Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكورية جونغ يو جونغ تسبر بالجريمة أغوار النفس الإنسانية

"سبع سنوات في الظلام" رواية تفضح التفكك الأسري والعنف المنزلي

لوحة للرسام سالم الشماع (صفحة فيسبوك)

ملخص

استهلت الكاتبة الكورية الجنوبية جونغ يو جونغ مسار حياتها المهنية في حقل التمريض، ثم ما لبثت أن تحولت إلى الكتابة الإبداعية وباتت من أهم رواد أدب الجريمة في كوريا الجنوبية، وترجمت أعمالها إلى لغات عديدة. وصنفت مجلة "دي تسايت" الألمانية، عام 2015 روايتها "سبع سنوات في الظلام"، التي ترجمت إلى أكثر من 20 لغة، ضمن أجمل 10 روايات في أدب الجريمة على مستوى العالم. أخيراً صدرت ترجمة عربية لهذه الرواية عن دار "العربي" في القاهرة، وقد أنجزها محمد نجيب.

لم تكن الجريمة في رواية "سبع سنوات في الظلام" سوى وسيلة سبرت الكاتبة من خلالها، أغوار النفس الإنسانية. وبلغت عبرها تلك المنطقة الرمادية المحيرة، التي يختلط فيها الخطأ بالصواب، الأنانية بالتضحية، الإثم بمحاولة التطهر، ليثير هذا التداخل لدى القارئ مشاعر مختلطة، تراوح ما بين الإدانة حيناً، والتعاطف أحياناً. فالبطل المسالم الذي لاذ بمعاقرة الخمر، بعد إصابته، وانهيار مستقبله كلاعب بيسبول، يصبح قاتلاً بالصدفة، وتفتح جريمته باباً تنفذ منه أسوأ الشرور.

وزعت الكاتبة مسؤولية قيادة السرد بين "سون"، أحد شخوصها المحورية، والراوي العليم، مزاوجة بذلك بين ضمير المتكلم وضمير الغائب. كما منحت مساحات أخرى لبقية الشخوص كي تتحدث بصوتها عبر الديالوغ المسرحي وأيضاً عبر الرسائل. وكان التنوع ذاته سمة لتعاطيها مع الزمن، إذ زاوجت بين السرد الأفقي والارتداد العكسي باستخدام تقنية الفلاش باك، التي قررت أن تبدأ بها رحلتها السردية، ليستدعي بطلها "سون" لحظات صادمة عاشها قبل سبع سنوات من اللحظة الراهنة للسرد، ويستعيد مشهداً ملتبساً، فيه أم ميتة، وأب مقبوض عليه، وقرية غارقة ومدمرة، وزحام كبير من سيارات الشرطة والإطفاء. وعبر هذه البداية المحفوفة بالصدمة والضبابية والغموض، دفعت جونج بالتشويق، الذي استمر حضوره رفقة الإثارة على طول خط السرد. وعلى رغم أن فضاءاتها المكانية "قرية سير يونج، والمنارة" ليست سوى فضاءات متخيلة، فإن الأحداث المتواترة والسريعة لحبكتها اتسمت بالواقعية، من دون أن تتقيد بحدود البيئة المحلية، وإنما امتدت لقضايا تؤرق الإنسان في كل زمان ومكان.

حرصت الكاتبة على نكء جراح الطفولة، التي لا ينفك ميراثها يقرر مصائر ويحدد وجهات. ورصدت هشاشة النفس الإنسانية وضعفها ونقائصها، كما تطرقت إلى قضايا اجتماعية شائكة، مثل العنف المنزلي والتفكك الأسري، وانتهاك خصوصية الفرد وتخريب حياته من قبل وسائل الإعلام: "رجل ضخم البنيان، كان يحطم الأثاث، ويضرب زوجته وأطفاله في كل مرة يثمل فيها... مشاهد عنف ظلت عالقة في رأسه"، ص: 109.

الجاني والضحية

على رغم مسافات التقابل التي تفصل بين الجاني والضحية، أبرزت الكاتبة تماثلاً بين "هيونسو" والطفلة "سير يونج"، التي صدمها بسيارته وهو تحت تأثير الكحول، إذ إنه تعرض في طفولته مثلها للتعنيف الجسدي والنفسي من قبل الأب، ومثلها سعى إلى النجاة من هذا العنف وإن تباينت وسائلهما. وربما لو لم تدفع الفتاة حياتها في حادثة السيارة لحظيت بشخصية تشبه شخصية قاتلها، واتصفت مثله بالجبن والهشاشة والسلبية كنتاج لذلك العنف. ولم يقتصر التماثل على الجاني والضحية، إذ بدا مرة أخرى في المحيط العائلي المفكك، الذي عاشت فيه كل الشخوص، في كل أزمنة السرد، والذي لم ينجُ منه أي من "سير يونج" وأمها، ولا "هيونسو" ولا حتى زوجته "إيونجو". كذلك كان الفقر وصعوبة العيش مصيراً تشاركته غالب الشخوص. وبدا التماثل مرة أخرى في المراحل العمرية لـ"هيونسو"، الذي عاش في كل مرحلة منها واقعاً ضيقاً، بداية من طفولته التي خنقتها مسؤوليات لا تناسب عمره، وزواجه الذي ضاق بفعل غياب الحب والاحتواء، وسيارته الضيقة التي لم تتناسب مع حجمه الضخم، وكذا غرفة السجن، ثم التابوت الذي حوى جثمانه بعد إعدامه. وكما أبرزت الكاتبة التماثل بين شخوصها رصدت مساحات أخرى من التقابل، بدت في غير موضع من السرد، بين طفولة "إيونجو" البائسة، ورغد عاشت فيه صديقتها "هيون"، بين ما أراده "هيونسو" من حياة هانئة لابنه، وما سببه له من خزي ظل يلاحقه، بين سعي "هيونسو" الحثيث إلى حماية ابنه، وممارسة "أوه يونجي" العنف تجاه ابنته "سير يونج"، بين واقع خلقه "هيونسو" لابنه، خال من العنف، وواقع موسوم به عاش هو نفسه فيه طفولته، بين حرية الغواص في عتمة البحر وأسره في مجتمع يكبله بالقيود.

بذور الصراع

مهدت الكاتبة عبر مساحات التقابل بين شخوصها للصراعات التي نشبت في ما بينهم، فالتقابل بين "إيونجو الطموحة"، الجافة، والمتطلعة إلى طبقة اجتماعية أعلى، وزوجها الوديع، السلبي، مدمن الكحول، كان مسؤولاً عن نشوب الصراع بينهما، كذلك كان التقابل بين "أوه يونجي" المعتل اجتماعياً ونفسياً، وزوجته، دافعاً إلى صراعهما وهرب الزوجة. أما التقابل بين "أوه يونجي" الساعي إلى الانتقام، و"هيونسو" المأزوم بشعور بالذنب، فكان دافعاً إلى الصراع الرئيس في النص، الذي كان بدوره مسؤولاً عن تحريك وتطور الأحداث. وعلى المستوى الداخلي تسببت التناقضات المستعرة داخل النفس الواحدة في حدوث صراع أشد وطأة، لا سيما لدى "هيونسو"، الذي انقسم - بعد الحادثة - بين شعور عميق بالذنب والندم وإعلاء مصلحته الذاتية، ومحاولة التستر على جريمته وإنكارها. وكانت كل تلك الصراعات، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي مقدمة لعديد من التحولات، التي لحقت بالشخوص والأحداث. فبينما تحولت "هايونج" من الخنوع لسيطرة زوجها "أوه يونجي" وتعنيفه إلى التمرد عليه، وإعلان رغبتها في الطلاق، تحول "هيونسو" من مسالم إلى عنيف، ومن بريء إلى قاتل. وتحولت حياة ابنه "سون" من الاستقرار إلى الفوضى، وبات الطفل الذي اجتهد أبوه في حمايته مطارداً ومنبوذاً من الجميع: "انتقلت من مدرسة إلى أخرى تسع مرات. اكتشفوا هويتي بالطريقة نفسها في كل مرة، إذ يرسل أحدهم نسخة من مجلة (صنداي)، والمقال حول شجاري، إلى الجميع في المدرسة"، ص: 21.

معارف وموروث

استدعت الكاتبة بعض موروثات الثقافة الشعبية الكورية ذات الطابع الأسطوري، ووظفتها في خدمة النمو الدرامي للأحداث، مثل أسطورة إلقاء حذاء شخص ما في بئر، وما يترتب عليه من سقوط صاحب الحذاء في البئر نفسها. كما استدعت بعض الطقوس الجنائزية، التي تقام لإخراج روح الميت غرقاً من البحيرة التي غرق فيها. وفي مقابل ما استدعته من موروث يكتسي بالخرافة، مررت عديداً من الحمولات المعرفية، استقت الطبية منها من خبرة سابقة في العمل بالتمريض، لا سيما تلك التي تتصل ببعض الأمراض، مثل الالتهاب الدماغي وعدوى الجروح واضطراب النوم. كما مررت معارف حول الغوص "قانون مارتيني" وحول السدود ومعارف أخرى نفسية، عن تحويل اللوم ومتلازمة الجرم السماوي "رهاب الخلاء" والنبوءة الذاتية التحقق، التي تتصل بشدة الإيمان بوهم ما حتى يتحقق: "رأى الطبيب أن مشكلات هيونسو مع ذراعه ما هي إلا مضاعفات جسدية لتوتر أعصابه، إن الضغط الذهني الذي تفرضه رغبته في الالتحاق بدوري المحترفين أصابه بمرض وهمي"، ص: 154.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وانساب الخطاب المعرفي كجزء أصيل من السرد، يتصل بالحدث ولا ينفصل عنه، بغير مبالغة، ومن دون إقحام مفتعل. وكما استعانت الكاتبة بالخطاب المعرفي استعانت بتقنيات مسرحية وأخرى سينمائية، واستفادت منها في رسم وتصوير الأحداث، على نحو يشحذ التوتر ويعزز الإثارة ويزيد من الإيهام بالحدوث: "صعدت بأسرع ما يمكنني. استنفدت الهواء كله على مبعدة 15 متراً من السطح، خلعت حزام الأوزان تأهباً لأول محاولة في حياتي للقيام بصعود الطوارئ. انطلقت كالطوربيد إلى أعلى مخترقاً الموج"، ص: 224.

اعتنت الكاتبة ببلوغ أعماق النفس المظلمة، وتراوحها بين الخير والشر، كقضية رئيسة للنص. واتسق مع هذه الغاية حضور الحلم بكثافة في أنحاء متفرقة من النسيج، فاستجلت عبره اضطرابات الشخوص ووحدة أزماتها الداخلية، وجعلت منها وسيلة لتجسيد وطأة الشعور بالذنب، وتفريغ ما يترتب عليه من كبت شعوري. واستفادت منه أيضاً في التمهيد للاحق من الأحداث، والكشف عن الحقائق والأسرار المخبوءة، فكان حلم "سون" بتنفيذ حكم الإعدام بأبيه تفريغاً لغضبه، نتيجة ما تعرض له من نبذ وازدراء بسبب انتمائه لأب قاتل. وكان حلم "هيونسو" بحقول الذرة الرفيعة وبالبئر انعكاساً لشعوره بالذنب، ولوم ذاته على موت أبيه وعلى مقتل الفتاة التي صدمتها سيارته. وبين كل تلك المحاولات لاستجلاء الضعف الإنساني وهشاشة النفس، مررت الكاتبة رؤى وفلسفات ضمنية حول الإرادة الحرة للإنسان، وكيف يمكن من يؤمن بمستقبله التحكم في حياته والسيطرة عليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة