ملخص
مع تواصل القصف على بيروت، تتصاعد أعمدة الدخان باستمرار وتشكلت غيمة سوداء فوق العاصمة. فهل لها أثر مسرطن على اللبنانيين؟
منذ بداية الحرب في غزة ولبنان، استخدمت إسرائيل مراراً القنابل الفوسفورية وتكرر الحديث عن تأثيراتها البيئية على المديين القصير والبعيد. لكن، مع توسع رقعة الحرب، بدا واضحاً أن خطر تلوث الهواء الذي نتنشقه والبيئة لا يقتصر على القصف بالقنابل الفوسفورية في الحرب المدمرة، سواء في الجنوب أو في بيروت.
وإضافة إلى تلوث المحاصيل، والمياه السطحية والجوفية في الجنوب بما يشكل تهديداً للمواشي وأيضاً لصحة الإنسان بسبب القصف الفوسفوري هناك، برز في بيروت خطر التلوث البيئي بعد شهر على القصف المكثف والمتواصل على العاصمة. فتلك الغيمة السوداء التي باتت تشكل جزءاً لا يتجزأ من المشهد اليومي الحزين في بيروت، تحوّلت إلى هاجس للبنانيين، فهل تحمل معها تهديداً بأمراض سيصبحون أكثر عرضة للإصابة بها في الأيام المقبلة، لتزيد هماً إضافياً على قلوبهم المثقلة بالهموم والأحزان؟
حزن وهواجس
منذ قرابة شهر، تعلو غيمة سوداء العاصمة ولا تفارقها أبداً لتزيد من الحزن المسيطر في بيروت. وبات صباح المواطن قانطاً أكثر بعد بوجودها، كما ترافقه في أمسياته المهددة بالقصف المتواصل. فمع استمرار القصف على العاصمة وعلى مختلف المناطق اللبنانية، وتصاعد أعمدة الدخان من هذه المواقع، أصبح هذا المشهد معتاداً. إنما في الوقت نفسه، بات وجوده مترافقاً مع هواجس متزايدة لدى اللبنانيين، مما قد يخلّفه ذلك من أخطار على صحتهم، في ظل التلوث المتزايد للهواء الذي يتنشقونه، فيراود من اعتاد على تنشق الهواء المنعش في ساعات الصباح الباكرة، القلق مما يتنشقه من سموم وما يتعرض له من خطر متزايد للإصابة بالسرطان.
وكأنه لا يكفي المواطن اللبناني ما يرزح تحته من هموم في ظروف الحرب وما يرافقها من قصف متواصل وخسائر بشرية بالآلاف وتدمير هائل للبلاد، فيأتيه هم إضافي. ويعلم الكل ما تشكله الحروب من تهديد للبيئة، ليضاف إلى ما تخلفه من دمار في البنى التحتية ومن خسائر بشرية واقتصادية. ويعتبر الخبراء أن ما تستخدمه إسرائيل من قنابل وصواريخ من المصادر الهائلة للتلوث البيئي، ويحذرون من أضرارها الخطيرة على الصحة. والأسوأ أن لبنان يحتل المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات بالسرطان قياساً إلى عدد السكان، وفق تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في عام 2018.
وعلى رغم عدم توافر إحصاءات دقيقة حديثة، يظهر الواقع ارتفاعاً مقلقاً في الأرقام في السنوات الأخيرة في ظل الأزمة التي تعصف بالبلاد. كما يحذر الخبراء أيضاً من الخطر المرتبط بالتلوث الناتج من المولدات الكهربائية في البلاد التي يمكن أن تشكل سبباً إضافياً لارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان. واليوم، تزيد المخاوف أكثر جراء القصف المتواصل وما يخلّفه من تلوث في الهواء والبيئة بسبب المواد الكيماوية التي تحملها الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل، ومما قد تسببه من أضرار لصحة المواطنين. ويكمن الخطر في تنشق الغبار الناتج من القصف في ضاحية بيروت الجنوبية وبقية المناطق التي تتعرض للقصف، بما أن تأثيرات هذه الأسلحة تُعد كارثية على البيئة وعلى الصحة العامة.
