ملخص
استعدت روسيا على مدى سنوات لتشديد العقوبات عليها منذ تعرضت لفرض عقوبات عام 2014 أثر ضمها شبه جزيرة القرم. فعلى مدى نحو عقد من الزمن خفضت روسيا نصيب الدولار الأميركي، وحتى اليورو، من احتياطاتها الأجنبية
على مدى ما يقارب 3 سنوات منذ بدء الحرب في أوكرانيا بنهاية فبراير (شباط) عام 2022 تتعرض روسيا لعقوبات اقتصادية ومالية أميركية وغربية متتالية لم يسبق لها مثيل. مع ذلك يواصل الاقتصاد الروسي النمو بقوة وبمعدلات تفوق نظرائه في الدول المتقدمة وبنسبة أعلى من متوسط النمو العالمي، بل إن ثقة الروس في اقتصادهم جيدة، مقارنة بغيرها من دول الاقتصادات الصاعدة، على رغم ارتفاع سعر الفائدة ومعدلات التضخم.
وحتى الآن يبدو الاقتصاد الروسي على طريق تحقيق نسبة النمو المستهدفة عند 3 في المئة، بل إن المؤشرات تدل على أنه قد يتجاوزها قليلاً محققاً نسبة نمو مماثلة للعام الماضي 2023 عند 3.6 في المئة. ففي الربع الثالث من هذا عام 2024 حقق الناتج المحلي الإجمالي الروسي نمواً بنسبة 3.1 في المئة بمعدل ربع سنوي.
ترجع مرونة الاقتصاد الروسي وقدرته على الاحتماء من أضرار العقوبات إلى عوامل كثيرة لا تقتصر على استمرار تصدير الطاقة وتحقيق عائدات منها على رغم حظر أوروبا استيراد الغاز والنفط وفرض سقف سعر للنفط الروسي وتوالي العقوبات التي تطاول أسطول الناقلات التي تشحن النفط بحراً. ربما يكون تعزيز التعاون مع شركاء تجاريين واقتصاديين خارج دائرة الغرب أحد أهم عوامل استقرار اقتصاد روسيا حتى الآن وقدرته على تجاوز أضرار العقوبات.
تأتي العلاقات مع الصين في المقدمة، تليها الهند وغيرها من دول آسيا وبعض دول أميركا اللاتينية التي مكنت روسيا من إيجاد مشترين جدد لصادراتها من الطاقة التي توقفت أوروبا عن استيرادها بضغط أميركي.
الاستعداد والتحوط
إنما هناك عاملان في غاية الأهمية ساعدا الحكومة الروسية على تأمين الاقتصاد ضد أخطار العقوبات المشددة، وهما الاستعداد المسبق لاحتمالات العقوبات والسياسات النقدية والمالية للحكومة التي عززت توسع النشاط الاقتصادي، بالتالي استمرار مسيرة النمو.
استعدت روسيا على مدى سنوات لتشديد العقوبات عليها منذ تعرضت لفرض عقوبات عام 2014 أثر ضمها شبه جزيرة القرم. فعلى مدى نحو عقد من الزمن خفضت روسيا نصيب الدولار الأميركي، وحتى اليورو، من احتياطاتها الأجنبية وزادت من نصيب الذهب والعملات الأخرى مثل اليوان الصيني والين الياباني. كما طورت روسيا نظاماً لمراسلات المعاملات المالية بديلاً لنظام "سويفت" العالمي الذي تهيمن عليه أميركا والغرب، لكنه يظل محدوداً لمشاركة عدد قليل من الدول التي تعدها روسيا حليفة لها فيه. كما تحسبت روسيا للانسحاب شركات بطاقات الائتمان الكبرى مثل "فيزا" و"ماستر كارد". وفي مقابلة مع شبكة "سي أن أن" الأميركية هذا الصيف قال وزير الاقتصاد الروسي السابق أندريه نيتشييف إن "خروج شركات (ماستركارد) و(فيزا) لم يكن له تأثير في نظام المدفوعات الداخلية في البلاد، لأن البنك المركزي كان لديه نظام بديل للمدفوعات بالفعل"، إذ سبق أن أطلقت روسيا عام 2017 بطاقة الائتمان "مير كارد" للتعامل الائتماني في البلاد.
وواصلت روسيا تقليص تعاملاتها الخارجية بالدولار واليورو إلى حد كبير. وهكذا أزاحت العملة الصينية، اليوان، الدولار من مكانته في التداول في السوق الروسية. ففي شهر مايو (أيار) الماضي كان اليوان أكثر عملة تداول أجنبية في بورصة موسكو (مويكس) ووصل نصيبه من حجم تعاملاتها إلى نسبة 53.6 في المئة.
العلاقات مع الصين
في سياق سعيها إلى الالتفاف على العقوبات الأميركية والغربية عززت روسيا علاقاتها مع شركاء مثل الهند وإيران وغيرهما، لكن العلاقة الأهم كانت مع الصين التي أصبح أكبر مستورد لصادرات الطاقة الروسية، فضلاً عن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني تشي جينبينغ يتشاركان في الموقف من هيمنة الولايات المتحدة على النظام الاقتصادي العالمي.
لكن الصين لا تساعد روسيا مجاناً، ليس مثلاً كما فعلت أميركا مع دول الحلفاء الأوروبيين في الحرب العالمية الثانية. أصبحت الصين أصبحت الصين تورد لموسكو تقريباً ثلث حاجاتها الاستيرادية، وما يصل إلى نسبة 90 في المئة من الإلكترونيات الدقيقة التي تستخدم في صناعة الصواريخ والمسيرات والدبابات.
لا تمثل التجارة بين موسكو وبكين سوى نسبة ضئيلة من التجارة الخارجية الصينية، لكنها بالنسبة لروسيا تشكل نحو ثلث تجارتها الخارجية. والقدر الأكبر من صادرات روسيا إلى الصين هو من النفط والغاز، بينما تستورد من منها السلع والبضائع المختلفة من الإلكترونيات والسيارات إلى الغسالات والثلاجات.
وتدفع موسكو مقابل وارداتها من بكين باليوان الصيني، وتدفع بكين ثمن الطاقة بالروبل. لذا يضطر المسؤولون الروس إلى مراقبة وضع الروبل مقابل اليوان، إذ انخفض سعر صرف الروبل بنسبة 7 في المئة أمام اليوان الصيني هذا العام. وهذا سبب آخر غير معدل التضخم اضطر البنك المركزي إلى تشديد السياسة النقدية برفع سعر الفائدة. ووصل سعر الفائدة حالياً إلى نسبة 21 في المئة ويتوقع أن يرتفع أكثر، ربما إلى نسبة 25 في المئة.
ومن شأن استمرار أسعار الفائدة مرتفعة أن يخفض إنفاق الشركات والمستهلكين، لذا يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ نمو الاقتصاد الروسي بشدة العام المقبل ليكون عند نسبة 1.3 في المئة فقط. حتى بنك التنمية الروسي، وهو بنك رسمي، خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العام المقبل إلى نسبة اثنين في المئة، وإن كانت التوقعات الرسمية متفائلة قليلاً عن تلك النسبة. وتحتاج روسيا للحفاظ على قيمة الروبل دون التراجع أكثر أمام اليوان وغيره من عملات الشركاء التجاريين لتتمكن موسكو من دفع مقابل وارداتها منهم.
شراكات جديدة
إضافة إلى الصين، عززت روسيا علاقاتها التجارية مع دول عدة منها دول مجاورة من الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق. وعبر تلك الدول تتمكن روسيا من استيراد ما تحول العقوبات الغربية دون قدرتها على استيراده ومنها مكونات في الصناعات المهمة في البلاد من طريق "طرف ثالث". ومن الدول الإقليمية الأخرى التي عززت روسيا علاقاتها معها تركيا، وهي عضو في حلف "الناتو"، لكنها تحتفظ بعلاقات تجارية واقتصادية قوية مع روسيا.
وإلى جانب تركيا وبعض الدول الأخرى غير الصين، تصدر روسيا النفط والغاز إلى الهند التي ينمو اقتصادها بصورة سريعة ويحتاج إلى الطاقة التي يحصل عليها من روسيا بأسعار تفضيلية. وقبل أسابيع، ذكر تقرير لوكالة "بلومبيرغ" أن روسيا تعمل على في بناء مسارين تجاريين جديدين للنقل يربطان آسيا وأوروبا، وذلك سعياً منها لإضعاف العقوبات المفروضة عليها جراء حرب أوكرانيا، بخاصة مع التأثير السلبي لاضطرابات الشرق الأوسط على التجارة العالمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن أن تعزز شبكات الشحن البحري والسكك الحديد عبر إيران وممر بحري في القطب الشمالي محور موسكو نحو القوتين الآسيويتين، الصين والهند، بعيداً من أوروبا، بحسب ما أشار تقرير الوكالة. كما أن لتلك الشبكات القدرة على جعل روسيا محوراً في قلب عديد من عمليات التجارة الدولية، حتى وسط محاولات الولايات المتحدة وحلفائها زيادة عزلة الرئيس فلاديمير بوتين بسبب الحرب في أوكرانيا. ويمكن أن تقلل هذه المسارات من زمن النقل بنسبة تراوح ما بين 30 و50 في المئة، مقارنة بممر البحر الأحمر وقناة السويس، وتجنب المشكلات الأمنية الناجمة عن هجمات جماعة الحوثي المدعومة من إيران على سفن الشحن في الممر المائي، بسبب الحرب على غزة.
