ملخص
يمثل العداء بين سلفا كير الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا ومشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير، وهما أكبر مجموعتين إثنيتين في جنوب السودان، رمزاً للانقسامات العرقية والسياسية في الدولة الحديثة.
في تطور سياسي وأمني تشهده دولة جنوب السودان، اعتقلت قوات موالية للرئيس سلفا كير ميارديت نائبه الأول رياك مشار في العاصمة جوبا، قال القائم بأعمال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في "الحركة الشعبية لتحرير السودان- المعارضة" ريث موش تانغ، إن وزير الدفاع ورئيس جهاز الأمن الوطني رافقا موكباً يضم أكثر من 20 مركبة مدججة بالسلاح، اقتحم عنوة منزل مشار بعد تجريد حراسه الشخصيين من أسلحتهم، وصدرت بحقه مذكرة توقيف "بتهم غامضة"، قبل اعتقاله مع زوجته أنجلينا تيني السياسية البارزة.
وفرضت السلطات في جنوب السودان إقامة جبرية على رياك مشار، واعتقل مسؤولون متحالفون معه منهم وزير النفط بوت كانج شول، ونائب رئيس هيئة الأركان الفريق غابرييل دوب لام، ووزير بناء السلام ستيفن بار كول وعدد من القادة العسكريين والسياسيين. كما أفيد عن اعتقال 21 شخصاً آخرين، بينهم أفراد من عائلة وزير النفط، وتم لاحقاً إطلاق سراح ثمانية منهم.
تظهر هذه الأحداث المتسارعة تصاعد التوترات السياسية في جنوب السودان، مما يهدد الاستقرار الهش الذي تحقق بعد أعوام من الصراع. ويمثل العداء بين سلفا كير الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا، ومشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير، وهما أكبر مجموعتين إثنيتين في جنوب السودان رمزاً للانقسامات العرقية والسياسية في الدولة الحديثة.
وأدى الاشتباك بينهما إلى اندلاع موجات من العنف أدت إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، مما يعكس مزيداً من القلق حول مدى قدرة الأطراف السياسية في جنوب السودان على تفادي الانزلاق مجدداً في أتون الحرب، ومدى فعالية الضغوط الدولية في إعادة ضبط مسار السلام المتعثر.
ورغم المحاولات الدولية للوصول إلى سلام خلال العقد الماضي، لكن تداعى اتفاق 2018 في الأسابيع الأخيرة، مع اشتعال التوترات السياسية والإثنية العميقة، واشتباكات القوات المتحالفة مع كلا الجانبين في ولاية أعالي النيل الشمالية- الشرقية. وأفادت الأمم المتحدة بأن أعمال العنف شردت ما لا يقل عن 50 ألف شخص منذ فبراير (شباط) الماضي، منهم 10 آلاف عبروا الحدود في رحلة لجوء جديدة إلى إثيوبيا. كما أعلنت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا عن خفض عدد موظفي سفارتيهما في جنوب السودان بسبب تفاقم انعدام الأمن في البلاد.
دعوة أممية
دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أمس الجمعة، قادة جنوب السودان إلى إلقاء أسلحتهم وأن يكونوا القادة "الذين يستحقهم" الشعب لمنع البلاد من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة.
وقال غوتيريش لصحافيين بعد وضع النائب الأول للرئيس رياك مشار قيد الإقامة الجبرية، "على قادة جنوب السودان (...) الإصغاء إلى رسالة واضحة وموحدة ومدوية: ألقوا أسلحتكم، ضعوا مواطني جنوب السودان فوق أي اعتبار آخر"، مشيراً إلى أن البلد "قد يكون سقط في النسيان لكن لا يمكننا أن نتركه يقع في الهاوية".
وذكر أن شعب أحدث دولة عهداً في العالم "كان له آمال وتطلعات كبيرة جداً لكن للأسف (لم يحظ) بالقادة الذين يستحقهم". وتابع "دعونا نتحلى بالصراحة: فما نشهده يذكرنا بالحروب في 2013 و2016 التي أودت بـ400 ألف شخص".
وطالب بالإفراج عن "جميع المسؤولين العسكريين والمدنيين المحتجزين"، واصفاً المشهد في أحد أفقر البلدان في العالم بـ"غيوم سوداء تتلبد" في السماء منذرة بـ"عاصفة عاتية".
وتطرق غوتيريش إلى "وضع أمني طارئ في ظل اشتداد المعارك والقصف الجوي للمدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، وتدخل قوى خارجية، فضلاً عن الطابع الإقليمي المتنامي للنزاع". وندد كذلك بـ"انقلاب سياسي" مع توقيف رياك مشار واتفاق سلام "منهار" و"كابوس إنساني" و"أزمة نزوح" و"انهيار اقتصادي" و"أزمة تمويل".
وشدد الأمين العام على أن "الوقت حان للحوار وخفض التصعيد. ولا يمكن للقرن الأفريقي حيث الوضع متأزم أصلاً تحمل نزاع آخر. وكذلك حال شعب جنوب السودان".
دوامة جديدة
رداً على هذه التطورات، صرح نائب رئيس حزب المعارضة، أويت ناثانيال بيرينو، في بيان له، بأن توقيف مشار يعني أن اتفاق السلام المبرم عام 2018، الذي أنهى حرباً أهلية بين المعسكرين بات "لاغياً"، معتبراً أن اعتقال مشار يعكس غياب الإرادة السياسية لتحقيق السلام والاستقرار. في السياق ذاته، حذر زعيم المعارضة رياك مشار، من أن استمرار هذه الممارسات قد يقود البلاد إلى دوامة جديدة من العنف.
من جانبها، حذرت الأمم المتحدة من أن جنوب السودان يقف على شفا حرب أهلية متجددة، وصرح المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، قائلاً "نحذر من أن هذا الإجراء يقرب البلاد خطوة أخرى نحو الانهيار في حرب أهلية جديدة، مما يهدد بتفكيك اتفاق السلام الهش".
كما دعا رئيس بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، نيكولاس هايسوم، الأطراف المتنازعة إلى ضبط النفس والالتزام ببنود اتفاق السلام، محذراً من أن البلاد تقف على مفترق طرق وقد تنزلق مجدداً نحو صراع واسع النطاق. وعبرت مبعوثة الأمم المتحدة إلى جنوب السودان، نيكولا مانديت، عن "قلق بالغ" إزاء تدهور الأوضاع، داعية الأطراف المتنازعة إلى الالتزام بالحوار وتجنب العودة إلى العنف المدمر.
وأعربت رئيسة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ياسمين سوكا، عن قلقها البالغ إزاء استمرار العنف، معتبرة أن "القادة السياسيين في جنوب السودان يواصلون، بعد أعوام من الاستقلال، تأجيج العنف في جميع أنحاء البلاد، مما يشكل خيانة لشعبهم".
وشددت الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيجاد)، على لسان رئيسها التنفيذي ورئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، على ضرورة احترام الاتفاقات الموقعة، محذراً من أن انتهاكها قد يدخل المنطقة بأكملها في حال من عدم الاستقرار.
وفي السياق ذاته، أعرب المبعوث الأميركي الخاص إلى جنوب السودان مايك هامر، عن خيبة أمله من التطورات الأخيرة، معتبراً أن "القيادة السياسية في البلاد يجب أن تتحمل مسؤولية تجنيب الشعب مزيداً من المعاناة". وأضاف أن بلاده ستدرس اتخاذ إجراءات دبلوماسية إضافية في حال استمرار التصعيد.
يذكر أنه في ظل تصاعد هذه التوترات، أوقفت الولايات المتحدة دعمها منظمتين تراقبان عملية السلام في البلاد، مبررة ذلك بـ"عدم إحراز تقدم" في العملية الانتقالية و"الافتقار إلى الإرادة السياسية" لدى القادة السودانيين.
من جانبه أرسل الرئيس الكيني ويليام روتو، رئيس الوزراء السابق، رايلا أودينغا، إلى جنوب السودان للتوسط في الأزمة المتفاقمة، في محاولة لمنع اندلاع حرب أهلية جديدة.
إقامة جبرية
ليست هذه المرة الأولى التي يوضع فيها رياك مشار قيد الإقامة الجبرية، ففي عام 2016، بعد تجدد الصراع بين قواته وقوات الحكومة في جوبا، اضطر إلى الفرار من جنوب السودان. لاحقاً، وضع قيد الإقامة الجبرية في جنوب أفريقيا بضغط من "إيجاد"، بهدف منعه من العودة إلى ساحة القتال. وكان ذلك عقب انهيار اتفاق السلام الأول الذي دعمته الولايات المتحدة عام 2015، فاندلعت المعارك الدامية في يوليو (تموز) 2016، بين فصائل الجيش المتنافسة، وفر مشار سيراً على الأقدام مع مجموعة صغيرة من أنصاره، أولاً إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية ثم إلى جنوب أفريقيا، حيث سعى للحصول على العلاج.
وقادت الولايات المتحدة من طريق "إيجاد" الجهود الرامية إلى إقناع بريتوريا بوضعه تحت الإقامة الجبرية بحكم الأمر الواقع بعد الضغط على الحكومات الإقليمية، خصوصاً السودان، الحليف التاريخي لمشار، لحرمانه من اللجوء.
وفي عام 2018، أطلق سراحه مع بعض التحفظات بعد توقيع اتفاق السلام، لكنه ظل تحت مراقبة مشددة حتى 2019، عندما عاد إلى جنوب السودان للمشاركة في الحكومة الانتقالية كنائب أول للرئيس.
علاقة معقدة
كانت العلاقة معقدة بين سلفا كير ميارديت ورياك مشار خلال فترة رئاسة العقيد جون قرنق للحركة الشعبية لتحرير السودان، والجيش الشعبي التابع لها، لوجود تباينات في شخصيتيهما وأسلوبهما القيادي. فقد سلفا كير شخصية أكثر تحفظاً وصمتاً، وكان يميل إلى اتخاذ القرارات بهدوء، بينما كان مشار أكثر ديناميكية وأحياناً يظهر تصرفات أكثر انفعالية.
ومع ذلك ظلا من أبرز القادة العسكريين في الحركة، فقد شغل سلفا كير نائب رئيس الحركة، بينما كان مشار نائب قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان. وأثناء الحرب الأهلية السودانية الثانية التي استمرت منذ 1983 وحتى توقيع اتفاقية السلام الشامل بنيفاشا عام 2005، كان سلفا كير قائداً ميدانياً بارزاً في الجيش الشعبي لتحرير السودان، بينما كان مشار قائداً عسكرياً متميزاً، وكان له تأثير كبير في تنظيم وإدارة الجهود العسكرية.
ورغم تباين استراتيجياتهم العسكرية، فقد كان التعاون بينهما ضرورياً لاستمرار النضال ضد الحكومة السودانية وفي سياق العمل معاً لتحقيق أهداف الحركة الشعبية. وإلى جانب قرنق كانا يعملان من أجل تحرير جنوب السودان من حكم النظام في الخرطوم، غير أن نظرتهما إلى هذا التحرر كانت مختلفة، فقرنق كان ينادي بالوحدة ويطمح إلى حكم السودان بالكامل في ظل نظام فيدرالي ويسانده سلفا كير الذي كان مخلصاً لرؤية قرنق "السودان الجديد"، لكنه تحول إلى المطالبة بالاستقلال مباشرة بعد مقتل قرنق. بينما كان مشار يسعى إلى انفصال الجنوب منذ البداية.
كان هناك شرخ في العلاقة بين قرنق وسلفا كير من جهة، ومشار من جهة أخرى فقد قاد الدعوة مع لام أكول في مطلع عام 1991 إلى استبدال زعيم الحركة قرنق، ولكنه فشل، فشكل فصيلاً منشقاً باسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان- الناصر"، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه هاجمت قوات مشار من قبيلة النوير (الجيش الأبيض) مدينة بور وقتلت نحو ألفي مدني من قبيلة الدينكا.
