Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريتشارد فلاناغان: أشعر بأني أعيش خريف الأشياء

"السؤال رقم 7" رواية جديدة للكاتب الأسترالي... بين التاريخين السياسي والإنساني

ريتشارد فلاناغان في باريس، في 11 يناير 2016 (أ ف ب)

ملخص

في أدبه وكتاباته غير الخيالية الغزيرة، يصارع رتشارد فلاناغان بجرأة التاريخ الحديث وما فيه من تعقيدات اجتماعية وسياسية وأخلاقية.

لا ينبغي أن يكون اسم ريتشارد فلاناغان مجهولاً لدى القارئ العربي اليوم وقد قرأ له في الأقل روايتين مترجمتين إلى العربية هما "الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال" التي حاز عنها جائزة "مانبوكر" قبل بضعة أعوام ورواية "الرغبة" وربما قرأ له غيرهما من مقالاته أو محاضراته. فليس غريباً في تصوري أن يكون صدور رواية جديدة له خبراً مهماً لمن قرأ هاتين الروايتين، وربما تزداد الأهمية في تقديري لدى من يتابع كتابات فلاناغان غير الخيالية التي تنم عن اهتمام أصيل بما آل إليه العالم. والرواية الجديدة بالذات جديرة بأن ترضي قارئ فلاناغان سواء في خياله أو مقالته.
صدرت الرواية الجديدة بعنوان "السؤال رقم 7"، ويقدم لها فلاناغان بحكاية عن محاولة جسورة قامت بها صحيفة "هوبارت تاون ميركوري" لتصنيف رواية "موبي ديك"، إذ لم يعرف الناقد البائس عام 1851 أهي تاريخ، أو سيرة، أو جغرافيا، أو مأساة، أو ملحمة، أو ميلودراما، أو فنتازيا. "قد تكون كل ذلك وقد لا تكون أياً من ذلك. السؤال مطروح، ولكن ماذا عن الإجابة؟".
تعلق ميراندا سيمور على هذا المفتتح ("فايننشال تايمز" في الثامن من يوليو (تموز) 2024) بقولها إنه اختيار مناسب تماماً للكتاب ومبرر لطبيعته، ذلك أن "السؤال رقم 7" يتألف من 10 أقسام تتنقل بسرعة بين مختلف التصنيفات، ففيها التاريخ الأدبي (قصة غرامية لجي أتش ويلز)، والعلم (الجذور التي أفضت إلى القنبلة الذرية)، والهم البيئي والتاريخ العائلي والسيرة الذاتية التي تبلغ ذروتها بواقعة مشارفة الكاتب على الموت. وتكتب سيمور أن "في ’السؤال رقم 7‘ شبهاً واحداً في الأقل برواية هيرمن ميلفيل يتمثل في حرصها على أن تستعصي على التصنيف ونجاحها في ذلك".

مرحلة كوفيد

من جهة أخرى، كتب أليكس بريستن ("غارديان" في الـ27 من مايو (أيار) 2024) أنه "منذ الجملة الأولى في’السؤال رقم 7‘، وهو الكتاب الـ12 لفلاناغان، يبدو المثال الذي يحتذي به هذا الكتاب الاستثنائي واضحاً، وهو الكاتب جي دبليو زيبالد الحاضر في الحرب العالمية الثانية وأخلاقيات حملات القصف والتضفير ما بين التاريخ الشخصي والتاريخ السياسي، والمزج بين الحقيقة والذكرى فضلاً عن الماضي الحقيقي والخيالي في آنٍ واحد، وزيبالد حاضر أيضاً في تيارات أعمق داخل الكتاب، إذ نجد رجلاً في منتصف العمر، معزولاً بعض الشيء، لا يخلو من سخافة، يسعى إلى التصالح مع مكانه في العالم ويصارع بصورة خاصة حبه المعقد لأب تشكلت حياته بتجاربه في الحرب".

وليس أقدر من فلاناغان نفسه على إيضاح الإشارة إلى هذا الرجل المتعثر في التصالح مع العالم. ففي حوار مع موقع "بوكتشينو"، بدت محاورة فلاناغان حائرة أمام اتساع نطاق مواضيعه وتنافرها الظاهر، فسألته عن بذرة الكتاب الأولى وطريقة عمله فيه فقال:

 

"في الليل الطويل الذي عشناه في أعوام ’كوفيد‘، بدت الحياة لغالبيتنا معطلة... أدركت فجأة خلال ’كوفيد‘، ومن دون سابق إنذار، أنني كبرت، وأن العالم من حولي بات غريباً ومجهولاً. بدا وكأنني اجتزت مرآة وباتت العودة مستحيلة. أو أقول بطريقة أخرى إن العالم الذي كنت أفترض أنني أعيش فيه، بقيمه وحقائقه، بل وبفصول السنة فيه وبحيواناته وبطيوره، كل هذا العالم إما انتهى أو هو يتلاشى. أدركت أنني أعيش خريف الأشياء وأن العالم الذي عشت فيه من قبل قد ذهب بلا رجعة. وشعرت بظلَّي والديّ الراحلين قريبين فأردت أن أقبض عليهما وأستبقيهما على مقربة مني، ولم أعرف لذلك من طريقة إلا واحدة بالكلمات".

استهل مايكل ديردا استعراضه للرواية ("واشنطن بوست" الأربعاء الماضي) بقوله إن فلاناغان فاز قبل 10 أعوام بجائزة "مانبوكر" الدولية عن روايته التي تناول فيها قصة أسرى أستراليين في الحرب العالمية الثانية شاركوا في إقامة ما بات يُعرف لاحقاً بسكة حديد الموت بين تايلاند وبورما. كان والد فلاناغان أحد أولئك الأسرى، ونجا من معاملة قاسية على أيدي اليابانيين طوال ثلاث سنوات قضاها في إقامة ذلك الطريق، وفي العمل أيضاً بمناجم أوهاما للفحم في هونشو، فتركت معاناة سنوات الأسر الثلاث تلك أثراً عليه رافقه بقية حياته، إذ بات رجلاً قليل الكلام، قليل الاختلاط، ولكنه طيب، وورث عنه ابنه شيئاً من عمق تفكيره.

في أدبه وكتاباته غير الخيالية الغزيرة، يصارع فلاناغان بجرأة التاريخ الحديث وما فيه من تعقيدات اجتماعية وسياسية وأخلاقية. فعلى سبيل المثال، استكشف في "كتاب غولد للأسماك" (2001) الذي فاز بجائزة كتاب الكومنولث علاقة بين سجين أوروبي تحول إلى فنان وامرأة سوداء من السكان الأصليين في أرض فان ديمن [اسم تزمانيا حينذاك] في أوائل القرن الـ19. كما يشن فلاناغان في كتاباته الصحافية الأخيرة هجوماً مباشراً على نهب الشركات للعالم الطبيعي، ويتساءل ديردا محقاً "أي روائي كبير غيره يمكن أن ينشر مثلما نشر هو عام 2021 كتاباً بعنوان، "السامّ: الجانب العفن في صناعة سمك السلمون بتزمانيا؟".

فانتازيا فلسفية

غير أن فلاناغان في كتابه الأخير يقدم "ما يشبه فانتازيا فلسفية" فيها "نسيج شديد الأصالة من بضع سرديات مقالية عن العالم العجيب المحزن الذي نعيش فيه جميعاً". ووصف الروائي الأسترالي البارز بيتر كاري ضمن مقالته في صحيفة "سيدني مورننغ هيرالد" كتاب "السؤال رقم 7" بأنه "أغنية غرامية مؤثرة وعميقة يغنيها الكاتب لأبويه، وهو تنقيب عن أدلة جنائية وهو مرثية وهو اعتراف وهو أحجية تربط أجزاءها بين هيروشيما وأتش جي ويلز ومستعمرات الكائنات الفضائية المريخية في تزمانيا. بل إن فلاناغان يشطح في بعض الأحيان إلى شيء من الصوفية، فلعل في أستراليا شيئاً ما، قد يكون إرثاً خافتاً قديماً شديد الروحانية من سكانها الأصليين، هو الذي يثمر مثل تلك الأعمال الأصيلة".

يكتب فلاناغان، "في خريف عام 2012، خالفت عقلي، ولأسباب لم تكُن متعلقة كلها بالكتابة ـ كما كنت أقول. وليست الآن واضحة لي، زرت موقع معسكر أوهاما في اليابان الذي كان والدي معتقلاً فيه ذات يوم".

هكذا يستهل فلاناغان "السؤال رقم 7" بمحاورته لـ"ساتو"، الحارس المشرف على أسرى منجم هونسو في الحرب العالمية الثانية. "يبدو الرجل شيخاً طيباً، يعتني بابنة معوقة. ولكن فلاناغان يثير على الفور مسألة ماضيه وما نعتته حنة أرنت بـ’تفاهة الشر‘. يتساءل فلاناغان ’تراني كنت لأختلف عنه [لو كنت مكانه]؟ تراني كنت لأشترك أنا الآخر في ضرب الأسرى، حتى لو كنت غير راغب، تراني كنت أصدر أمراً لكي يتجمد رجل عارٍ حتى الموت وهو جاثٍ على ركبتيه بينما ينهمر الجليد، لأن ذلك هو المتوقع مني، ولأنه يصعب كثيراً قول لا؟‘".

قصف هيروشيما

وما ذلك بحسب ما يكتب مايكل ديردا، "غير أحد التعقيدات الأخلاقية الكثيرة التي يعالجها ’السؤال رقم 7‘. لقد نجا والد فلاناغان من محنته تلك لسبب واحد هو أن الولايات المتحدة قصفت هيروشيما. فلو كان الأميركيون غزوا اليابان بدلاً من ذلك، لقُتل الرجل على الفور أو استُعمل درعاً بشرياً. وإذاً فما كان فلاناغان نفسه ليولد لولا العمل الذي أدى إلى تبخُّر نحو 60 ألف مدني على الفور ثم ترك آخرين للموت البطيء. غير أن فلاناغان مقتنع أن قصف هيروشيما كان عملاً شنيعاً، عديم الأخلاق ويعتقد أيضاً بأن هذا العمل ما وقع إلا "بسبب كتاب".

تكتب سوزان غريميت في موقع كنيسة سان أندروز الأنغليكانية (الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) 2023) أن "كتاب فلاناغان الجديد تأمُّل فاتن في عمل أثر الفراشة على التاريخ، إذ يتعقب قصة حب بين الكاتب أتش جي ويلز والكاتبة ريبيكا ويست، أدت إلى أن يؤلف ويلز رواية ’العالم تحرر‘ التي ألهمت الفيزيائي ليو زيلارد بتصور تفاعل نووي متسلسل... مما أدى إلى اختراع قنبلة ذرية".

غير أن هذا الربط بين رواية ويلز الخيالية وإحدى أبشع مآسي الإنسانية ليس كل ما في الرواية من علاقة لتاريخ الأدب بالرواية، إذ تمضي سوزان غريميت قائلةً إن عنوان رواية فلاناغان محاكاة "لامتحان مدرسي وضعه أنطون تشيخوف في مقالة بعنوان ’أسئلة أستاذ رياضيات مجنون‘"، فكان ضمن الأسئلة الكثيرة الساخرة من طرائق التدريس سؤال نقله فلاناغان في روايته:

"الأربعاء في الـ17 من يونيو عام 1881، كان على قطار أن ينطلق من محطة أ في الثالثة صباحاً ليصل إلى محطة ب في الـ11 ليلاً، ولحظة أن كان القطار يتأهب للانطلاق، صدر أمر بأن يصل إلى محطة ب في السابعة مساء، فمن يدوم حبه أكثر، الرجل أم المرأة؟".

يكتب مايكل ديردا أن "فلاناغان يسترسل في تأملاته لسلطة للأدب غير المعهودة في العالم الواقعي" فينظر أول ما ينظر في أحجية تشيخوف التي يطلق عليها ’السؤال رقم 7‘ قائلاً إنها سؤال غير قابل للإجابة لكننا مع ذلك "لا بد من أن نستمر في طرحه، ولو من أجل أن نفهم أن الحياة لا يمكن أن تكون ثنائية، ولا يمكن اختزالها في شيفرة... وأن الحمقى وحدهم في قصص تشيخوف هم أصحاب الأجوبة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكتب ديردا أننا عند هذه النقطة لا نكون قد تجاوزنا الصفحة الـ25 من رواية "السؤال رقم 7" المؤلفة من 280 صفحة تنسج نسجاً جميلاً بين ذكريات الكاتب عن طفولته في عائلة كاثوليكية فقيرة وكبيرة في تزمانيا، وسرداً لاستلهام ليو زيلارد ـ أبي القنبلة الذرية ـ نواة بحوثه النووية من رواية ويلز التي طرح فيها رؤية لمستقبل الإنسانية إذ تقضي عليها قنبلة ذرية.

"ينتقل فلاناغان من هنا فوراً إلى سرد، فيه شيء من التخييل، للعلاقة الإيروتيكية بين ويلز والكاتبة ريبيكا ويست أثناء عمله على روايته كأنما يشير فلاناغان إلى أن غرامهما هو الذي سيؤدي إلى وفاة الآلاف وإمكان نهاية العالم".

