Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أصبح القص بدعة والجلوس إلى القصّاص كفرا؟

الباحثة التونسية ليلى العبيدي تقارب إشكالات الظاهرة في مدونات تراثية عربية

فن القص في التراث العربي (صفحة القص - فيسبوك)

ملخص

 تتطرق الباحثة التونسية ليلى العبيدي في كتابها "القص والمقدس في التراث العربي الإسلامي" (دار الساقي) إلى ثلاث مدونات تراثية إضافة إلى كتاب ابن الجوزي "أحاديث الخواص"، وتلقي الضوء على ظاهرة القص في كافة أبعادها.

يروي جلال الدين السيوطي في كتابه "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" أن يحيى بن معين الملقب بسيد الحفاظ، وكان رفيقاً لابن حنبل، أهدر دم القاص سويد الأنباري لرواية هذا الأخير الحديث الموضوع: "من عشق فعف فكتم فمات، مات شهيداً". ويحتكم كتاب ابن الجوزي "أخبار الحمقى والمغفلين" على عدد كبير من النوادر والحكايات المتصلة بحماقات القصاص، كأن يقول أبو كعب القاص في واحدة من قصصه "كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا وكذا. فقالوا له: فإن يوسف لم يأكله الذئب. قال فهو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف". ويجد ابن تيمية في كتابه "أحاديث القصاص" أن القصاص "قوم مهمتهم الكلام، وغايتهم أن يستحوذوا على إعجاب السامعين، ولما كان الناس يتطلعون دائماً إلى أن يسمعوا الغريب الجديد كان هذا دافعاً يحمل هؤلاء القصاص الذي لا يخافون الله على الكذب والاختراع حتى يظفروا بمطلبهم. وكان بعد أن ينتهوا من قصصهم يعمدون إلى استجداء الناس وسؤالهم العطايا".

لعل البدء على هذا النحو في مقاربة كتاب الباحثة التونسية ليلى العبيدي "القص والمقدس في التراث العربي الإسلامي" (دار الساقي 2023) يضعنا أولاً حيال ثلاث مدونات رابعها كتاب آخر لابن الجوزي هو "أحاديث الخواص"، اتخذتها العبيدي كمراجع رئيسة، في دراسة علاقة القص بالمقدس في التاريخ العربي الإسلامي ومآلاته ومتغيراته، والحالة الصدامية بين "الخاصة" (لتلك المدونات أن تكون نموذجاً لها)، و"العامة" المتصلة بالقص والقصاص، بوصف "الخاصة علماء والعامة دهماء"، كما أن الخاصة توسم بـ"العاقلة" والعامة بـ"غير العاقلة"، وبكلمات أخرى: "القص الرسمي الذي ترعاه مؤسسات الدولة، والقص غير الرسمي الذي يثير الريبة والشك ويدفع إلى مراقبته ومقاومته وصولاً إلى اللحظة التي بات فيها القص بدعة... على اعتبار أن العوام جهلة ظامئون على الدوام إلى الغريب والعجيب".

من المهم القول إن الكتاب في بابيه الأول والثاني لا يقرب القصص الدينية ولا يحللها، أو يخوض غمار أبعادها وعوالمها، بل يتمركز تماماً حول "القص" المستمد منها والمتمحور حولها، أي الفعل بحد ذاته وتبدلاته ومتغيراته، بالتالي من عرفوا بالقصاص، بدءاً من كونهم إخباريين ووعاظاً ومذكرين ذوي وظيفة دينية، وصولاً إلى اللحظة التي بات فيها القص بدعة والجلوس إلى القصاص كفراً!