ظهر التوتر بين سلفا كير ورياك مشار بعد وفاة جون قرنق عام 2005 في حادثة تحطم طائرة، إذ تولى سلفا كير منصب رئيس الحركة الشعبية، وبدأ يواجه تحديات في إدارتها والتخطيط للحكومة المستقبلية، مما دفع مشار إلى أن يصبح أكثر معارضة.
تصاعد التوتر بينهما نتيجة للخلافات حول السلطة، فكلا الزعيمين كان يسعى لتحقيق مصالح شخصية من خلال السلطة والنفوذ، مما جعل كل طرف يسعى لتوسيع قاعدته السياسية والعسكرية على حساب الآخر. وظهر ذلك في كيفية التعامل مع المصالح السياسية والأمنية داخل الحركة، فقد كان الجيش الشعبي لتحرير السودان منتظماً في صراعات داخلية بعد انقسامه إلى فصائل متنافسة. هذه الانقسامات عمقت من الخلافات بين الزعيمين، حيث كانت كل فئة تسعى إلى الهيمنة على المؤسسة العسكرية والأمنية، مما أدى في نهاية المطاف إلى انقسام كبير بينهما عام 2013، مع بداية الحرب الأهلية.
بداية الأزمة
بدأت أزمة جنوب السودان في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2013، مع ختام اجتماع مجلس التحرير الوطني للحركة الشعبية في جوبا. وتبقى أسباب اندلاع العنف موضع جدل، إذ تحمل إحدى الروايات الرئيس سلفا كير المسؤولية، بعدما تملكه الشك تجاه منتقديه، فبادر إلى نزع سلاح أفراد حرسه الرئاسي، ممن يشتبه في ولائهم لنائبه السابق رياك مشار. في المقابل، عد مسؤولون حكوميون الأحداث محاولة انقلابية فاشلة دبرها مشار بمعية عدد من الوزراء السابقين، الذين اعتقلوا آنذاك فيما تمكن هو من الفرار.
سرعان ما امتد القتال إلى ولايات جونقلي والوحدة وأعالي النيل، وأعلن مشار عزمه على إسقاط حكومة سلفا كير. واستولت قواته على عواصم الولايات الثلاث، بور، وبانتيو، وملكال، لكن السيطرة على هذه المدن شهدت تحولات متكررة، بلغت أربع مرات في حال ملكال التي تحولت إلى مدينة أشباح. ورغم توقيع اتفاق لوقف الأعمال العدائية في 23 يناير 2014، استمر النزاع مخلفاً تداعيات إنسانية مدمرة.
قدر عدد القتلى بالآلاف، وسط تقارير عن انتهاكات جسيمة شملت العنف الجنسي والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتعذيب، فضلاً عن أعمال النهب وحرق الممتلكات، كما قدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، حينذاك، أن أكثر من 740 ألف شخص قد نزحوا داخلياً، في ظل مأساة لا تزال فصولها تتفاقم.
مصير الاتفاق
تواجه دولة جنوب السودان تحديات تتمثل في العجز عن تحول أطراف النزاع من العقلية الأمنية إلى تلك التي تعتني بالمسائل التنموية، فضلاً عن تغيير نمط الحياة العسكري والقيم المعمول بها أثناء الحروب بنمط حياة مدني وقيم أخرى كالشفافية والمساواة والديمقراطية وغيرها. ويزيد على هذه التحديات تحد آخر كبير، ألا وهو الحفاظ على سلام دائم، والابتعاد عن إمكانية تجدد النزاعات المسلحة، لذلك لم تصمد اتفاقات السلام طوال أكثر من عقد من انفصال دولة الجنوب.
جرى توقيع اتفاق السلام الأول الذي دعمته الولايات المتحدة عام 2015، ولكنه انهار في العام التالي. وبعد تجدد اندلاع موجات من العنف أدت إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، وقع اتفاق آخر عام 2018 الذي أنهى خمسة أعوام من الحرب التي اندلعت عام 2013 في ظل خلافات متزايدة بين الحكومة والمعارضة. بعد ذلك، جرى تشكيل حكومة وحدة وطنية بين سلفا كير ومشار، ولكن التوترات بينهما لم تنته بالكامل، إذ كان هناك تحالفات متغيرة بين فصائل سياسية وعسكرية مختلفة تتنافس على النفوذ. هذا الوضع جعل السلام هشاً وقابلاً للانهيار في أي لحظة.
أوفى الاتفاق ببنده الرئيس بإنهاء القتال بين الطرفين، لكن عديداً من أحكامه لم يتم الوفاء بها. منذ البداية، كان الرئيس سلفا كير متردداً في التوقيع على الاتفاقية، ولم يفعل ذلك إلا تحت ضغط خارجي كبير. كما التف على تنفيذ الالتزامات الأساسية، فقد أجلت الانتخابات مرات عدة بحجج مختلفة. أما الالتزام بتوحيد الجيش، فقد كان من شأن هذه الخطوة أن تنطوي على تجنيد الآلاف من مقاتلي مشار السابقين. ولم يكتف سلفا كير بالمماطلة ولكنه حاول إضعاف مشار بالتحالف وتوقيع اتفاق مع قائدين انشقا عن مشار عام 2021 وهما سيمون جاتويك وجونسون أولوني، مما أدى إلى عزل مشار وإضعافه أكثر.
خطوط الصدع
يقول الباحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والمتخصص في الشأن السوداني بمعهد كريستيان ميكيلسن النرويجي المستقل للأبحاث التنموية غونار سوربو، "في حين أن الأزمة في جنوب السودان، التي بدأت عام 2013، اندلعت بسبب صراع على السلطة في الحزب الحاكم (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، إلا أن أسباب الانهيار السريع للسلام عميقة. بمرور الوقت، اندمجت عدة جماعات متمردة في الجيش الشعبي من دون علاج أسباب تمردها. لذلك، أصبح الجيش تحالفاً من الميليشيات الإثنية الموالية لقادتها، وعندما بدأ إطلاق النار في جوبا، انقسمت البلاد على طول خطوط الصدع هذه".
وذكر، "مع ذلك فإن فكرة وجود معسكرين واضحين، أي حكومة يهيمن عليها الدينكا ومعارضة يهيمن عليها النوير، غير دقيقة تماماً. لقد كان جنوب السودان على خلاف مع نفسه لفترة طويلة. لقد وفرت حكومة ضعيفة ولكن مركزية، وموارد شحيحة، وسياسات المحسوبية، وإرث الحرب، وانعدام ثمار السلام، وصفة للأزمة والانهيار لأعوام. وبينما أضفى التدخل العسكري الأوغندي على الصراع طابعاً إقليمياً خطراً، فإن التحدي الأكبر يكمن في تجاوز مجرد إبرام اتفاق سلام ضيق بين الأطراف المتحاربة الرئيسة، الذي من المرجح أن يعيد الوضع الراهن إلى نصابه. وللتوصل إلى حل سياسي مستدام، لا بد من إعادة النظر بشكل شامل في المشروع الوطني لجنوب السودان، بما يعالج الأسباب الجذرية للصراع".
استراتيجية مخيفة
أكد الكاتب ران كوث تشاك "في أعقاب حادثة مدينة ناصر وتصاعد النزاع بين القوات الحكومية والجيش الأبيض التابع لقبيلة النوير، ومقتل الفريق ماجور داك في هجوم على مروحية تابعة للأمم المتحدة مع 28 جندياً آخر، ظهرت الفرصة التي ينتظرها نائب الرئيس تابان دينغ غاي الذي عينه سلفا كير خلفاً لمشار بعد فرار الأخير عقب أحداث 2016، فقد كان حلم تابان أن يفرض نفسه زعيماً للنوير وأميراً لولاية الوحدة بأي ثمن".
وقال تشاك، "من ناحية أخرى، كان توظيف القوات الأوغندية ومعداتها، استراتيجية مخيفة، لكن تجنيد وتدريب أكثر من 200 ألف شاب من واراب وشمال بحر الغزال للسيطرة على جنوب السودان بقبضة من حديد كان الأكثر رعباً. وقد أثبتت المعارك القليلة التي جرت حتى الآن خطأ كلتا الاستراتيجيتين. يثبت مقتل الكتيبة وقائدها في ناصر أن تجنيد جيش من قبيلة واحدة مهمة انتحارية. على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، كان هناك كثير من المرارة لدى أولئك الذين قتل أبناؤهم وإخوتهم وأعمامهم وأبناء إخوتهم في ناصر، و98 في المئة منهم من قبيلة واحدة، الدينكا".
عوامل محورية
نبه الباحث في المعهد النمسوي للشؤون الدولية يان بوسبيسيل إلى أنه "رغم تصاعد التعبئة الإثنية والسياسية في الحرب الأهلية بجنوب السودان، يعد تصنيف النزاع على أنه صراع عرقي محض تبسيط مخل. فهناك تفسير مغاير، يستند إلى تحليل تاريخ النزاع والمصالح المتشابكة فيه. ويتجلى في هذا السياق احتكار الحركة الشعبية لتحرير السودان للسلطة، وآليات التسوية السياسية التي أفرزتها، والدور الدولي الذي أسهم في ترسيخ هذه العملية، كعوامل محورية لفهم جذور الصراع الراهن".
وأورد "لا يمكن إنكار البعد الإثني- السياسي في الأزمة، خصوصاً في ما يتعلق بالتوترات التقليدية بين الدينكا والنوير، لكن رغم أن الانقسامات الإثنية لعبت دوراً في تشكيل أنماط العنف داخل حركات حرب العصابات، تغفل المبالغة في تفسير النزاع ضمن هذا الإطار تعقيداته الأعمق. فغالباً ما تكون هذه التوترات انعكاساً لعملية تعبئة إثنية- سياسية مقصودة، تهدف إلى تضخيم الخلافات وإخفاء الانقسامات الأعمق، سواء بين الجماعات الإثنية أو داخلها".
ويرى بوسبيسيل "تكمن جذور الأزمة في قضايا الحكم، وتحديداً في بنية الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تحولت من حركة تحرير إلى حزب حاكم، من دون أن تطور آليات سياسية قادرة على إدارة التعددية. ويتجلى هذا الإشكال على مستويين، الأول يتعلق بالحكم داخل الحزب ذاته، والثاني بتنظيم النظام السياسي في جنوب السودان، حيث تهيمن الحركة الشعبية كحزب وحيد. هذه الهيمنة لم تكن مجرد نتيجة لغياب التقاليد الديمقراطية، بل هي تعبير عن وعي النخبة السياسية بهشاشة البنية التنظيمية للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان، وهو ما انعكس على الدولة ككل. لكن بدلاً من معالجة هذا الضعف بإصلاحات هيكلية، سعت القيادة إلى تعزيز قبضتها عبر تركيز السلطة السياسية والعسكرية، مما أدى إلى نتائج كارثية".
وتابع، "إن مطالبة الحركة الشعبية بالاحتكار المطلق للسلطة، رغم الاعتراف الدولي الضمني بذلك، يشكل عقبة أساسية أمام أي تحول سلمي للصراع السياسي. فطالما بقيت السلطة محصورة داخل الحزب، ستتحول أي محاولة لإعادة التفاوض حول التسوية السياسية إلى صراع داخلي محتدم. وكما أثبتت التجربة، فإن مثل هذه النزاعات لا تحسم عبر الانتخابات أو المفاوضات الرسمية، إذ تظل الانتخابات، حتى لو أجريت بنجاح، مجرد تصديق شكلي على هيكل سياسي هش، هو ذاته سبب النزاع المسلح في جنوب السودان خلال العقود الماضية".