"فقد كان زيلارد اليهودي المجري العبقري المنفي يخشى من أن يتوصل النازيون إلى قنبلة ذرية. ولكي يقاوم هذا الاحتمال المريع، حشد بقوة من خلال صداقته بألبرت أينشتاين من أجل إقامة ما أصبح مشروع مانهاتن، ثم أدرك ليزارد بعد ذلك جسامة ما أسهم في إيجاده. فكتب إلى الرئيس هاري ترومان لإقناعه بأن محض استعراض قوة القنبلة الذرية على جزيرة ما غير مأهولة بالسكان سيكون كافياً لإقناع اليابانيين بالاستسلام، لكن وزير الخارجية جيمس بيرنز لم يسلم رسالة ليزارد قط".

"يجد فلاناغان أيضاً سابقة لمأساة هيروشيما تتمثل في الإبادة الجماعية لسكان تزمانيا الأصليين. فالحكومة البريطانية لم تمحُ حضارة عن بكرة أبيها فحسب، بل محت أفقاً روحياً مقدساً كذلك. لماذا؟ ’لأن أرض تزمانيا المعشبة كانت تصلح مكاناً مثالياً لرعي الماشية ولأن الصوف كان سلعة أساسية في ثورة بريطانيا الصناعية‘".

"ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الدمار. في طفولة فلاناغان كانت الغابات المطيرة قد ’امتلأت فعلاً بأورام مراعي الماشية ومزارع الصنوبر... والطرق غير المفضية إلى مكان والمنتجعات السياحية والمناجم المهجورة‘ وسيعقب ذلك مستقبل أسوأ حتى ’لا يبقى غير صحراء من حصى رطبة تتناثر فيها حيضان المياه الميتة وأكوام الرماد وسدود مخلفات المناجم وسيقان الشجر المتفحمة وحفر التعدين السطحي فاغرة أفواهها والروافع الصدئة‘ ولا شيء إلا ’حطام تنعكس صوره على برك سامة تتسرب منها المعادن الثقيلة والأحماض والسموم‘".

التاريخي والسياسي

غير أن فلاناغان لا يسمح للتاريخ السياسي أن يطغى على التاريخ الشخصي، وواضح أنه لا يسمح أيضاً بالعكس. وإنما يصب كلٌّ في الآخر أو ينطلق منه أو يرفده أو يلقي ضوءاً عليه، فضلاً عن أن الكتاب على حد قول أليكس بريستن يمثل "قصة محاولات فلاناغان لفهم أبويه، وكلاهما الآن مات، وفهْم حياته هو نفسه من خلال ذلك".

يكتب ديردا أن فلاناغان يحاول انتشال طفولته من النسيان، فقد "كانت زمن الأعاجيب والمعجزات، ولم يبقَ من دليل على أنها كانت قائمة في يوم من الأيام".

يتذكر فلاناغان والدته مثلاً وهي تضربه على مؤخرته بملعقة المربى الخشبية الضخمة، فيعلق ديردا متذكراً مقولة لأمه لا يمكن أن يفهمها الآن أبناء هذا الزمن "إسمع كلامي وإلا لاحقتك بالملعقة".

وعلى رغم هيمنة هيروشيما وأمثالها من المآسي على الكتاب، يلتفت فلاناغان إلى لحظات من قبيل زيارته "ذات مرة لصديق في بيته، إذ تناول والده المتعب السكران آلة الترومبيت، وأخذ يعزف". يكتب فلاناغان أن "عمراً كاملاً قضيته أنصت للموسيقى منذ ذلك الحين لم يكُن بالنسبة لي غير محاولات متكررة ومضنية لاقتناص تلك اللحظات القديمة من السعادة التي فتنني فيها حفار مناجم سكران حينما عزف على الترومبيت بعض المعجزات الصافية المبهجة التي نفذت إلى العالم الجريح من حولها وارتقت به".

يكتب ديردا أن "فلاناغان ينهي روايته، متعددة الطبقات، بأن يستعيد، بتفصيل مريع، حادثة شارف فيها على الموت حينما كان في الـ21 من العمر، إذ غرق به قارب صغير في نهر فرانكلين، ثم لم يعرف بعد ذلك قط معرفة اليقين، هل مات حقاً في تلك اللحظات أو لم يمُت".

وأخيراً ينقل ديردا عن الكاتب الأسترالي بيتر كاري قوله عن "السؤال رقم 7"، "لا يخفى أن بيننا جميعاً تنافساً، ومن ثم فليس من السهل عليَّ أن أقولها، ولكن ’السؤال رقم 7‘ قد يكون أهم عمل فني أسترالي في الأعوام المئة الأخيرة". ويعلق ديردا على هذا بقوله إن "هذه قد تبدو مبالغة مفرطة، لكن الحقيقة أنها محض مبالغة".

العنوان: Question 7

تأليف: Richard Flanagan

الناشر: Knopf

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة