ملخص
أربع مسرحيات قصيرة تقاطعت قصص شخصياتها حول الحرب، وما وصل إليه الإنسان السوري من حال اللامبالاة إزاء كل ما يحدث حوله. وعلى وقع ضربات إسرائيلية متصاعدة هنا وهناك في عديد من أرجاء البلاد، آثر الفنان سمير عثمان الركون إلى الخشبة كخلاص من أجواء القصف، وإدارة ثمانية من الممثلين في عرضه الجديد الذي حمل عنوان "لقاءات".
على مدى ساعة ونصف الساعة، وهو زمن مسرحية "لقاءات" (مدرسة الفن المسرحي- جرمانا) كان الجمهور على موعد مع شخصيات كتبت نصها وفق تقنية الارتجال الجماعي، ومضت في تصاعد درامي لافت نحو تمرير مقولاتها الجريئة بعيداً من المباشرة الفنية.
يبدأ العرض مع اللقاء الأول "طعام، صلاة، حب"، وهو العنوان نفسه لرواية الكاتبة الأميركية إليزابيث جيلبرت، إذ تجمع الصدفة كلاً من كوثر (رغد عزقول) والأستاذ شفيق (هازار أحمد) عند بسطة لبيع الكتب المستعملة، ليبدأ التعارف بين الرجل والمرأة من خلال تبادل بعض الآراء عن روايات كان قد قرأها كل منهما. ومع أن النقاش يبدو هادئاً عن روايات بعينها، إلا أن هذا لن يمنع وقوع الصدام بين الرجل الذي نكتشف أنه تعرض لخديعة من زوجته التي تركت البيت وهربت مع عشيقها إلى ألمانيا، مخلفة وراءها طفلة صغيرة لتبقى في رعاية الأب المغدور. ونعرف أن المرأة هي أيضاً كانت ضحية زوجها الذي طلقها بعدما استمالته والدته لتزويجه من ابنة أختها تحت ذريعة أن كوثر لم تنجب له الصبي الموعود.
هذا المآل يوضح نفور مدرس المعلوماتية من النساء، وغضبه على شخصية "آنا كارنينا" في رواية تولستوي الشهيرة، فهو يعتقد أنها خانت زوجها وتستحق المصير الذي لقيته برمي جسدها تحت عجلات القطار. وهذا ربما ما دفعه إلى النقمة على رواية "طعام، صلاة، حب"، وروايات الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي والأديبة التركية إليف شافاق، إذ يعتقد شفيق أن هذه الروايات النسوية ما هي سوى نوع من تحريض النساء على أزواجهن، وحثهن على المضي في طريق الضلال والتهتك الأخلاقي. وهذا ما يدفع كوثر إلى الدفاع عن شخصيات نسائية في تلك الأعمال الأدبية من مثل "ذاكرة الجسد" و"الأسود يليق بك" وسواها من الروايات التي كانت السيدة قد قرأتها وأولعت بمآلات شخصياتها. ينتهي اللقاء الأول من العرض بهرب الرجل من أسئلة المرأة الغاضبة تحت ذريعة اللحاق بموعد الحافلة التي ينتظرها.
"منصة" هو عنوان اللقاء الثاني في العرض السوري، ويتناول حكاية شابين تخرجا للتو في كلية الإعلام. يدور حوار بين كل من ريان (ميخائيل مخول) وإيهاب (محمد علي الشربجي) حول تصميم منصة على وسائل التواصل الاجتماعي يستطيعان عبرها أن يبثا حلقات برنامج حواري مع شخصيات ثقافية. الاقتراح الذي يقدمه ريان في البداية لا يلبث أن يصطدم بانتقادات حادة من صديقه إيهاب، فالخطاب التقليدي الذي يتبناه الأول لا يمكن أن يتماشى مع روح العصر وزمن (التريند)، مما يدفع الثاني إلى تقديم مقترحه عن برنامج منوعات خفيف يوظف فيه ريان مهاراته في تقليد صديقات والدته، وتقديم وجبة من النكات والقفشات الساخرة، وفعلاً يبدأ كل من الشابين في التدرب على حلقة من حلقات البرنامج، ويصور إيهاب ريان في أثناء ذلك، لكن سرعان ما يتوقف الأخير عن تقليد النساء، ويكتشف أن لا طائل من هذه المحاولات الفاشلة، ويخلص الشابان في نهاية المطاف إلى أن لا أفق يرجى إلا في الهجرة أو الانتحار.
تصاعد درامي
ويمضي عرض "لقاءات" من ثم في تصاعد درامي مع اللقاء الثالث الذي حمل عنوان "فلفل" أو "o c"، وفي هذه اللوحة نتعرف إلى شخصية نزار العبدالله (إسماعيل هابيل) الشاب الذي أنهى للتو سنوات خدمته الإلزامية، ويحلم بالعودة إلى قريته، إلا أنه وفي طريق الذهاب إلى محطة انطلاق الحافلات سيصادف نور (كاترين البشارة) الفتاة ذات النزعة النسوية الحادة إزاء الرجال، التي سترشق نزار بمحلول الفلفل الحارق على وجهه وعينيه ظناً منها أنه يحاول التحرش بها، في وقت أراد أن يسدي لها معروفاً ويساعدها في حمل حقيبة سفرها. هذه الحادثة ستؤدي هي الأخرى إلى مكاشفات عميقة بين عالم الريف وعالم المدينة، وما يعتور هذين العالمين من تناقضات ومفارقات حادة تجعل اللقاء شبه مستحيل بين مهندسة عمارة تعتقد أن كل ما يحدث في البلاد هو بسبب الخلل الفادح في تخطيط المدن، وترك أكثر من 80 في المئة من السوريين يعيشون في عشوائيات وأحزمة فقر حول المدن الكبرى. هذه الذريعة لتصرف الشابة المرتابة من الرجال لا يتفهمها الشاب الآتي من عمق الريف السوري البعيد، الذي لا يزال يعتقد سكانه أن مساعدة الآخرين ولا سيما المرأة واجب على كل الرجال.
ينتهي اللقاء الأول بنوع من المصالحة التي يشوبها إذعان الشاب الريفي لاعتذار الفتاة، وتعاطفها مع طبيعة الرجل الريفي البسيط في عالم المدينة المتوحشة، فتساعد نور نزار وتقدم مرطبات البشرة والكريمات لمعالجة وجه الشاب المغدور، مما يفتح من جديد مساحة البوح بين الطرفين، ويجعل الشخصيتين تقدمان اعترافات صادمة عن الحياة في مدينة مثل دمشق صارت تشكو من انعدام الأمان والثقة بالآخر، وفقد أناسها التعاطف مع الغريب تحت طائلة الحروب المتناسلة في المنطقة من حروب متجددة لم تبق مكاناً لإنسانية الإنسان ومكانته، ليمسي الجميع في حفلة الجنون هذه ضحايا يصارعون من أجل البقاء ولو على حساب الآخر.
في اللوحة الأخيرة في "لقاءات" نذهب إلى مجابهة من نوع مختلف، تدور بين كل من المغتربة إلين (رنيم علي) وعمها منير (ميلاد السهوي) الرجل الدمشقي التقليدي الذي يجد نفسه في ورطة بعد عودة ابنة أخيه من لندن لتبحث عن جذورها الدمشقية، وذلك بعد أن تفقد الفتاة والديها، وتجد أن مدينة الضباب سلبتها كل شيء حقيقي، بما فيه دفء العائلة التي تفتقدها هناك، لكن الفتاة الشابة ستلقى انتقادات حادة من عمها، إذ إن سلوكها لا ينسجم مع تقاليد البيئة الشامية وأعرافها، سواء في لباسها المتحرر أو حتى في خروجها إلى النزهات مع شبان من عمرها. هي الفتاة التي عادت إلى موطنها الأم بذهنية السائح الذي يجد في مقام النبي هابيل عند سفح قاسيون معلماً سياحياً أسطورياً، مع أنه هو ذاته مهد الجريمة الأولى في التاريخ كما يعتقد الدمشقيون، فعنده قتل قابيل أخاه هابيل، وعلم الغراب القاتل كيف يواري سوأة أخيه في التراب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يأخذنا اللقاء الرابع إلى محاكمة لا تلبث أن تحيل الذاتي على الموضوعي في صراع ذات البين السوري، فيأخذ الحوار الذكي بين العم وابنة أخيه آفاقاً متشعبة من تشريح للحالة السورية، والعلاقة مع الآخر، لينتهي العرض بعناق تبلله دموع الرجل الخمسيني والفتاة العشرينية، على ما وصلت إليه البلاد من انقسامات عمودية لا يمكن رأب صدوعها بسهولة، ولا يمكن التسليم بحلول آنية لمداراة شروخها الداخلية العميقة في النفس والوجدان الجماعي.
اللافت في عرض "لقاءات" أنه اختار أسلوب المدرسة الواقعية من دون أن يأخذ بحذافير الديكور، بل عول مخرج العرض على ترميز للأماكن التي تنقل بينها من شارع وحديقة وبيت، وذلك بالاعتماد على نقلات رشيقة في الإضاءة (مرح العريضي) أسهمت في رسم المكان المتخيل الذي تجري فيه الأحداث، والاعتماد على قطع أكسسوار بسيطة للإيحاء به، مع لمحات من أصوات الجو العام (صوت ومؤثرات سليمان سليمان) كما كانت الحال مع أصوات محطة انطلاق الحافلات مثلاً، أما على صعيد الأزياء (تصميم جماعي) فلقد حافظ سمير عثمان على طبيعة ملابس عادية لممثليه الثمانية مع إضافات بسيطة على تسريحات الشعر واستخدام الحجاب للدلالة على البيئة والمرجعية الاجتماعية للشخصيات، في وقت بذل فيه الممثلون جهداً واضحاً في الأداء الصوتي والبدني، وصولاً إلى مرثية متأخرة لبلاد أرهقتها الحروب التي عاشتها والتي ما زالت تخشى وقوعها.