ملخص
يرى تجار الأزمات في المعارك الجارية على الأرض اللبنانية فرصة لرفع الأسعار بينما يعاني النازحون من تبعات الحرب، فمن الجنوب إلى الضاحية هناك أكثر من مليون و200 ألف لبناني هربوا بحثاً عن الأمان ليشهد الاقتصاد نمواً موقتاً على حساب معاناتهم.
استفاق لبنان صباح الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ليجد نفسه في خضم حرب لم يكن له قرار بالدخول فيها، إذ إن "حزب الله" أحد المكونات هذا البلد أقدم على فتح جبهة الجنوب باتجاه إسرائيل إسناداً لما يعده دفاعاً عن قطاع غزة.
تصاعدت وتيرة الحرب تدريجاً بين "حزب الله" وإسرائيل خلال عام واحد لتبدأ الأخيرة عمليات برية وبحرية إضافة إلى غارات جوية مكثفة بغية القضاء على قدرات الحزب العسكرية، مما أدى إلى نزوح سكاني هائل من المناطق المستهدفة يقدر عددهم بأكثر من مليون و200 ألف مواطن.
وتحول سكان الجنوب اللبناني والضاحية معقل "حزب الله" من مواطنين آمنين إلى نازحين في المناطق اللبنانية كافة... يتسابقون في رحلة البحث عن ملاذات آمنة في مناطق أخرى من البلاد، هرباً من جحيم المعارك.
جانب آخر من المعاناة
جراء هذا النزوح الداخلي تشهد قطاعات ومهن معينة نشاطاً غير مسبوق، مستفيدة من الطلب المتزايد على السلع والخدمات في مناطق لا تزال تعد آمنة من القصف ربما المؤجل.
وتشمل هذه القطاعات تجارة المواد الغذائية وتأجير الشقق المفروشة والفارغة وقطاع المقاهي، إلى جانب تزايد الطلب على فرش ووسادات النوم وتوابعها، مع سعي النازحين إلى تأمين حاجاتهم الأساس متفائلين بعودة سريعة إلى مناطقهم.
هذا النشاط الاقتصادي المستجد جراء الأزمة لا يعد ازدهاراً للقطاعات، ويكشف في طياته جانباً آخر من المعاناة إذ ينقسم أولياء هذه القطاعات إلى قسمين، الأول يشعر بالكارثة التي يعيشها النازحون والثاني يعدها فرصة لتحقيق أرباح سريعة تحت شعار "مصائب قوم عند قوم فوائد".
بداية، كانت جولة لـ"اندبندنت عربية" على أطراف منطقة الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت رصدت حركة لافتة من بائعي الخردة يجرون عربات مليئة بشتى أنواع مخلفات الحروب من المنازل، مثل الحديد والنحاس والبطاريات والبرادات والغسالات المدمرة وصولاً إلى ألواح الطاقة الشمسية.
ويروي "أبو علي" أحد الباعة الذي يقود دراجة "التوكتوك" لكونها تستطيع أن تحمل ما تيسر من أغراض الخردة، قائلاً "نعمل طوال أيام العام وهذه المهنة قديمة وتوارثتها عن والدي وهي تساعد أولاً في رفع الأنقاض وفرز أنواع الحديد وصولاً لإعادة تدويرها للاستخدام. وطبعاً نعمل من أجل كسب لقمة العيش بمعنى أن اليوم الذي لا نعمل فيه لا نستطيع أن نأكل"، مشيراً إلى أنه "في أوقات الحروب والنزاعات تنشط هذه المصلحة بصورة قوية وكثيفة، إذ يزداد المعروض مما تخلفه الحروب من خردة". وانتقد "صفة حديثي المهنة حيث إنهم يدخلون إلى هذا الكار فقط في هكذا أوقات ويلحقون بنا الضرر نتيجة عدم خبرتهم في تسعير الأوزان الموجودة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حنان سليم من سكان منطقة الغبيري تحكي كيف باعت أثاث منزلها بأبخس الأسعار نظراً إلى كونها تريد أن تستأجر منزلاً في إحدى المناطق الآمنة، وقالت "التاجر الذي أتى إلى بيتي أعطاني 10 في المئة من ثمن كل قطعة وهي جديدة، وهذا الأمر لا يجوز لكونه استغلالاً لمعاناتنا، وقد كرر لي عبارة اطلبي أي تاجر غيري سيعطيك نفس أسعاري، هذا إذا صدق وكان له الجرأة والشجاعة أن يأتي إلى المنطقة".
ومن جهته، قال أبو صالح الكردي أحد تجار الخردة ويمتلك شاحنة صغيرة في منطقة خلدة "أعمل في هذه المصلحة منذ أكثر من 25 عاماً وأنشط في كل المناطق اللبنانية، لكن حالياً في منطقة المريجة نتيجة الكميات الهائلة التي نأخذها من الحديد جراء الضربات الصاروخية اليومية بهدف بيعها. وأنسق مع أصحاب الورش بشراء الحديد من دون الرمال التي عليه أو النحاس بمختلف فئاته وأذهب بها إلى تجار جملة الجملة، إذ يخضع تسليم الحمولة لميزان يحدد أوزانها قبل تسعيرها مقارنة مع طن الحديد أو النحاس عالمياً".
وقرب مدرسة المعنية في بيروت بدا محل لبيع مستلزمات المنازل، وتظهر كميات من الإسفنج تغطي واجهة المحال في الخارج. وعن حجم الطلب سارع أحد الموظفين بالقول مبتسماً "السوق باللوج" مما يعني أن هناك طلباً كثيفاً على المفروشات وتحديداً على فرش النوم، مشيراً إلى أنه "في بداية الحرب لم يكن هناك من طلب أبداً على هذه السلع، إنما الآن وتحديداً بعد انطلاق العملية البرية الإسرائيلية في الجنوب أصبحنا لا نهدأ في تجارة الإسفنج، فما أن نملأ المحال بهذه السلعة حتى نفقدها في اليوم الثاني، لكن للأسف بعض التجار الجشعين وصل بهم الأمر إلى استغلال معاناة النازحين فباعوا هذا النوع بـ50 دولاراً فيما سعره الطبيعي 12 دولاراً للفرشة الواحدة، ونحن الوحيدون الذين أبقينا على الأسعار نفسها على رغم تزايد الطلب وتناقص العرض".
تحديات أمنية
في ظل التصعيد الأمني والحرب المستمرة في لبنان برزت مشاهد جديدة للفوضى التي طاولت الأمن المجتمعي، وبخاصة في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعض المناطق الأخرى. وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي صور تظهر رجالاً مقيدين إلى أعمدة متهمين بتنفيذ سرقات، إذ جرى الإمساك بهم من قبل شبان محليين في ظل غياب الحضور الأمني الفاعل وضعف دور عناصر "حزب الله" التي كانت تدير الأمن في المنطقة سابقاً.
وأكد مصدر أمني مطلع في تصريح خاص أن "قوى الأمن الداخلي تمكنت من اعتقال عدد من السارقين في مناطق الضاحية والجنوب، إذ استغلوا حال الفوضى والدمار الناتجة من الأوضاع الأمنية الأخيرة لتنفيذ جرائمهم"، موضحاً أن "البيانات تشير إلى انخفاض عام في معدلات الجريمة، إلا أن السرقات توزعت جغرافياً في مناطق مثل جبل لبنان والبقاع والجنوب، وتركزت على السلع خفيفة الوزن وعالية القيمة مثل الألواح الشمسية وبعض المواد التي يمكن بيعها بسرعة وتحقيق أرباح فورية".
وعن التعامل مع الموقوفين، أكد المصدر أن "الأجهزة الأمنية تحيل المتهمين إلى القضاء، إذ تتم متابعة قضاياهم من قبل الجهات القضائية المتخصصة، التي تحدد العقوبات المناسبة وفقاً للقوانين المعمول بها".
الأزمات وتأثيرها في الأنشطة الاقتصادية
وبينما تشهد البلاد أوقاتاً عصيبة تتأثر الأنشطة الاقتصادية بتداعيات الحرب. وفي هذا السياق يتناول المحلل المالي والاقتصادي الدكتور بلال علامة أثر الأزمات على الحركة التجارية ودور القطاعات الحيوية في تلبية حاجات الناس خلال فترات النزاع، موضحاً كيف تؤثر الحروب في الأنشطة الاقتصادية داخل البلاد.
وقال علامة "عادة في الحروب، لا يكون هناك ازدهار للأنشطة التجارية ولكن تنشط مهن محددة تتعلق بالسلع الأساس، إذ يتمكن تجار المواد الغذائية والأدوية والمنتجات الضرورية من تحقيق بعض الفوائد، لأن هذه السلع تصبح أساساً وضرورية في مثل هذه الأوقات، مما يدفع الناس إلى شرائها بصورة ملحة، ومع ذلك ينتهي الطلب بمجرد انتهاء الحرب".
وعن تفاوت التأثير بين المناطق، رأى أن "بعض القطاعات قد تشهد ارتفاعاً في الدخل في مناطق معينة بينما تتعرض قطاعات أخرى في مناطق مختلفة لضربات حادة، تؤدي إلى انخفاض كبير أو حتى توقف تام في نشاطها. وعلى سبيل المثال معظم الشركات والمؤسسات في جنوب لبنان والبقاع الغربي والبقاع والضاحية وأطراف المناطق تتأثر بصورة كبيرة بسبب الأوضاع الأمنية".
واعتبر أن "الحروب غالباً ما تسهم في ازدهار الأنشطة غير الرسمية، فنلاحظ انتشاراً كبيراً للبائعين في الطرقات ولأشخاص يبيعون بضائع بطرق غير خاضعة للتنظيم أو الضوابط القانونية. وهذه الأنشطة لا تخضع عادة للضرائب أو التصاريح الرسمية مما يجعلها غير مفيدة للاقتصاد الرسمي". وفي ما يخص القطاعات التي تنشط بصورة موقتة ذكر أن "بعض القطاعات مثل الفنادق والمطاعم تشهد نشاطاً محدوداً في المناطق البعيدة من النزاعات المباشرة، إلا أن هذا النشاط يبقى ظرفياً".
وتحدث علامة أيضاً عن تجارة السلع الضرورية للنازحين، قائلاً "نشهد ارتفاعاً في الطلب على مستلزمات النزوح من خضراوات وفاكهة ومواد تنظيف، إضافة إلى الأغطية والوسائد. النازحون يشترون هذه المستلزمات دون تردد، وبخاصة أولئك الذين غادروا دون أمتعة، مما يؤدي إلى نشاط ملحوظ في هذه المهن".
أما عن الخسائر التي لحقت بلبنان، فأشار إلى أن "الأضرار الناتجة من الحرب تتعدى الخسائر المادية لتشمل السرقات واستغلال الأوضاع الصعبة من قبل البعض عبر التجارة غير المشروعة. وهنالك استغلال أيضاً في التعاقدات المتعلقة بمراكز النزوح والإيواء التي تمنح لبعض الجهات دون غيرها، ما يثير تساؤلات حول الشفافية".
وختم علامة بتوقعاته الاقتصادية، قائلاً "آلية العمل الإداري في لبنان مضطربة بفعل المراحل السابقة وطريقة إدارة الأزمات المتراكمة، وأعتقد أن خسائر الاقتصاد قد تتجاوز 10 مليارات دولار بسبب تأثير الحرب وأنشطة بعض القطاعات غير الرسمية. وكل التقديرات تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025 قد ينخفض إلى نحو 25 مليار دولار، وربما يصل إلى 15 مليار دولار أو أقل".
تحديات لتوفير المواد الأساس
بدوره، أوضح رئيس تجار أسواق عاليه، سمير شهيب أن "بعض المهن مثل ميكانيكا السيارات شهدت ازدهاراً ملحوظاً نتيجة توافد أعداد كبيرة من النازحين من مناطق النزاع إلى منطقة عاليه، إذ يقدر عددهم حالياً ما بين 35 و50 ألف شخص، مع توقعات بزيادة العدد خلال الأيام المقبلة".
وأشار إلى أن "قطاع الشقق المفروشة استفاد أيضاً، إذ فضل بعض العائلات النازحة والميسورة استئجار شقق مستقلة بعيداً من أماكن الإيواء المدعومة من البلدية"، لافتاً إلى أن "مصطلح ناشط يستخدم هنا بالمعنى الإيجابي، إذ يشير إلى النشاط السياحي بفضل قدوم الضيوف والمغتربين".
أما قطاع الألبسة والمفروشات، فأوضح شهيب أنه "بقي على حاله من دون تغيير كبير، نظراً إلى أن الظروف السائدة تجعل النازحين أقل اهتماماً بمتابعة الموضة. ومع ذلك، شهدت مفروشات النوم بما في ذلك الشراشف والوسادات زيادة في الطلب"، مضيفاً "بالطبع، لم تشهد المطاعم حركة ملحوظة نظراً إلى تأثرها بالوضع الراهن، بينما ازداد الإقبال على المحال التي تقدم الوجبات السريعة من سكان المنطقة والنازحين الجدد، وسجلت المواد الغذائية طلباً متزايداً جداً".
وفي شأن الانتعاش الاقتصادي العام، أشار شهيب إلى أنه "عندما يرتفع النشاط بـ40 في المئة تقريباً، تنتعش الحركة الاقتصادية بصورة ملحوظة"، موضحاً أن جميع القطاعات تقريباً شهدت زيادة في الطلب، وبخاصة قطاع تصليح السيارات الذي شهد نمواً 30 في المئة، نظراً إلى الحاجة الدورية للصيانة".
وختم حديثه بالقول إنه "في حال حدوث حصار شامل فإن الجمعيات التجارية تتابع الوضع في مختلف المناطق اللبنانية وتعمل على التنسيق في ما بينها لضمان توفير المواد الأساس، إذ يتوقع أن يكفي المخزون الغذائي لفترة تراوح ما بين ثلاثة وأربعة أشهر، بينما تتبع الشركات الغذائية الكبرى توجيهات تضمن وجود احتياط يكفي لفترات طويلة".