تبدل الأحوال هذا، والانتقال من القدسية إلى الكفر، هو تماماً ما يشكل العمود الفقري لسردية الكتاب، وللدقة جماليته، وهو يسرد تاريخياً واجتماعياً حالة الصراع المتواصلة ما بين القص الرسمي والقص الشعبي في العصور السالفة، الصدق والكذب، المصدق عليه والمتخيل، جنباً إلى جنب مع تاريخ القص ونشأته وأطواره وتمظهراته، من دون الوصول إلى القص الإسلامي المعاصر، أو آثار سالف القص والقصاص الماثلة في أيامنا هذه، محاكاة واستعادة.

نشأة القص الرسمي

يشير الكتاب إلى أن نشأة القص تعود إلى تميم بن أوس الداري، "أحد مرافقي الرسول في غزواته، والمقربين منه بعدما وفد عليه من بلاد الشام نصيراً له في رسالته (...) حاملاً مخزوناً هائلاً قديماً من الخرافات وحكايات العجائب وظفها في خدمة الدعوة المحمدية الجديدة"، مما وضعه "في مقام سلمان الفارسي والنجاشي"، ويروى عنه أن من فرط إيمانه وصدق اعتقاده "كان يقرأ القرآن في ركعة واحدة"، وعلى طرف النقيض يحضر "القاص الجاهلي" النضر بن حارث الذي وظف سعة اطلاعه وثقافته في التشكيك في الرسالة المحمدية، وقد حظي بثماني آيات من القرآن الكريم تندد به وتبشره بعذاب أليم.

مع تميم الداري تأسس القص الرسمي، "القص الحق الحسن"، واتخذ المسجد مكاناً له، ولاقى تشجيعاً من الخلفاء، وفي هذا السياق تحضر أسماء مثل كعب الأحبار وعبيد بن عمير الليثي وعبدالله بن عباس، ولاقت قصصهم اهتماماً مباشراً من الخلفاء الراشدين وحرصاً على تقيدهم بالوعظ والإرشاد والتذكير، وليبتعد عن تلك المقاصد مع "الفتنة الكبرى" بين علي ومعاوية، بالتوازي مع حضور القصاص الخوارج، فإن بني أمية وبني العباس واصلوا السيطرة على القص ومراقبته وتوظيفه.

تغير الأحول في القص والقصاص

تخبرنا ليلى العبيدي أن ما شهده القص من تحول ونقلة نوعية في مضامينه وغاياته حصل مع النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، وهنا يحضر الجاحظ بوصفه من استطاع في البصرة وبغداد أن يراقب القصاص المعاصرين ويعايشهم من كثب ويقتفي آثار السالفين منهم، وقد خصص لهم فصلاً في كتابه "البيان والتبيين"، فمنهم من كانوا على علم دقيق بالقرآن والسنة، كما هو أبو علي الأسواري الذي قص في مسجد البصرة 36 سنة ابتدأها بتفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات، وعائلة آل الرقشي الذي يصفهم بأصحاب أنس والحسن البصري، وموسى بن سيار الأسواري الذي كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وليصل إلى قصاص يماثلهم بالمهرجين والقرادين.

الانعطافة الكبرى في القص والقصاص، أتت حين توثقت الصلة بين العامة والقص، وأصبح القصاص يسترزقون من القص، ويلبون ما يتطلع إليه الناس، بالتالي يزيدون من جرعات الخيال والسرد وعجيب الأخبار والحكايات، ومسرحة السرد، بحيث يتحول القص إلى عرض أدائي، وتضمينه الإنشاد والغناء والتطريب والتلحين، ومشاركة الجمهور في ذلك كما لو أنهم يشكلون مع القاص جوقة واحدة، وتداخل القص الديني والتفسير والتأويل بالضحك والهزال والنوادر، وبات الجمهور مختلطاً لا يقتصر على الرجال، بل على النساء أيضاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتحدثنا العبيدي أيضاً عن هيئة القصاص، وكيف باتوا يلونون وجوههم، فمنهم من كان "يبخر بالزيت والكمون ليصفر وجهه" ويظهر بمظهر جميل يستهوي القلوب أو بمظهر الشحوب والهزال والحزن والاكتئاب انسجاماً مع طبيعة المقام ونوعية القصة كأن يقص عن عذاب القبر وأهوال الموت. وفي هذا السياق يحكي الأبشيهي في "المستطرف في كل فن مستظرف" عن قاص "يبكي بمواعظه، فإذا أطال مجلسه بالبكاء أخرج من كمه طنبوراً صغيراً فيحركه ويقول مع هذا الغم الطويل يحتاج إلى فرج ساعة".

وهكذا أصبح القصاص يأتون من أدنى الطبقات ويعتاشون من القص، وأمسى القص خاضعاً للعرض والطلب، بالتالي جوبه مجابهة لا هوادة فيها، في مجتمعات الراعي والرعية، التي تجد في ما يطلبه هؤلاء المستمعون ابتذالاً ودناءةً وكفراً، إذ ما من صفة سلبية إلا وألصقت بالعامة، كما يخبرنا الكتاب، وهم أقرب للحيوان، منهم من هو قابل للتدجين ومنهم من لا يدجن، بالتالي ألف الغزالي "إلجام العامة عن علم الكلام"، ويقول عنهم ابن الجوزي في "صيد الخاطر" "إذا أصبحوا سعوا في تحصيل الشهوات بحرص خنزير، وتبصيص كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان ثعلب..."، وهذا غيض من فيض مما قدمته العبيدي في هذا السياق، للتدليل على ما ألحق بالقص بمجرد خروجه عن قبضة الأوصياء، واتساع رقعته وعلاقته بالعامة.

الأسئلة الإشكالية

في باب الكتاب الثالث تمضي ليلى العبيدي في رصد الإسرائيليات في القص العربي الإسلامي، المحمود منه والمنبوذ، وتتناول قصة خلق الإنسان و"بقرة بني إسرائيل" و"يوسف وزليخة"، ومعجزات الأئمة وخوارقهم في القص الشيعي. ويجد هذا الباب منطلقه "من توخي القرآن الإيجاز وقصد الاعتبار من القصص وسكت عن التفصيل في الأحداث وفي صفات الأشخاص والأمكنة، غير أن هذا المسكوت عنه في القصص القرآني قد أطلق العنان لخيال القصاص لملئه بشتى أنواع الأخبار والقصص المغرقة في العجيب والغريب وانزاحوا تبعاً لذلك عما رسمته الثقافة العالمة والقرآن ذاته للقصص الحق"، وصولاً إلى تسرب الإسرائيليات من صحابة كانوا يهوداً قبل الدعوة المحمدية مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، حيث تحضر قصصهم في كتب التفسير لدى الطبري والثعلبي والكسائي وابن كثير.

يتجنب كتاب "القص والمقدس" إثارة الأسئلة الإشكالية التي يحتكم عليها طرحه وسرديته الأكاديمية الحصيفة والمطولة، من دون أن يخلو أحياناً من إشارة وجيزة إليها هنا وهناك، تاركاً استخلاصها للقارئ، كما هو حال كاتب هذه السطور، فهو يضعنا في خضم معضلة كبرى في التراث العربي الإسلامي ما زالت حاضرة بقوة في أيامنا هذه، ألا وهي تداخل المتخيل بالمقدس، وإضفاء القدسية على مدونات لا عد ولا حصر لها من صنيع مخيلة قصاص ورواة وفقهاء، أجدها دائماً على اتصال بالأدب والمخيلة الأدبية والمثيولوجية أو الأسطورية، ومع ذلك أحيطت بالقداسة لكونها اندست أو ألحقت بكتب التفسير القرآني والسير والقصص الدينية! وليبقى أن نتساءل أيضاً، هل أسس هؤلاء القصاص الذين لعنوا وكفروا، بصورة أو أخرى، للقص الشعبي اللا ديني لاحقاً، أو "أدب العامة" في السير والملاحم وألف ليلة وليلة، ونحو ذلك؟

اقرأ المزيد

المزيد من كتب