ملخص
نفق خرساني ضيق صممه الفنان الإسرائيلي روني ليفافي، يشبه إلى حد كبير الظروف التي يواجهها الرهائن في الأنفاق إضافة إلى أصوات صرخات المختطفين الإسرائيليين ومناشداتهم ورائحة الدم المخلوط برائحة البارود وإطلاق النار والقصف عبر مكبرات الصوت.
لمسافة لا تقل عن 30 متراً، مشت سارة بيكر (28 سنة) تحت وطأة الخوف ورهاب الأماكن المغلقة في نفق مظلم وموحش تسمع صرخات المختطفين الإسرائيليين ومناشداتهم وتشتم رائحة الدم المخلوط برائحة بارود وذخائر. وعلى رغم صعوبة التجربة التي خاضتها داخل نفق يحاكي نفق "حماس" في ساحة الرهائن وسط تل أبيب، تمكنت السائحة الأميركية المصدومة من ترك رسالة على جدرانه أبدت فيها تعاطفها الكامل مع الرهائن. وعلى رغم المسافة القصيرة التي يقطعها الزائرون والسياح للخروج من النفق، فإنها كانت كفيلة لإقناع الشابة بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد العنف و"الإرهاب الفلسطيني"، بعد أن كانت ضمن الحراك الطلابي العالمي المناهض لإسرائيل وحربها على قطاع غزة. ويهدف النفق الخرساني الضيق الذي صممه الفنان الإسرائيلي روني ليفافي، للحفاظ على الوعي بمحنة المختطفين لدى "حماس" منذ أكثر من عام، وهو يشبه إلى حد كبير الظروف التي يواجهها الرهائن في الأنفاق من جهة الإضاءة الداخلية الخافتة على الأرض، إضافة إلى أصوات إطلاق النار والقصف عبر مكبرات الصوت، مع اختلاف وحيد يتيح للعائلات والمتضامنين كتابة رسائل تعبر عن الأمل على جدران النفق.
القائمة المتزايدة من التحركات الدبلوماسية والقانونية التي تقوض مكانة إسرائيل الدولية وتضعها في عزلة غير مسبوقة في كل الاتجاهات، والتي تتزامن مع التظاهرات التي تشهدها غالب العواصم الأوروبية دعماً لغزة والفلسطينيين، لم يشهد مثلها قط من ناحية الحجم منذ عام 2003 إبان حرب العراق، دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى تحشيد الدعم اللامحدود والنصب والفعاليات التذكارية والفن والواقع الافتراضي والسياحة والأفلام، ليس فقط للحد من التعاطف مع الفلسطينيين وتوليد الدعم لحروب إسرائيل المتوسعة، بل للتذكير بما فعلته "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والعمل على إحداث صدمة متجددة للعالم حول المأساة التي عاشها الإسرائيليون آنذاك ولا يزالون.
موازنة ضخمة
منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023، سخرت إسرائيل علاقاتها العامة الدولية ومتخصصين في التواصل وأساتذة جامعات وطلاباً أكاديميين وضباط استخبارات وإعلاميين في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية، لتصدير صورة إيجابية لها على المسرح العالمي، ومولت حملات وتقنيات دبلوماسية ضخمة توضح وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية وتعزيزها في مواجهة الصحافة المنتقدة لها، تشرح سياساتها وتبرر أفعالها. وعلى رغم تفاقم الأزمة الاقتصادية وإعلان وزارة المالية الإسرائيلية عن بلوغ عجز في الموازنة وصل إلى 8.8 مليار شيكل (2.34 مليار دولار) في سبتمبر (أيلول) الماضي، مع تصاعد حدة الحرب على قطاع غزة واتساع نطاقها إلى لبنان وجبهات أخرى، وافقت الحكومة الإسرائيلية الشهر الماضي على اقتراح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تخصيص 86 مليون دولار لمشاريع إحياء الذكرى المستقبلية المتعلقة بهجمات السابع من أكتوبر 2023 والحملات العسكرية المتعددة الجبهات التي اندلعت منذ ذلك الحين. مع تأكيد أنها ستنفق للحفاظ على البنية التحتية المتضررة من الهجوم وإنشاء موقع تذكاري جديد، وإقامة عطلة وطنية سنوية. وسبق أن أنفقت الخارجية الإسرائيلية على الدعاية أكثر من 13.5 مليون دولار في أوروبا وحدها من أجل دعم روايتها عن الحرب. وحسب تقديرات موقع "سيمرش" (أداة تسويق رقمي شهيرة وشاملة تستخدم في مجال تحليل المواقع) بلغ حجم الدعاية على منصة "يوتيوب" وحدها خلال الأسابيع الثلاثة الأولى فقط منذ بدء الحرب، أكثر من 13.5 مليون دولار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لصحافية "الغارديان" البريطانية يقود وزير المساواة الاجتماعية الإسرائيلي عميحاي شيكلي، حملة حكومية لإعادة إطلاق برنامج "أصوات إسرائيل " (Voices of Israel)، المثير للجدل الذي عرف سابقاً باسم "كونسيرت" كجزء من حملة علاقات عامة أوسع لاستهداف الجامعات الأميركية وإعادة تعريف معاداة السامية في القانون الأميركي، لاستصدار قوانين في كل ولاية من الولايات المتحدة تنص على معاقبة الأميركيين المشاركين في المقاطعة أو غيرها من الاحتجاجات غير العنيفة لإسرائيل. وخلال الفترة من أكتوبر حتى مايو (أيار) الماضي، أنفقت الوزارة ما لا يقل عن 8.6 مليون دولار على برامج تسعى إلى الترويج للرواية الإسرائيلية واتهام الفلسطينيين وحركة "حماس" بارتكاب جرائم منها جرائم جنسية وقتل أطفال. وكشفت صحيفتا "هآرتس" الإسرائيلية و"نيويورك تايمز" الأميركية أخيراً أن وزارة المساواة الإسرائيلية استخدمت شركة علاقات عامة للضغط سراً على أعضاء في الكونغرس الأميركي، واستخدمت الشركة المئات من الحسابات المزيفة التي تنشر محتوى مؤيداً لإسرائيل، أو معادياً للمسلمين، على منصة "إكس" و"فيسبوك" و"إنستغرام".
أفلام ومسرح
تزامناً مع ذلك، سارع إسرائيليون في غضون أسابيع من بدء الحرب، إلى نشر اللحظات الأكثر فظاعة ورعباً التي التقطت بالفيديو في السابع من أكتوبر 2023، وعرضها ضمن أفلام وعروض فنية ومسرحيات أمام جماهير وسياسيين وقادة الأعمال والصحافيين في مناطق متفرقة من العالم. وسلط فيلم "صرخات قبل الصمت" Screams Before Silence خلال 60 دقيقة على العنف الجنسي الذي تعرضت له نساء إسرائيليات يوم الهجوم، ويروي فيلم "نوڤا" (Nova) الذي يمتد لـ52 دقيقة، ويشمل مقاطع فيديو صورت خلال الهجوم وعرض على موقع مهرجان "ترايب أوف