أخطار أكيدة على الصحة
في المرحلة الحالية، هناك صعوبة حقيقية في تحديد وقياس وطأة الحرب على البيئة والمناخ والصحة العامة. ففي ظل احتدام المعارك، تبرز صعوبة إجراء مسح شامل للمناطق المتضررة. وهذا ما تؤكده مديرة مركز حفظ البيئة في الجامعة الأميركية في بيروت، النائبة في البرلمان اللبناني نجاة صليبا. فعلى حد قولها، "يصعب تحديد حجم الضرر، وطبيعة المواد الكيماوية التي تلوث الهواء في العاصمة وفي غيرها من المناطق التي تتعرض للقصف، طالما أن القصف مستمر. ففي مثل هذه الظروف، لا يمكن استخدام الأجهزة التي تسمح بتقويم أولي". لكن بناءً على خبرتها في هذا المجال، ووفق ما يظهره لها الواقع، يبدو واضحاً أن "الوضع مقلق ولا يمكن الاستهانة بأثر هذا التلوث على صحة المواطنين. فيكفي أن يحاول المواطن تنشق الهواء في الصباح ليلاحظ أنه يبدو ثقيلاً وأنه ثمة تغيير واضح فيه. حتى أن الغيمة الرمادية فوق بيروت، وأعمدة الدخان المتصاعدة يومياً، تترك رائحة معينة يمكن ملاحظتها بوضوح في الصباح الباكر. وتكمن الخطورة في أن القصف يتواصل طوال ساعات الليل مسبباً حرائق تستمر خلال النهار أيضاً مع تصاعد أعمدة الدخان. وهذا ما يجعل الهواء الذي نتنشقه ثقيلاً وسميكاً. والأسوأ أن هذا الدخان لا يزول بسهولة في هذا الطقس الخريفي الذي يُعتبر جامداً وبارداً بما لا يسمح لهذه الغيمة الناتجة من دخان القصف بأن تتبدد بسهولة. فلو كان الطقس صيفياً وحاراً لتصاعد الهواء بسهولة ليسمح بتبدد الدخان الناتج من القصف والحرائق. لذلك، من المتوقع أن يطول الوضع على ما هو عليه".
ويبدو الوضع أكثر خطورة بشكل خاص على ضاحية بيروت الجنوبية والمناطق المحيطة بها. وبقدر ما يتم الابتعاد عن هذه المناطق، يخف الضرر وإن كان الأذى يبقى موجوداً، فالضرر يزيد دوماً على الموجودين في مناطق قريبة من تلك التي تتعرض للقصف.
في الوقت نفسه، لا تفضل صليبا الجزم بشأن طبيعة وحجم الضرر الذي قد يحصل، "إذ يختلف ذلك بحسب المدة التي يتعرض فيها المواطن للهواء الملوث والمثقل بالجسيمات الدقيقة، وما إذا كانت طويلة أو قصيرة نسبياً. لكن بغض النظر عن المدة، تُعتبر الأمراض التنفسية أبرز الأخطار الحتمية التي يواجهها المواطن اللبناني في مثل هذه الظروف. فهذا الخطر يبرز على المدى القصير كأثر مباشر للقصف والتلوث البيئي. أما الأمراض السرطانية فهي من الآثار البعيدة المدى، والتي لا يمكن التحدث عنها من الآن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الوقت نفسه، تأمل صليبا بألا تطول الظروف الحالية وما يرافقها من قصف وحرائق وتلوث لأن الخطر يكون أهم بكثير عندها، إذا ما طالت مدة التعرض. أما اليوم، فحتى اللحظة، يصعب تحديد طبيعة المواد التي يتعرض لها المواطن. وأضافت "لكن، إذا ما وُضعت جانباً طبيعة القنابل والصواريخ المستخدمة في القصف، وما قد تحتوي عليه من مواد كيماوية، يمكن التأكيد على حجم الخطر الناتج من احتراق المباني والمستودعات عامةً بشكل يومي، نظراً لما تحتوي عليه من مواد كيماوية وبلاستيكية في الأثاث والطلاء وغيرها. فكلها مواد سامة تهدد صحة المواطن في حال تنشقها بشكل متكرر. وتحترق هذه المواد الكيماوية بشكل متواصل وتلوث الهواء الذي يتنشقه المواطن في المناطق التي تتعرض للقصف ومحيطها، ما يعرضه للخطر، خصوصاً إذا طالت مدة التعرض لها".
وزادت "أما الكميات التي يتعرض لها ومعدلات انتشارها في الهواء، فمن المسائل التي تتطلب تحليلاً للهواء وتقييماً يُجرى على أساس علمي ما إن تسمح الظروف بذلك. وهذه المواد وما ينتج منها من جسيمات تثقل الهواء وتسبب حتماً في المدى القصير مشكلات في الشرايين وفي القلب بخاصة وأيضاً في الجهاز التنفسي، بغض النظر عن المواد الكيماوية المستخدمة في القصف. ويسبب التعرض لهذه المواد والجسيمات في الهواء الملوث دائماً مشكلات في الجهاز التنفسي للمواطنين عامةً، وبشكل خاص لمن يعانون أصلاً أمراضاً في الجهاز التنفسي كالربو، وللمسنين والأطفال، وهم يحتاجون إلى رعاية كبرى. هؤلاء يعتبرون أكثر عرضة لمضاعفات في الجهاز التنفسي في مثل هذه الظروف".
ويُذكر أن التعرض لهذا النوع من التلوث للمدى الطويل فيؤدي إلى أخطار صحية كبرى منها الإصابة بالسرطان. وللحد من الضرر، تنصح صليبا "بتجنب فتح النوافذ في هذه الفترة، واستخدام أجهزة تنقية الهواء، وعدم الاقتراب من مواقع القصف من دون حماية. في الوقت نفسه، تشدد صليبا على "أهمية تجنب التدخين قدر الإمكان بما أن تلوث الهواء متزايد في هذه الفترة، ويجب عدم التعرض إلى عامل خطر إضافي يزيد احتمال الإصابة بالأمراض التنفسية وبالسرطان في المدى البعيد".
أثر كارثي على البيئة
من جهته، يشير مدير الاستدامة الرئيس في الجامعة اللبنانية الأميركية، الدكتور نديم فرج الله، إلى تأثيرات القصف على البيئة، مميزاً بين أثره المباشر في ما يخلفه من حرائق وأضرار واضحة، وذاك غير المباشر، مثلما قد يحصل في حال قصف مستودعات مع ما تنتجه من مواد كيماوية يتعرض لها المواطن عندها. ويشدد فرج الله على "أهمية وضع خطط لتعافي المناطق التي تتعرض للقصف على مستوى بيئي وتحديداً على صعيد الغابات. ويحصل ذلك عبر تأمين كميات كافية من الشجر لمباشرة الزراعة ما إن يتوقف القصف، بعد إجراء مسح سريع للأضرار حتى لا يأتي الشتاء الجارف ويقضي على التربة التي تصبح عندها غير قادرة على التعافي وإعادة التأهيل. وينطبق ذلك على الحرائق التي تحصل عامةً وتلك الناتجة من القصف".
أما على المستوى الصحي، فيشير المتحدث ذاته إلى "أخطار معينة يمكن مواجهتها بحسب طبيعة القصف. فعلى سبيل المثال، في حال تعرض محوّل كهربائي للقصف، يزيد ذلك من خطر الإصابة بالسرطان في المدى البعيد نظراً لما يسببه ذلك من تلوث للأرض يصعب التخلص منه". وأضاف، "تُعتبر القنابل الفوسفورية من الأخطار الكبرى التي يمكن أن يتعرض لها المواطن والبيئة. إذ يتحوّل الفوسفور إلى أسيد يؤذي التربة والمكونات التي فيها. إلا أن ما هو إيجابي في لبنان هو أن التربة كلسية، والأسيد الذي تتعرض له يسهم في تعديلها، وإن كان يمكن أن يسبب الأذى الكبير للحيوانات. في المقابل، الأذى الكبير يطاول الإنسان الذي يتعرض للفوسفور، لما يسببه من حروق عميقة تصل إلى الأعضاء الداخلية. وفي كل الحالات، كل المواد المستخدمة في القصف تحتوي على النيترات الذي ترتفع معدلاته في الهواء ويؤدي إلى تساقط المطر الأسيدي الذي يؤثر في البيئة والإنسان وعلى المعالم الأثرية أيضاً".
وذكر المتحدث ذاته أن "مَن يعانون مشكلات في الجهاز التنفسي أو ضيق في التنفس هم الأكثر عرضةً للخطر على المستوى الصحي بسبب القصف، فمن المتوقع أن يعانوا مزيجاً من المشكلات والمضاعفات في مثل هذه الحالة لدى التعرض لمواد كيماوية. وعندها تقل قدرة الرئتين على استخدام الأوكسجين. إلا أن الدراسات تظهر أن مدى التعرض لمسبب الضرر، والتعرض بشكل متكرر، هي من العوامل التي تؤخذ في الاعتبار في تحديد حجم الأذى. فالتعرض المتواصل لمسبب الأذى ومصدر التلوث يؤدي إلى الضرر الأهم في الرئتين". ويشير فرج الله إلى أن "معظم الذين يموتون بسبب الحرائق يعانون اختناقاً بسبب ما يتنشقونه من مواد تؤذي الجهاز التنفسي، ولا تحصل وفاة بسبب الحريق في معظم الحالات. ويأتي القصف بكل ما به من أذى على البيئة والإنسان، ليضاف إلى عوامل أخرى في لبنان تسبب أضراراً كارثية أيضاً على الصحة العامة كالمولدات الكهربائية، فيما يفضَل عدم التحدث عن أضرار على الصحة للمدى البعيد كخطر الإصابة بالسرطان، كما يفعل البعض. فهذه المسألة تتطلب تحليلاً وتقييماً للوضع قبل الحرب وبعدها لإظهار ما يمكن أن يكون قد خلّفه القصف من ارتفاع في معدلات الإصابة بالسرطان. قد يكون هناك أثر مسرطن بالفعل، لكن لا يمكن الجزم من الآن، إلا بتأثير هذا الدخان الناتج من القصف على الجهاز التنفسي. أما أي كلام مخالف بهذا الشأن فلا يكون مبنياً على أساس علمي. إنما في الوقت نفسه، يمكن القول إنه بقدر ما يتوقف انبعاث الدخان بسبب القصف سريعاً يكون الضرر أقل. وما وضعته وزارة البيئة من خطة تعافٍ سريعة بعد الحرب ومن ضمنها إجراء التحليل اللازم لجودة الهواء في غاية الأهمية للكشف عن الضرر. هذا ما يمكن أن يساعد على تحديد حجم الضرر في مختلف المناطق بحسب الجسيمات التي في الهواء والغازات التي فيه".