ملخص
يسأل كثيرون اليوم هل انتقمت إسرائيل لأميركا في الحرب الراهنة على "حزب الله" في لبنان، بعدما اغتالت شخصيات كانت تعتبرها واشنطن إرهابية لأعوام طويلة؟
يتذكر جيداً من عايش الحرب الأهلية اللبنانية بفصولها التي امتدت 15 سنة، أو من قرأ عنها، بأن يومياتها لم تراوح ما بين هدوء تام و قتال عنيف، بل ومع كل فجر جديد شهدت المناطق اللبنانية من أقصى الجنوب إلى الشمال والبقاع شرقاً تطورات كبيرة أمنية وسياسية، من معارك طاحنة واجتياحات عسكرية إلى انفجارات كبيرة أو اغتيالات لشخصيات غير عادية، وصولاً إلى لقاءات سياسية رسمت بنتائجها المشهد الداخلي في تلك المرحلة، وامتد تأثيرها إلى ما نعيشه اليوم.
لكن في قراءة ليوميات تلك الحرب، نجد أن بعض المحطات كانت أكثر دموية وأهمية وتأثيراً في سياق الأحداث حينها، تماماً كتلك التي حدثت في الـ 23 من أكتوبر (تشرين الأول) 1983، حين كانت المعارك الداخلية على أشدها، وتأثير الاجتياح الإسرائيلي الذي وصل إلى العاصمة بيروت ضمن عملية "سلامة الجليل" كبيراً والذي أدى إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية وقياداتها وعلى رأسهم ياسر عرفات من لبنان.
ماذا حدث في ذلك اليوم؟
تكشف التقارير الاستخباراتية الأميركية عن تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم في تاريخ البعثات الأميركية حول العالم، وفيها أنه عند قرابة الساعة السادسة من صباح الأحد الـ23 من أكتوبر 1983، دخلت شاحنة مرسيدس صفراء إلى مقر ثكنة تابعة لمشاة البحرية الأميركية الـ"مارينز" قرب مطار بيروت. وقام سائقها بجولة في موقف السيارات ثم خرج، قبل أن يعود بعد دقائق ويقتحم المقر بسرعة متجهاً نحو حاجز من الأسلاك الشائكة يفصل بين موقف السيارات ومبنى الثكنة. اجتازت الشاحنة البوابة الرئيسة، وانفجرت في ردهة المبنى المكون من أربعة طوابق الذي تدمر بالكامل، وقتل بداخله ومحيطه 241 أميركياً من بينهم 220 جندياً في الـ"مارينز".
أما كمية المتفجرات التي كانت موجودة في الشاحنة، فلم تحدد بصورة نهائية حتى اليوم، بين تقارير قالت إنها قدرت بخمسة أطنان وأخرى تحدثت عن تسعة أطنان من مادة الـ"تي أن تي" شديدة الانفجار.
وقد أعقب استهداف الـ"مارينز" بدقائق قليلة، هجوم على مبنى المظليين الفرنسيين في الرملة البيضاء في بيروت، مما أدى إلى مقتل 58 شخصاً منهم.
تبعات تفجير الـ"مارينز"
قوات مشاة البحرية الأميركية كانت موجودة في لبنان خلال تلك المرحلة ضمن قوات "حفظ السلام" الأممية التي أُرسلت في أغسطس (آب) من عام 1982 للإشراف على خروج المقاتلين الفلسطينيين بعد الاجتياح الإسرائيلي، وتشكلت القوات الأجنبية يومها من 800 جندي أميركي و400 جندي فرنسي و800 جندي إيطالي.
مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي) وصف الهجوم بأنه "أكبر انفجار غير نووي في العالم"، واعتبر "نصراً استراتيجياً" على الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان، فيما كان فرنسوا ميتران رئيساً لفرنسا وأمين الجميل رئيساً للبنان.
وهذا الهجوم أدى بعد أشهر إلى إعلان ريغان في السابع من فبراير (شباط) 1984 نقل قوات الـ"مارينز" إلى السفن الأميركية على الشاطىء، قبل أن يصدر الأمر نهائياً بخروج قوات "حفظ السلام" من لبنان ومياهه في الـ26 من شباط 1984.
وكان المبعوث الأميركي الخاص إلى لبنان دونالد رامسفيلد قال بدوره عن هذا الحدث الدامي إنه أكبر هجوم إرهابي على الولايات المتحدة الأميركية قبل أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001.
المتهمون الرئيسون
بعد ساعات قليلة على الحدث الدامي، خرجت جماعة تسمي نفسها حركة "الجهاد الإسلامي" ببيان أعلنت فيه مسؤوليتها عن العملية المزدوجة، لكن تقارير استخباراتية وإعلامية عدة أكدت أن تلك المنظمة لم تكُن سوى اسم حركي لحزب تأسس حديثاً في لبنان وبدعم من إيران ليملأ الفراغ الذي سيخلفه خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، ومع الوقت تحول هذا الحزب إلى ما يعرفه اللبنانيون والعالم جيداً باسم "حزب الله".
وأعلنت الحركة في بيانها أن من نفذ العملية الانتحارية في مبنى الـ"مارينز" كان إيراني الجنسية ويدعى إسماعيل عسكري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شكلت تلك المحطة بداية وضع الاستخبارات العسكرية الأميركية جدياً على طاولتها ملف العناصر والمجموعات المقربة والمدعومة مباشرة من إيران.
وما كادت تمر سنوات قليلة على الاستهداف، حتى أعلنت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية رسمياً أنها تتهم القيادي في "حزب الله" عماد مغنية بالتخطيط وتنفيذ بعض العمليات منها مقر مشاة البحرية الأميركية، ومغنية كان يعتبر القائد العسكري والاستراتيجي للحزب، وطاردته تل أبيب وواشنطن لأعوام طويلة، ونجا كذلك من محاولات اغتيال عدة في لبنان، لكن في فبراير 2008 اغتيل بتفخيخ سيارته في العاصمة السورية دمشق، واتهمت إسرائيل بقتله.
كذلك حضر اسم القيادي في الحزب مصطفى بدر الدين بأنه شارك مغنية في الضلوع بعملية الـ 23 من أكتوبر عام 1983، وبدر الدين قتل بدوره عام 2016 إثر قصف طاول مقر إقامته في دمشق.
برنامج المكافآت الأميركي
إلى جانب مغنية وبدر الدين، تتهم أميركا ثلاثة قياديين من "حزب الله" وتقول إنهم على علاقة بتفجير الـ"مارينز"، وهم فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وطلال حمية.
وتؤكد واشنطن أن لفؤاد شكر دوراً مباشراً بالتفجير الانتحاري الذي ضرب مبنى مشاة البحرية الأميركية، وكانت رصدت عام 2017 مبلغاً قدره خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، لكن شكر قتل في الـ30 من يوليو (تموز) الماضي على يد إسرائيل في مكتبه في حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت.
إبراهيم عقيل يُعدّ بدوره أحد أبرز قيادات الحزب غير معروفة الشكل أو مكان الوجود، لكنه كان يقوم بدور محوري في القيادة، ورصدت أميركا التي تتهمه بالضلوع في تفجير الـ"مارينز"، سبعة ملايين دولار مقابل الإدلاء بمعلومات عنه، وعقيل اغتالته إسرائيل أيضاً بضربة جوية في الـ20 من سبتمبر الماضي.
أما طلال حمية، فكان أعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" عن مكافأة تصل إلى 7 ملايين دولار أميركي مقابل الإدلاء بمعلومات عنه، وهو المتهم بتنفيذ هجمات عدة ضد مصالح أميركية وإسرائيلية في العالم ولبنان ومنها تفجير الـ"مارينز".
هل انتقمت إسرائيل لأميركا؟
يسأل كثيرون اليوم هل انتقمت إسرائيل لأميركا في الحرب الراهنة على "حزب الله" في لبنان؟.
يعتبر المستشار السابق في وزارة الدفاع الأميركية كاظم الوائلي أن أميركا لن تنسى حادثتين في تاريخها وهما أحداث الـ11 من سبتمبر عام 2001 وهجوم الـ"مارينز" في لبنان عام 1983 الذي نفذه الحزب فيما كانت جماعة "الجهاد الإسلامي" هي في الواجهة، وكانت القوات الأميركية الموجودة حينها حضرت بموافقة من الأمم المتحدة باعتبارها قوات "حفظ سلام"، ولذلك اليوم بعد 41 عاماً لن تنسى واشنطن هذا "الغدر" الذي قام به الحزب ومن خلفه إيران، على حد قوله.
ويرى الوائلي أن الولايات المتحدة تركت ملف لبنان والتعامل مع "حزب الله" لإسرائيل، تحديداً عام 2008 بعد اغتيال مغنية على يد "الموساد" الإسرائيلي، فيما هناك تعاون بين الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، وتم تسليم هذا الملف بمباركة من واشنطن إلى تل أبيب.
ويضيف أن فؤاد شكر وإبراهيم عقيل يعتبران من الأسماء المهمة ومن الرعيل الأول في "حزب الله"، مما يعني أن الخط الأول في الحزب اليوم معظمه قتل، بالتالي نعم انتقمت وثأرت إسرائيل لأميركا، ويقول "في السابق كانت أميركا قادرة على الوصول الى هؤلاء الأشخاص، خصوصاً أنهم كانوا مطلوبين من وزارة العدل الأميركية ومصنفين على أنهم إرهابيون، ولكن تركت هذا الملف لإسرائيل وهذه الحرب كانت الفرصة الذهبية للدولتين للتخلص من الصف الأول في الحزب، ثم وصلت الاغتيالات إلى الأمين العام حسن نصرالله ورئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين، مما يعني أنها أنهت قيادات الحزب تماماً".
ويشدد المستشار السابق في وزارة الدفاع الأميركية على أن هناك مباركة أميركية اليوم باغتيال تل أبيب قيادات "حزب الله" وكذلك حركة "حماس"، وفي السابق كان التعاون سرياً إلى حد ما، فيما بات راهناً علنياً.
إسرائيل ترضي الأميركيين
في تقرير أورده معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في بدايات الألفية الجديدة، يقول إن مسؤولين أميركيين يشهدون أن هجوم الـ"مارينز" تم تنفيذه بناءً على طلب إيران، مشيرين إلى أن الاستخبارات الأميركية اعترضت توجيهاً إيرانياً بتاريخ الـ26 من أيلول 1983، يأمر "حزب الله" بـ"اتخاذ إجراءات دراماتيكية ضد مشاة البحرية الأميركية". وبصورة مأسوية، ضاع هذا التوجيه في خضم البيروقراطية ولم يتم اكتشافه إلا بعد يومين من التفجير، عندما أبلغ رئيس الاستخبارات البحرية نائب رئيس العمليات البحرية بالأمر.
يرى الباحث في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الدكتور خالد العزي أن هذه الشخصيات التي تم اغتيالها والتي خاضت العمل العسكري والأمني لـ"حزب الله"، هي في الأساس مجموعة شباب كانوا موجودين ضمن حركة "فتح". لكن بعد عام 1982، أي بعد الاجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان، انضمت هذه المجموعة إلى حركة "الجهاد الإسلامي العالمي"، ويقول "هذه الحركة بالأساس كانت تتبع مباشرة للحرس الثوري الإيراني، تحديداً الجهاز الخارجي للحرس الذي يقوم بمهمات خارجية، وإن تتبعنا كل هذه الأسماء نجد أنها متهمة بأعمال خارجية ومن بينها بصورة مباشرة مغنية وبدر الدين وشكر وعقيل وحمية".
يتوقف العزي عند رصد واشنطن ملايين الدولارات للوصول إلى هذه الشخصيات، في دلالة على أهميتها بضرب المصالح الأميركية في الخارج وأبرزها مقر الـ"مارينز"، ويتابع أنه عندما حاول رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو اغتيال هذه القيادات، بدأ بالدرجة الأولى توجيه الضربات لقادة الكتائب والفصائل المقاتلة أي قيادات الصف الثالث، ثم ارتفع المنسوب القتالي ليصل إلى الدرجة الثانية وهنا قاموا بتصفية قياديي وحدات عزيز ونصر والرضوان، لينتقلوا إلى المجموعة الأولى التي تشكل المجلس الجهادي في الحزب أو قيادة الأركان العسكرية والأمنية، لذلك عندما تم اغتيال شكر دغدغت العملية شعور الأميركيين الذين هنأوا الإسرائيليين على هذه الخطوة، فيما قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي بعد مقتل عقيل "لن نذرف الدموع على شخصية متورطة بقتل الأميركيين".
يوضح الباحث في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية أن أميركا باركت عمل نتنياهو الذي تشجع أكثر وأكثر لضرب قيادات الحزب، وصولاً إلى اغتيال نصرالله الذي اعتبر قراراً جريئاً جداً من القيادة الإسرائيلية. ويضيف أن "الإدارة الأميركية باتت أمام أمرين، الأول أن إسرائيل حققت لها نجاحات بضرب الشبكة العنكبوتية في الحزب وفي الوقت عينه قالت إسرائيل للعالم إنني أقصي إيران وأحجم دورها".
وختم العزي بالتشديد على أن هذه الاغتيالات انتقمت لأميركا من "حزب الله" من دون أن تدفع واشنطن أي كلفة، وكأنها نفذت ما تريد ولكن ليس بيديها.