Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليلة مرتجلة" مسرحية ممثلين سوريين يعانون البطالة

المخرج يزن الداهوك اقتبس لعبة المسرح داخل المسرح كما رسخها الإيطالي بيرانديلو

من مسرحية "ليلة مرتجلة" السورية (خدمة الفرقة)

ملخص

ليست المرة الأولى التي يستند فيها فنان شاب إلى أسلوب الكاتب المسرحي الإيطالي الكبير لويجي بيرندلو (1867- 1936) لصوغ تجربته الفنية، فالمخرج السوري يزن الداهوك كان قد خبر نصوص الكاتب الإيطالي من كثب في سنوات دراسته النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية. من هنا تأتي مسرحية الداهوك الجديدة "ليلة مرتجلة".

عرف المخرج السوري يزن الداهوك بحساسية الكاتب، أن تقنية "المسرح داخل المسرح" التي أسسها الكاتب المسرحي الإيطالي الكبير لويجي بيرندلو (1867- 1936) يمكن تطويعها وفقاً للظرف السوري للحديث عن هموم الممثلين الشباب في بلاده، والعمل على كتابة نص، ومن ثم الارتجال عليه جماعياً، من دون ترك مسافة واضحة بين الممثلين وشخصياتهم.

يقدم يزن الداهوك عرضه الجديد "ليلة مرتجلة" كأنضج تجاربه بعد مسرحيتيه "الخزان" و"كومبارس" المقتبستين عن نصوص معربة، ليحاكي مسرحاً أسسه بيرندلو (نوبل 1934) بالأعصاب والتأمل العميق لطبيعة فن المسرح، وخاض من أجله معارك لا يزال يتردد صداها حتى الآن مع الجمهور والنقاد والممثلين على حد سواء منذ عشرينيات القرن الماضي. يذكرنا عنوان العرض السوري مباشرة برائعة الكاتب الإيطالي "الليلة نرتجل" التي كتبها لويجي عام 1929، وهي كما بات معروفاً واحدة من ثلاثية "المسرح داخل المسرح" التي أبدعها صاحب "وداعاً لينورا" إلى جانب رائعتيه "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" و"كل شيخ له طريقة"، وفيها جميعها، على تباين أحداثها ومعالجات كل نص منها، يجري فيها حوار بين الشخصيات المسرحية والممثلين، فتتشبث الشخصيات بالصدق الفني، وترفض كل ما يهرف به الممثلون والمخرج من كلام عن شروط وتقاليد فنية لفن المسرح.

يسوق مخرج "ليلة مرتجلة" هذا الجدل الفني إلى الواجهة مجدداً بين ستة من الأصدقاء يأتون لقضاء سهرة في بيت أحدهم، ونعرف أن جميعهم من خريجي دفعة واحدة في قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، فمنهم من حالفه الحظ بعد التخرج بالعمل في مسلسلات التلفزيون، فأصاب جانباً من الشهرة والمال، ومنهم من يعتقد أن الفرصة لم تأته بعد بسبب تحفظه على الطرح الفني الرخيص في مسلسلات هذه الأيام، ففضل العمل على مشروعه المسرحي بصمت بعيداً من الأضواء وأمراض المشاهير ونفاقهم الاجتماعي.

قصص دفينة

ليست القصة بهذه البساطة، فمع المضي قدماً في زمن العرض (ساعتان وربع) تتكشف علاقات أصدقاء الدفعة، ويبدأ كل واحد منهم في نبش قصة زميله ودوافعه الدفينة كلاً بحسب قناعاته ورؤيته للحياة والفن. يبدأ العرض بخطبة يطلقها قيس (مازن الحلبي) الشاب الذي يرتدي لباس دمية (ميكي ماوس) ويعمل كإعلان بشري متنقل في شوارع دمشق، فتبدو خطبته فيها كثير من المرارة عن شاب جاهز لبيع فكرة مقابل مبلغ 5 آلاف ليرة سورية (ما يعادل ثلث دولار أميركي). بعدها نطل على بيت صغير تملأ جدرانه المتهالكة ملصقات إعلانية لعروض مسرحية، لعل أبرزها كان الملصق الإعلاني الخاص بمسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، والتي تقصد مخرج العرض على ما يبدو وضعه كتحية لمسرح بيرندلو من دون أن يصرح بأن عرضه يستلهم أسلوب الأديب الإيطالي وطريقة معالجته الدرامية.

بكل الأحوال لا يمر وقت طويل حتى يتقاطر أعضاء الشلة إلى المكان واحداً تلو الآخر، ويكون الدخول الأول لعدنان (براء بدوي) الشاب الذي يطمح أن يقدم فرصة لكل من قيس وأنس (عمر نور الدين) للعمل معه في أداء وتأليف لوحات درامية سيتم عرضها على إحدى منصات "فيسبوك". وهي لوحات كما سنعرف تعتمد حبكتها الساذجة على إثارة الغرائز وسفاح القربى والخيانات الزوجية. بالطبع يرفض كل من قيس وأنس عرض صديقهما اللحوح رغم المبالغ السخية التي سيتقاضياها لقاء عملهما معه، ويسخران على طريقتهما من إذعانه لشهوة المال مقابل تقديم أعمال فنية رخيصة تعمل على تخريب الذائقة وإفساد الأجيال. مما يدفع عدنان إلى مواجهة حادة مع صديقيه، ولكن هذا الجدل لا يلبث أن يهدأ ويفتر مع وصول سلام (شيراز لوبيه) إلى المكان، لتخبرهم أنها وقعت أخيراً عقدها الأول لأداء دور البطولة في أحد المسلسلات التلفزيونية.

ويمضي العرض (مسرح فواز الساجر- المعهد العالي للفنون المسرحية) بعدها مع وصول كل من وائل (فادي حواشي) وليلى (ميرنا المير) إلى سهرة (الأصدقاء- الأعداء)، ونعرف أن الأول قد أصاب شهرة ومالاً من عمله في التلفزيون، ويعرف من أين تؤكل الكتف، فيما تتمتع الثانية بعلاقات اجتماعية واسعة مع شبكة من مخرجين ومديري مهرجانات دولية. سينفجر المشهد مع محاولة ليلى تزكية أنس ليشارك بعرضه في مهرجان دولي للمسرح، وستتكشف قصة حب قديمة بين كل من أنس وليلى، لكن الأخيرة صارت حبيبة لوائل النجم الصاعد بقوة، وهذا ما لا يتقبله أنس بسهولة، بل سيؤلب قلب العاشق العاطل عن العمل نحو غريمه، ويقلب الأدوار مجدداً، مما يضطر كلاً من وائل وسلام للخروج إلى سطوح المنزل لاستنشاق بعض الهواء النظيف، وهناك تتكشف حقيقة جديدة حول العقد الذي وقعته سلام مع مخرج المسلسل، فسرعان ما سنعرف أن هذا العقد كان بمثابة صفقة بين مخرج المسلسل ووائل الذي يبدو أنه قدم صديقته على طبق من ذهب لولي نعمته وواهب الفرص التلفزيونية، فقد قام المخرج الكبير باغتصاب سلام في أثناء تجربة الأداء التي خضعت لها في مكتبه، وكان ثمن ذلك حصولها على دور في المسلسل الجديد، فيما انتزع وائل فرصته على هذه "الخدمة" بتوقيعه عقداً هو الآخر لدور البطولة في المسلسل ذاته.

قصة حب

في هذه الأجواء المشحونة يقلب كل واحد من الممثلين الطاولة على الآخر، وتبدو ذرائع كل شخصية مفهومة ومسوغة لجهة احتكارها للحقيقة، فلا تبدو الأمور كما هي من وجهة نظر واحدة، بل من وجهة نظر ست شخصيات كل منها تدعي أنها على حق، وهذا ما ينتج من تناول الداهوك لقصص ستة من الممثلين الشباب كموضوع لعرضه، وهذا ما يذكر أيضاً بمشكلة الحقيقة وهي المحور الأساس الذي ارتكز عليه لويجي بيرندلو في أعماله، وعالجها من أكثر من زاوية في أكثر من نص من نصوصه، فكيف يمكن أن نفرق بين الوهم والواقع مع ممثلين محترفين لا تعوزهم مهارة الأداء؟ كيف يمكن أن نتعاطف مع شخصيات هم في الأصل ممثلون في الواقع وعلى المسرح، فمؤدو العرض هنا هم فعلاً من خريجي قسم التمثيل في المعهد، وهم أيضاً يقومون بأداء شخصياتهم في الواقع وعلى الخشبة، ويعكسون بتلقائية ومن دون افتعال كل شجونهم وآلامهم ومعاناتهم البطالة التي يرزحون تحتها.

هذه اللعبة الشيطانية ذهبت إلى ثنائية الوجه والقناع في مسرح بيرندلو، فالحقيقي هنا هو الشخصيات لا الممثلين، وأبطال "ليلة مرتجلة" أقرب إلى أبطال مسرحية "الليلة نرتجل"، إذ يجري الحوار على خشبة المسرح في النص الإيطالي بين الشخصيات من جانب، وهم أعضاء فرقة تمثيل، وبين المخرج من جانب آخر، فترفض الشخصيات كل ما لجأ إليه المخرج من تجهيزات مسرحية يستجدي بها التأثير في المتفرج، بل تذهب شخصيات بيرندلو إلى حد رفض المخرج نفسه، كي تقوم بأدوارها في صدق وترتجل الأدوار ارتجالاً لا تكلف فيه، وهكذا يصبح من الطبيعي أن تكون الشخصيات الآتية من عالم الخيال أكثر صدقية من الممثلين القادمين من عالم الواقع، مما يبرر أن تكون شخصية مثل هاملت مثلاً أكثر خلوداً من أي ممثل قام بأدائها.

في النسخة السورية من هذا الفهم لثنائية الممثل والشخصية، لا شك أننا كنا أمام أداء حار وعفوي لممثلي العرض، إلا أن ذلك لم يمنع من انزلاق هذا الأداء إلى الميلودرامية (الإغراق في المأسوية) في مواضع كثيرة من العرض، فيما تبين أن خريجي قسم التمثيل في المسرح يندبون حظوظهم لأنهم لا يجدون فرصة في أعمال التلفزيون، إذ نادراً ما نرى أحداً منهم يقدم عرضاً مسرحياً أو يشارك فيه إلا بعد حصوله على منحة مالية مجزية، في وقت يكون العمل في المسلسلات هو أفق خريجي التمثيل، ومن أجل ذلك يتم التضحية بالصداقات والحب والقيم المثلى. هذا في الأقل ما عكسه "ليلة مرتجلة" في معالجة أحداثه وشخصياته، في وقت يتساءل المرء لماذا يدرس هؤلاء المسرح فيما أعينهم وقلوبهم وعقولهم خالصة مخلصة للتلفزيون؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالنظر إلى النقاش اللافت الذي أثاره يزن داهوك في تجربته الجديدة، يمكن ملاحظة عدم تمكنه من السيطرة التامة على فضاء العرض، وهذا ما بدا واضحاً في التشويش الناجم عن تقديم الفرجة وفق مستويين من الديكور (سينوغرافيا محمد الزهيري)، إذ إن سطوح المنزل الذي تابع الجمهور عبره جانب من الأحداث، لم يتم عزله بالإضاءة (محمد نور درا) في أوقات الحوار بين كل من سلام ووائل عن المستوى السفلي (البيت)، بل ظل مرئياً للجمهور، في وقت لم يكن هناك من مبرر درامي لظهور الممثلين عندما لا يكون لهم مهمة يقومون بها، بل كان الحدث يدور في المستوى العلوي (السطوح)، وهذا ما كان يحتاج إلى حل إخراجي يفصل بين المستويين، ويركز على المستوى التي تدور فيه الأحداث، لا سيما في ذروة معرفة سلام عبر مكالمة هاتفية لوائل، بأنها كانت ضحية ألاعيبه، وهو من قدمها للمخرج التلفزيوني لقمة سائغة، مما اضطر الممثلين في المستوى السفلي لتمرير الوقت بقيامهم بأفعال ثانوية تبرر وجودهم مرئيين في فضاء اللعب دونما فعل محدد يقومون به، فيما الحدث الأساسي كان وقتها في المستوى الأعلى من المسرح.

اتكأ "ليلة مرتجلة" على ديكور واقعي، بل يمكن القول إن الداهوك اعتمد على حذافير المكان الواقعي، من جدران ومطبخ وحمام وبار وطاولة وكراسي وأبواب وخزانات ومغسلة، وهذا خيار فني يمكن تفهمه، لكن في المقابل يمكن ملاحظة فترات من الفتور في الإيقاع والاستهلال الطويل للنفاذ إلى طبيعة الشخصيات وماضيها، والتعويل أكثر فأكثر على سيل من الحكي والتداعيات النفسية التي بدت في العرض أقرب إلى انهيارات عصبية منها إلى منعطفات في تاريخ الشخصيات الست، مما جعل "ليلة مرتجلة" يستطيل نحو تقليد الزمن الواقعي حرفياً، فيما تراجع الزمن الفني لمصلحة الاحتفاظ بحيثيات وأفعال يقوم بها أشخاص عاديون في الحياة الواقعية لا شخصيات تؤدي أدواراً على خشبة مسرح، فمن غير الجائز هنا أن تقوم الشخصيات بعاداتها اليومية من مأكل ومشرب وتنظيف ولجوء إلى دورة المياه من دون طائل يذكر، ومن غير الانتباه أن الزمن الفني ليس زمناً واقعياً صرفاً، حتى لو كان الخيار الفني يتبع أسلوب مدرسة واقعية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة