Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رعيان الجنوب اللبناني... أناشيد الرزق فرسان الحرب

أرقام أممية صادمة عن تدمير مراكز جمع الحليب وتوزيع اللحوم في لبنان

يقف رعيان إلى جوار خرافهم متمسكين بأرض الجنوب اللبناني في وجه القصف (نيويورك تايمز)

ملخص

خلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بين عامي 1978 و2000 ظهرت الماشية كنوع من المقاومة الاقتصادية، إذ كان الأهالي يعاندون إسرائيل بالتمسك بأرضهم ورعاية مواشيهم على رغم التضييق المستمر

حتى الرمق الأخير وقف المعمر الجنوبي في النبطية في لبنان علي قدوح المعروف بأبو حسين متكئاً إلى عصاه وقطيعه، إلى أن زلزلت الغارات الإسرائيلية ما تبقى من عمره، وأردته صباح يوم الثلاثاء الماضي مضرجاً بحبه لبلده، رافضاً ترك بيته وقطيعه.

لم يهزمه العمر، بقي الراعي التسعيني يرافق ماشيته على رغم الأهوال التي دمرت عالمه البسيط، قتلته الغارات الإسرائيلية التي سبق وقضت على أماكن مدينة النبطية التي رثاها أهلها، بشوارعها وأسواقها وبأسماء الأزقة والدكانين الطاعنة في الذاكرة.

وفي مقابلة كان قد أجراها معه إعلام لبناني قبل نحو عامين عرف قدوح نفسه بأنه "الرجل الجدع والفارس وابن الجرد"، وأنشد مواويل جنوبية، وجلجلت ضحكته ولمعت عيناه ببريق طفولي وهو يقول إنهم (أي الرعيان) كانوا يرضعون من العنزة إذا ما عطشوا في البرية.

بجملته هذه حكى الراحل أبو حسين كبير رعيان النبطية عن علاقة الراعي بالأرض والقطعان التي نظنها عدداً لنكتشف أن لكل منها مكانة في قلب راعيها وربما صفة أو اسم.

 

ليست المرة الأولى التي يروح ضحيتها راع فكثير ما رصدت وسائل الإعلام خطف أو قتل إسرائيل لرعيان أو لماشية على الشريط الحدودي، هؤلاء الرعيان الذين لا حدود لمواويلهم ولا يعترفون لا هم ولا ماشيتهم التي يسرحون بها بخطوط زرقاء أو حمراء. فما هو وضع الرعيان ومواشيهم بعد وقف الحرب التي أتت على كل شيء في جنوب لبنان؟

الحروب المتتالية

تعتبر تربية المواشي من الركائز الأساسية للقطاع الزراعي في جنوب لبنان، ومهنة تاريخية توفر العيش الكريم لعدد كبير من الأسر في الأرياف، وتسهم في الأمن الغذائي المحلي.

مكان مبيتها عند الجنوبيين يسمى "السيرة" وتلفظ "السيري". وكانت لا تخلو القرى من رعيان يملؤون الجبال والسهول وصولاً إلى السواحل. وعرف عن الاقتصاد الزراعي الجنوبي اعتماده على الماشية وزراعة التبغ والحمضيات على السواحل.

تمثل الماشية نبض الحياة اليومية الريفية، ويضفي صوت أجراسها وإنشاد راعيها ألحاناً تعطي إيقاعاً جميلاً لرتابة الحياة الهادئة. وفي جنوب لبنان كان بقاؤها شكلاً من الصمود قبل تحرير الجنوب عام 2000 وبعده وحتى اليوم.

 

 

فالمواشي من الأبقار والماعز والخراف تجسد الأمان والاعتماد على الذات، وهي ليست مجرد مصدر رزق بل شريك في معركة الحياة، ومعركة البقاء. وتضررت مهنة الرعي منذ أول هجوم إسرائيلي على لبنان عام 1948 في عملية حيرام عندما احتلت إسرائيل 15 قرية جنوبية، من بينها حولا التي ارتكبت فيها "مجزرة" راح ضحيتها 93 مدنياً.

عملية حيرام هذه أدت إلى نزوح السكان وتدمير الممتلكات الزراعية، بما في ذلك المواشي، إضافة إلى الاعتداءات المتكررة منذ عام 1949 حتى 1978 على رغم توقيع اتفاقية الهدنة في 23 مارس (آذار) 1949. شملت هذه الاعتداءات غارات جوية وقصف مدفعي، مما أدى إلى تدمير المنازل والمزارع ونفوق المواشي.

وخلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان التي امتدت منذ 1978 حتى عام 2000، كانت الماشية نوعاً من المقاومة الاقتصادية، إذ كان الأهالي يعاندون إسرائيل بالتمسك بأرضهم ورعاية مواشيهم على رغم التضييق المستمر، فالماشية كانت وسيلة للبقاء حين أغلقت الأسواق وتقطعت السبل.

ظل المزارع الجنوبي يخرج في ساعات الصباح الأولى إلى المراعي، متحدياً القيود والخوف من الألغام أو التعديات، وكانت الماشية جزءاً من منظومة الحياة اليومية التي أبقت على رمق الحياة في الجنوب.

استقرار ما قبل العاصفة

بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، شهدت مهنة تربية المواشي تحسناً ملحوظاً نتيجة الاستقرار النسبي وعودة الأهالي إلى قراهم. وفقاً لتقرير "أطلس لبنان" الصادر عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، ولكن تربية الأغنام والماعز تركزت بشكل خاص في منطقة البقاع، التي تعتبر موطنها التاريخي.

على رغم عدم توافر بيانات محددة حول أعداد المواشي في تلك الفترة، إلا أن التحسن الاقتصادي والاستقرار النسبي بعد التحرير أسهما في تعزيز مهنة تربية المواشي في جنوب لبنان.

خلال الفترة بين 2000 و2006، أسهمت الاستثمارات العامة في إعادة الإعمار، مما أدى إلى انتعاش اقتصادي شمل القطاع الزراعي. ومع ذلك، تأثرت هذه التوجهات الاقتصادية بالصدمات السياسية في عامي 2005 و2006، مما أثر سلباً في استمرارية النمو في هذا القطاع.

في عام 2022 أظهر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن القطاع الزراعي يشكل 21 في المئة من إجمالي الإنتاج في لبنان، مع مساهمة كبيرة من تربية المواشي. كما أفاد البنك الدولي عام 2023 بأن 25 في المئة من سكان الريف في جنوب لبنان يعتمدون على تربية المواشي كمصدر دخل رئيس، بخاصة في المناطق الحدودية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبحسب تقرير لوزارة الزراعة اللبنانية عام 2023 فإن 35 في المئة من إجمالي الإنتاج الوطني للحوم والألبان مصدره جنوب لبنان. إلا أن الإنتاج تراجع 40 في المئة خلال الأعوام الثلاثة الماضية بسبب الأزمات الاقتصادية والحرب.

نعي قطاع الرعي

أما التحديات التي تواجه مهنة الرعي وتربية المواشي فتتلخص في الخسائر الجسيمة والمباشرة أثناء الحرب الراهنة، حيث تعرضت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية للدمار، إضافة إلى نفوق أعداد كبيرة من الماشية.

وتقدر الخسائر الاقتصادية في القطاع الزراعي جنوب لبنان بنحو 2.5 مليار دولار أميركي بحسب تقرير البنك الدولي لعام 2023. أما المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فاعتبرت عام 2023 أن العمليات العسكرية أجبرت الآلاف على النزوح من المناطق الجنوبية مما حال دون رعاية الماشية وتوفير الأعلاف اللازمة، وأدى إلى ارتفاع معدلات نفوق الحيوانات.

التحديات التقليدية

لا يختلف لبنانيان على أن الأسباب السياسية والحروب ليست وحدها من أجهز على مهنة الرعي وتربية الماشية. فعلى رغم أن نتائج الحروب التي تتالت على الجنوب والنزوح الداخلي والهجرة إلى الخارج دفعت إلى التخلي عن القطيع الذي كان مورد الرزق وتحول إلى مصدر قلق لأصحابه، جعلت المركزية الإدارية الشعب ينزح نحو العاصمة بيروت للدراسة والعمل، وهو أيضاً سبب لا يستهان به.

وبعد أن كان سكان الجنوب يعملون في فلسطين لعقود طويلة، وجدوا أنفسهم يتجهون إلى بيروت وضواحيها بعد عام 1948 أو للسفر إلى الخارج، ما اضطر كثيرين إلى بيع مواشيهم للحاق عجلة الحياة السريعة في مهن تتعرض لأخطار أقل.

ويعتبر نقص الموارد أحد التحديات الاقتصادية المهمة، إذ يعتمد مربو الماشية على الأعلاف المستوردة بنسبة كبيرة، ولعب ارتفاع أسعار الأعلاف 120 في المئة منذ عام 2020 دوراً في تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي. كما تعاني مناطق جنوب لبنان من نقص في المياه اللازمة لري المراعي الطبيعية، مما يؤدي إلى انخفاض المساحات المتاحة لرعي الماشية بحسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة (فاو).

 

 

ويتوج غياب الدعم الحكومي الفعلي لتربية المواشي والزراعة عامة بقية التحديات، فيجد المزارع نفسه وحيداً من دون دعم تقني أو مالي أو برامج تسليف في خضم الأزمات والحروب والظروف.

وفي عام 2023 دمر الكثير من مراكز جمع الحليب وتوزيع اللحوم في عدة مناطق جنوبية. هذه المراكز كانت تدعم 15 في المئة من الإنتاج الحيواني الوطني. وبلغت كلفة إنتاج كيلوغرام واحد من اللحوم أو الحليب في جنوب لبنان ضعف متوسط الكلفة مقارنة بالدول المجاورة بسبب الأزمات المتعددة بحسب "الفاو".

كل ما سبق تسبب في تراجع عدد مربي المواشي، فبحسب تقرير البنك الدولي عام 2023 انخفض عدد الأسر التي تعتمد على تربية المواشي كمصدر دخل رئيس 25 في المئة منذ بداية الحرب الأخيرة.

تسطر كل التقارير التي أصدرت حتى عام 2023 واقعاً مريراً، لكن الحرب التي أنهاها اتفاق قبل أيام اجتثت سكان الجنوب الذين دمرت قراهم وبيوتهم على الشاشات أمام أعينهم. وظل الرعيان الذين بقوا فيها يواجهون الموت يومياً خلال أيام الحرب مع قطعانهم.

وربما يمكن تصور ماذا فعل الرعيان في الجنوب بماشيتهم. بعضهم باعها بأثمان زهيدة أو نقلها إلى مكان ظنه أكثر أماناً، وبعضهم تركها تسرح باحثة عن قوتها بعد أن نجا بعائلته. وآخرون كالعم التسعيني أبو حسين بقي يسرح بها حتى الرمق الأخير.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير