها بري؟ وهل نسي كيف سعت طهران مع "حزب الله" إما إلى اقتناص كوادر الحركة أو اغتيالها؟
ثانياً التماهي الكامل مع موقعه كرئيس لـ "حركة أمل" والتصرف بموقعه كرئيس لمجلس النواب على أنه يختزل خيارات ثنائية مع "حزب الله"، مما قضى على جوهر النظام الديمقراطي البرلماني اللبناني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً التماهي الكامل مع سياسة قطع شرايين انتظام المؤسسات الدستورية ضمن مربع الديمقراطية السليمة، أي أن الرئيس بري أمسى جزءاً من السلطة التنفيذية وأفقد مجلس النواب دوره الرقابي والتشريعي، وصار جزءاً من مسار محاصصة النفوذ فيما تبقى من دولة.
رابعاً التماهي الكامل مع الازدواجية في مخاطبة العالم العربي والمجتمع الدولي، إذ إن الرئيس بري يوحي بأن قناعته بأن لبنان قائم في صميم العالم العربي وصميم المجتمع الدولي، لكن خطابه وأداءه لا يعني أبداً ذلك، بل إن علاقاته هي في خدمة مشروع "حزب الله" وإيران وليس حتى لبنان أو الطائفة الشيعية.
خامساً التماهي الكامل مع سياسة إفلاس لبنان وتعميم الفساد مما جعل من الناظرين إليه مفاوضاً محتملاً عن "حزب الله" أو بديلاً، يصنفونه شريكاً في ضرب كل مقومات صمود الشعب اللبناني، وبالتالي إمكان تشكيله رافعة حل وتفاوض مفقودة.
تفويض ليس جديداً
في حديث إعلامي منذ يومين، رد الرئيس بري على سؤال عن محاولات بعض الداخل الفصل بين الثنائي "ما حدا بيعمل شرخ بيننا وبين الحزب"، وفي قراءة سريعة لأحداث جرت خلال الأعوام الأخيرة، يتبين أن بري لم يتمايز عن "حزب الله" في القضايا الكبيرة إلا مرتين، الأولى عندما رفض مشاركة عناصر "أمل" في القتال داخل سوريا دعماً للنظام السوري، والثانية خلال جلسات انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ويعتقد كثيرون أن كل قرار وكل خطوة وكل مبادرة اتخذها بري لم تكن إلا لمصلحة "حزب الله" وحمايته، فهو خاض المفاوضات التي أدت إلى الحلف الرباعي عام 2005 إنقاذاً للحزب، والذي أتى بعده تفاهم مار مخايل بين الحزب والتيار الوطني الحر عام 2006، كما ترأس بري جلسات الحوار التي لم تمنع "حزب الله" من شن حرب يوليو (تموز)".
وفي تفويض مماثل لتفويض اليوم، أنقذ رئيس مجلس النواب الحزب من تداعيات الحرب ثم شارك بانقضاض حليفه على "حكومة المقاومة"، في حين وقف عناصر "حركة أمل" في الاعتصامات والتظاهرات، وشاركوا في تطويق المقر الحكومي، ولاحقاً في ما يعرف بغزوة بيروت في السابع من مايو (أيار) 2008، حتى أسهم في الوصول إلى اتفاق الدوحة الذي تحصّل من خلاله الثنائي الشيعي على الثلث المعطل، وكل ذلك بموازاة سلسلة اغتيالات طاولت خصوم المحور السوري - الإيراني وخصوم "حزب الله" تحديداً.
وحتى في مرحلة الضغط الذي مارسه "حزب الله" لإيصال حليفه ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وعلى رغم معارضة بري له، لعب وكتلته لعبة الحزب بتعطيل الانتخابات خدمة لإرادة الحزب في وصول ميشال عون أو لا أحد، والسيناريو نفسه يتكرر اليوم من خلال رفضه تحديد جلسة لانتخاب رئيس تحت قرار وشعار مشترك مع الحزب "فرنجية أو لا أحد
أما مع انطلاق حرب غزة وجبهة الإسناد تحت شعار "على طريق القدس دعماً لغزة وفلسطين"، فقد سقط قتلى لـ "حركة أمل" التي تمايزت عن الحزب ورفعت شعار "دفاعاً عن لبنان وجنوبه"، ومع ذلك غطى الرئيس بري قرار ربط جبهة غزة بالجنوب اللبناني وصولاً إلى نكبتي البيجر واللاسلكي وتصفية فرقة الرضوان وإبراهيم عقيل واغتيال نصرالله وقياديي الحزب من الصف الأول والثاني، وعندما حاول بري إنقاذ ما بقي من الحزب طارحاً وقف إطلاق النار وتنفيذ الـ 1701 وانتخاب رئيس للجمهورية، متراجعاً عن شرطه بالحوار المسبق، كان يسعى مجدداً بحسب كثيرين إلى إنقاذ الحزب المنهك المربك المثخن جسده وبيئته بالضربات.
ومع اختلاف الظروف وارتفاع الخطر الوجودي على الحزب وضيق المناورة على بري، فإن اشتراط الحزب وقف إطلاق النار قبل البحث بأي شيء رآه بعضهم استنساخاً لتوسله وقفاً لإطلاق النار في حرب 2006 وتجاهله لاحقاً وانقلابه على "ما بحث من أشياء" في متن القرار 1701 في كل مندرجاته، ومنها القبول بالقرار 1559و1680، ولا بد من التوقف في هذا الإطار عند آخر كلام لبري، إذ نعى القرار الدولي 1559 الذي يتحدث عن نزع كل سلاح غير شرعي بما فيه سلاح "حزب الله" ورد "القرار الوحيد هو 1701 أما القرار 1559 فصار وراءنا وينذكر وما ينعاد".
صندوق بريد
في السياق نفسه يعتبر الكاتب السياسي أحمد الأيوبي أن حلول الرئيس بري أو "أرانبه" لم تعد تنفع، لأن الصراع بلغ الحدود القصوى ولم يعد هناك مجال لحلول وسطى، ويقول إن "حزب الله" للأسف أهدر فرصاً ثمينة كان يمكن أن تفيده فيها "أرانب" بري، ومن بينها ما طرحه الوسطاء الدوليون من تطبيق القرار 1701 وانسحاب قوات الحزب إلى شمال نهر الليطاني تطبيقاً لهذا القرار، لكن كل هذه الطروحات رفسها الحزب ورفض التعامل معها بإيجابية.
ويضيف الكاتب السياسي أنه "لهذا السبب أصبح الرئيس نبيه بري اليوم صندوق بريد ولم يعد لديه فعالية حقيقية في الأحداث، وذلك لأن 'حزب الله' فوضه بالتفاوض ولم يفوضه بالقرار حتى الآن، والدليل على ذلك أن الشيخ نعيم قاسم الذي اعتبر بري الأخ الأكبر لـ 'حزب الله' قال إن المواجهة مستمرة حتى تحقيق وقف إطلاق النار، بمعنى أن بري ليس مفوضاً بإيجاد آلية لتطبيق القرار 1701 كمدخل لوقف إطلاق النار، بل إن قاسم يريد أن يحصل وقف إطلاق النار قبل أي شيء، ثم بعد ذلك يتم البحث في القرار الدولي".
وبحسب الأيوبي فإن هذا نوع من الالتفاف والاستدارة على الواقع المخالف تماماً لم يعد يسمح بهذه المناورات، وأن العدو الإسرائيلي يضرب بعنف، وهو مستمر حتى فرض الأمر الواقع على الجنوب وعلى لبنان، ويختم "الأولى بـ 'حزب الله' أن يتنازل للدولة اللبنانية من أن يذهب للانتحار ونحر اللبنانيين معه".
لا تراجع في دور بري
وعلى عكس القراءات السابقة لا يرى مدير مركز الاستشراف للمعلومات عباس ضاهر أي تراجع في فاعلية رئيس مجلس النواب نبيه بري. ويشرح في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن تفويض "حزب الله" الرئيس بري بالمحادثات الدبلوماسية ليس جديداً وهو يعود لما قبل اغتيال نصرالله، والمفاوضات كانت قائمة بين الأميركيين وبري عبر الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في الأشهر الماضية، ولبنان كان ملتزماً بالقرار 1701 ونشر الجيش في الجنوب ووقف الحرب، لكن كانت المشكلة آنذاك موضوع ربط الجبهة الجنوبية اللبنانية بجبهة غزة، وهي ما أخرت التنفيذ، لكن تأخير التنفيذ لا يعني وقف التفويض الذي لا يزال مستمراً حتى اليوم.
ويضيف، "الحلول الدبلوماسية التي يفاوض عبرها بري باسم كل الأطراف اللبنانيين مع كل اللاعبين الدوليين والعرب، هي اتصالات مستمرة لكنها لم تنتج حتى الآن بسبب عدم التزام إسرائيل التي لم تعر الحراك الدبلوماسي أي اهتمام".
ويتابع ضاهر مشدداً على أن التفويض والقرار والرغبة والمونة والهدف كلها موجودة ولم تتغير بل بالعكس فإن المسؤولية الملقاة عليه صارت أكبر. حتى إن الحراك الأميركي بحسب ضاهر بات مقتنعاً بما يطرحه لبنان لجهة تطبيق القرار الدولي 1701 واستعداد لبنان للتدرج بالتنفيذ ولكن الأميركي غير قادر على ضبط الإسرائيلي. وإذ يشدد ضاهر أن فاعلية بري في استنباط الحلول لا تزال كما هي، يرى أن المشكلة تكمن في غياب القدرة الأميركية على الضغط لفرض نتائج الحراك الدبلوماسي على الإسرائيليين