ملخص
تتواصل الفصول المؤلمة لوضعية المحكمة الجنائية الدولية المرتبطة بحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، واستكمالاً لحالة الحرج والارتباك أعلن عن استبدال القاضية الرومانية بولينا مونوك، وذلك لأسباب صحية، وحلت محلها القاضية السلوفينية بيتي هولر.
نواصل نقاشنا حول اهتزاز المنظومة الدولية بسبب تواصل جرائم الإبادة الإسرائيلية وعجز مؤسسات هذه المنظومة عن إيقاف هذه الجرائم، فضلاً عن حدة الخطوات التي تتخذها إسرائيل بتحد كامل، مثل قرارات الكنيست الأخير في شأن منظمة "الأونروا"، وهي قرارات تعبر عن قمة الإصرار على تصفية للقضية الفلسطينية وحرمان هذا الشعب من حتى حقوق الحياة التي كانت توفرها المنظمة تعويضاً عن حرمانهم عن إقامة دولتهم على رغم أن إنشاء "الأونروا" متزامن مع قرار إنشاء إسرائيل ذاتها.
وتتواصل الفصول المؤلمة لوضعية المحكمة الجنائية الدولية المرتبطة بحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، واستكمالاً لحالة الحرج والارتباك أعلن عن استبدال القاضية الرومانية بولينا مونوك، وذلك لأسباب صحية، وحلت محلها القاضية السلوفينية بيتي هولر، وترددت، مع ذلك على الفور، توقعات بمد فترة دراسة القضاة الثلاثة لطلب مدعي عام المحكمة كريم خان باستدعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، ومعهم ثلاث قيادات من "حماس" كان من بينهم يحيى السنوار الذي صُفي، ويدور الحديث حول امتداد فترة صدور القرار إلى ثلاثة أشهر أخرى مقبلة، وفي الحقيقة التأخير يثير شكوكاً عميقة في صدور القرار.
ولا يكتمل المشهد من دون ذكر أنه تجري مطاردة خان نفسه الآن بتهم تحرش جنسي، نفاها الرجل، وبصرف النظر عن صحة الاتهام تشير الشواهد إلى أن توقيت الاتهامات قد لا ينفصل عن الحملة الشرسة التي تعرض لها من دوائر أميركية ويهودية، ووصلت، كما أشرنا في موضع سابق، إلى تهديدات صريحة من الكونغرس الأميركي، ومن الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، ومن شخصيات أميركية عديدة، وفي الحقيقة، أن اللغة التي استخدمت للتطاول على المحكمة لا تقل قسوة عن التبجح الذي تم ضد سكرتير عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش واختتم بمنع التعامل مع الرجل ومنع زيارته إسرائيل.
لماذا تختلف حالة المحكمة الجنائية الدولية عن بقية المنظومة الدولية؟
تشكل حالة المحكمة الجنائية الدولية حالة خاصة ضمن كل التجاوزات والتجاهل للأمم المتحدة الذي يسجل مفترق طرق خطراً لمستقبل البشرية وليس المنظمة فحسب. وهنا يجب أن نميز بين أمرين، الأمر الأول تقييم أداء المنظمة منذ إنشائها في عام 2002، ودلالة فكرة المنظمة في المجتمع الدولي، فإما الدلالة فإنه يمكن أن نعتبرها قمة التعبير عن النظرة المثالية في العلاقات الدولية وارتقاء البشرية لاتخاذ الإجراءات الجنائية ضد كل من يرتكب جرائم الحرب والإبادة العرقية، حتى لو تمتع بحماية دولته بسبب موقعه في السلطة، أي إنها خطوة كبيرة في الطريق إلى عالم أكثر مثالية ومسؤولية، وأن هناك محاسبة عابرة للحدود ولسيادة الدول لمن لا يحاسب في بلاده للأسباب المختلفة، مثلما حدث في البلقان، أو دارفور، إلى آخره، أو إسرائيل حالياً. فكما هو معروف أن النظرية أو الرؤية المثالية للعلاقات الدولية في مقابل النظرية الواقعية كانت تنتهي بتصور قيام تنظيم دولي فوقى يحاسب المخطئ ويمنع جرائم الحروب والإبادة الجماعية.
ولكن هذه الدلالة اصطدمت، منذ البداية، برفض عدد من الدول الكبرى الانضمام إلى المحكمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بسبب خشيتها من أن تحاسب على جرائمها المسجلة في العراق تحديداً عند مرحلة إنشاء المحكمة، وكذلك روسيا والصين وإسرائيل وغيرها من الدول، ثم لم يصدق كثير من الدول التي وقعت على اتفاقية "روما" المنشئة للمحكمة، ولم تستطع ممارسة عملها إلا في حالات قليلة.
في مختلف الأحوال، عبر هذا الضعف، منذ إنشاء المحكمة، عن محاولتها التركيز على حالات أفريقية، فيما تجاهلت العراق وفلسطين وحروب غزة تحديداً، مما كشف ضعف صدقيتها، ولكن جاءت التجاوزات التي تشهدها الحرب الحالية لكي تحرج المحكمة، ويضطر المدعى العام كريم خان إلى إصدار طلب لقضاة المحكمة لإصدار مذكرة اعتقال ليس فقط لنتنياهو وغالانت، ولكن أيضاً للسنوار وشخصيات فلسطينية، وتلكأ القضاة تحت وطأة الضغوط الشديدة والهجوم الكاسح الأميركي - الإسرائيلي لمنع إصدار المذكرة، ثم جاءت التطورات الأخيرة لتثير تساؤلات أكثر عن مصير هذه المذكرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تهديدات حقيقية
ولقد تناولت في مقالي السابق أن تداعيات الأمور تشير إلى أن هناك تهديدات حقيقية وغير مسبوقة للمنظومة الدولية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، والقائمة على الأمم المتحدة بما لها وما عليها، وأنه ليس من المتوقع أن تسفر الانتخابات الأميركية عن إنقاذ هذه المنظومة، ولكن الفارق مع حالة المحكمة الجنائية الدولية أن المنظمة قد تخرج من هذه المحنة ضعيفة وهشة، ولكن لم تتبلور إرادة العالم ولا قوى التغيير بعد عن الإطاحة الكاملة بها، إذ إن مثل هذا التطور قد ترتبط به أخطار ضخمة ولا يوجد بديل آخر حتى الآن، وقد مرت الأمم المتحدة، بالفعل، بإخفاقات ونجاحات على مدى عقود، والواضح حتى الآن أنه لا أحد، بصرف النظر عن السلوك الإسرائيلي، يريد الإطاحة الكاملة هذه المؤسسات لمصلحة بديل غير واضح، ولم يقترحه أحد، ومن ثم لتجنب هذا الفراغ فالأرجح أن تستمر المنظومة الدولية الأممية المهللة، ولا تملك إدارة أميركية مقبلة ولا قوى دولية صاعدة، إمكانية إنقاذها لبعض الوقت. ولكن المستقبل ما زالت فيه احتمالات لتدارك الانهيار، ربما تزيد في حالة وصول إدارة ديمقراطية تمهد الطريق لعودة قدر من الرشادة في مرحلة سياسية أميركية أخرى لحدوث هذا الإنقاذ، وقد يتعزز هذا في حال حدوث توازنات دولية جديدة ما زالت قيد التشكل.
لكن المشكلة في حالة المحكمة الجنائية الدولية أعمق، ولهذا وصفت الموقف بأنه مصير المحكمة وليس نتنياهو، فهذه المؤسسة لم تثبت نجاحاً ولا صدقية منذ إنشائها، بل أثبتت فقط انتقائية، وهو ما يتناقض، بالضرورة، مع فكرة القانون، ولأنه إذا لم يطبق على الأقوياء قبل الضعفاء، فإنه يعود بنا إلى مراحل الأقوام البدائية، وإلى أقصى مراحل نظرية الفوضى في العلاقات الدولية التي حاولت البشرية في القرون الأخيرة تهذيبها والتخفيف منها، ووصلت قمة التهذيب، في التنظيم الدولي الراهن، ثم بالأفكار المثالية بإنشاء المحكمة وقبلها ومعها محاولات الترويج لمفاهيم حقوق الإنسان، ولكن ما يحدث أثبت ببساطة أن البشرية ما زالت بعيدة من هذه الطموحات المثالية، وأن الطريق طويل، وليس مؤكداً، للأسف، أننا سنصل إليه في ظل السيولة الراهنة، لذا فإن الفترة القصيرة المقبلة إما أن تشهد موقفاً حاسماً للمحكمة تحدث معه فارقاً في مجريات الصراع في غزة حتى لو تعرضت لعقوبات أميركية، أو ستدخل في طور هبوط وشحوب ورفض دولي متزايد لصدقيتها واستمرارها، مما سيستفيد منه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعاني، في الفترة الأخيرة، تأثير صدور قرار المحكمة بإيقافه، مما أدى إلى حرمانه من السفر لبلدان عديدة، كما سيشاركه في هذا الأطراف المتحفظة كافة لحين تحقق ظروف دولية مغايرة.