نوفا" الموسيقي في "رعيم" التي تبعد خمسة كيلومترات من قطاع غزة، قصة مقتل 350 مشاركاً في هذا الحدث المخصص لموسيقى التكنو على يد مسلحي "حماس"، إضافة إلى فيلم السابع من أكتوبر (October 7)، الروائي الطويل لمنتجي مسلسل فوضى (Fauda)، فضلاً عن المسلسل المكتوب يوم واحد في أكتوبر (One Day in October)، الذي أنتجته شركة "فوكس"، ومن المقرر عرضه هذا الشهر، في حين ركز فيلم النجاة من السابع من أكتوبر سنرقص مرة أخرى (Surviving October 7: We Will Dance Again) الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وفيلم "سوبر نوفا: مذبحة المهرجان الموسيقي" على الحدث ذاته من زوايا مختلفة، كما وبثت قناة شبكة "TBN"، الدينية الأكثر مشاهدة في أميركا حلقة خاصة مكونة من أربعة أجزاء حول هجمات "حماس". وأقيم عديد من المعارض الفنية وعرضان للأزياء تحت عنوان "7 أكتوبر"، شهد أحدهما ظهور عارضات أزياء نجون من الهجمات يرتدين فساتين مصنوعة من أغلفة القذائف وملطخة بدماء مزيفة. وعلى غرار ذلك صمم معرض "نوڤا" الإسرائيلي المتجول بطريقة تحاكي شكل مهرجان الموسيقى الذي قتل فيه 350 إسرائيلياً على يد مقاتلي "حماس"، وإلى جانب الإضاءة الخافتة والرمال الحقيقية وخيام التخييم والسيارات المحروقة، استقطب المعرض أكثر من 100 ألف زائر في نيويورك وحدها، بما في ذلك عديد من السياسيين لاحتوائه على عناصر حقيقية جمعت من الموقع، بهدف خلق ترابط عاطفي حاد مع القتلى الإسرائيليين وذويهم، خصوصاً أن المعرض تضمن عرضاً للأحذية المفقودة التي عثر عليها في موقع المهرجان، في إشارة يرى مراقبون أنها مقصودة من قبل المنظمين لمزج أحداث السابع من أكتوبر 2023 بالمحرقة اليهودية (الهولوكوست). وذكرت شبكة هيئة الإذاعة الوطنية الأميركية (NBC) أن "صفوف الأحذية تذكر بعرض مماثل في متحف الهولوكوست التذكاري الأميركي في واشنطن، الذي يرمز إلى الستة ملايين يهودي الذين قتلوا في الهولوكوست".
سياحة سوداء
لم تقف الأمور عند ضخ الموازنات الحكومية والتزاحم في صناعة الأفلام وابتكار العروض الصادمة لإقناع العالم بحرب إسرائيل الطاحنة على معقل "حماس" في غزة وقتل مدنيين، فمنذ أشهر يزدهر قطاع السياحة السوداء في إسرائيل، إذ ترعى الكنس اليهودية والاتحادات اليهودية من مختلف أنحاء العالم رحلات تأخذ المتضامنين مع إسرائيل إلى موقع مهرجان "نوڤا" جنوباً، الذي أصبح مليئاً بالنصب التذكارية لمئات الأشخاص الذين قتلوا واختطفوا هناك، والتجول بين أنقاض المستوطنات المدمرة التي تقع على مقربة من قطاع غزة كفيلة لسماع دوي انفجارات القنابل الإسرائيلية في جباليا وخان يونس ولرؤية الدخان والشعور بقوة الاهتزازات في الأرض، بهدف تعميق الصدمة للسياح والمتضامنين بما يطغى على المعاناة التي تسببها الحرب.
في المقابل لم تنس إسرائيل أولئك الذين لا يستطيعون القيام بالرحلة إلى الموقع، وافتتحت لهم تجربة الواقع الافتراضي (VR) بمقطع فيديو مدته 35 دقيقة باللغتين الإنجليزية والعبرية، يوفر جولة في مستوطنات غلاف غزة التي تعرضت للهجوم في السابع من أكتوبر 2023، وجولات ثلاثية الأبعاد داخل المنازل والغرف المليئة بالحطام وسط خلفيات صوتية حقيقية سجلها رهائن وقتلى أثناء الهجوم.
ويرى محللون أن "إسرائيل التي تعيش منذ أكثر من عام جنون الانتقام من ’حماس‘ تقود حملات منظمة ومكثفة لتلميع صورتها للخروج من عزلتها الدولية، مستخدمة الفن والنصب التذكارية والأفلام والعروض المسرحية لتبرير حربها الضروس على قطاع غزة".