ونقلت وسائل إعلام روسية عن مسؤولين في وزارة الدفاع الروسية قولهم إن روسيا تستعد لاستثمار أكثر من 25 مليار دولار لتحديث الطرق عبر إيران، وتحسين المرافق على طول الشاطئ الروسي في القطب الشمالي، بما في ذلك أسطول من كاسحات الجليد المصنعة محلياً. كما تخطط موسكو لفرض دوريات على طريق بحر الشمال بشبكة من قواعد الطائرات المسيرة.
التوسع الاقتصادي
إذاً هدف سياسة التشديد النقدي هو دعم العملة الوطنية، لكن رفع سعر الفائدة يمكن أن يفسر أيضاً على أنه أداة السياسة النقدية لخفض عليان النشاط الاقتصادي. فعلى رغم الحرب والعقوبات يتوسع الاقتصاد الروسي بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة. وحسب تحليل لمجلة "الإيكونوميست" قبل أسابيع وسبقه تحليل أيضاً لصحيفة "الفاينانشيال تايمز" اعتمد على بيانات وأرقام من مؤسسات غربية فإن "اقتصاد الحرب" لم يكن عبئاً على روسيا، بل على العكس كان دافعاً قوياً للنمو الاقتصادي.
شهد الاقتصاد الروسي أفضل نمو له منذ 10 سنوات، إذ حقق الناتج المحلي الإجمالي الروسي نمواً العام الماضي بنسبة 3.6 في المئة، أي أعلى من متوسط معدل النمو العالمي، وأفضل بكثير من غالب الاقتصادات الغربية الكبرى. ويتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة مماثلة هذا العام أيضاً. وتضمنت الموازنة الروسية الجديدة التي أعلنتها الحكومة في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي زيادة في الإنفاق العسكري بنحو الربع (نسبة 25 في المئة تقريباً). ويقدر أن الإنفاق على الدفاع وأجهزة الأمن (وهي بند مستقل في الموازنة يشمل الاستخبارات وغيرها) يمكن أن يصل إلى 17 تريليون روبل (170 مليار دولار). وتشكل موازنة الدفاع والأمن معاً ما يصل إلى نسبة 40 في المئة من امالي الإنفاق الحكومي، ونسبة 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويشكل الإنفاق الدفاعي وحده نسبة 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هي الأعلى منذ أيام الحرب الباردة.
اتخذت السلطات الروسية عدة إجراءات منذ فترة لتقليل تأثير سياسة التشديد النقدي سلبياً في الاقتصاد نتيجة ارتفاع كلف الاقتراض. من بين تلك الإجراءات عدة برامج حكومية سهلت للأسر الروسية تعليق مدفوعات الديون وسهلت للشركات الاقتراض بكلفة أقل مع دعم الحكومة لها بتعويض البنوك عن فارق سعر الفائدة. على سبيل المثال هناك برنامج دعم قروض الرهن العقاري الذي جعل الأسر تقترض بنسبة 8 في المئة، بينما نسبة الفائدة الأساسية أضعاف ذلك.
تحديات مستقبلية
على رغم السياسات المالية للحكومة التي شجعت النمو فإن كثيراً منها قد يكون من الصعب استمراره لفترة طويلة. ويرى الخبراء والمحللون أن عامل اقتصاد الحرب الذي ربما حافظ على استمرار نمو وتوسع الاقتصاد الروسي وخفف أعباء المعيشة على المواطنين الروس سيكون السبب في صعوبات اقتصادية تواجهها موسكو في العامين أو الثلاثة المقبلة، بخاصة مع زيادة الإنفاق العسكري لتلبية متطلبات الحرب في أوكرانيا، التي لا تبدو آفاق مستقبلها واضحة، وأيضاً بسبب الضغط على سوق العمل نتيجة نقص العمالة مع زيادة التجنيد للحرب من بين من هم في سن العمل، وكذلك مع هجرة العمالة الوافدة إلى خارج روسيا.
في شهر سبتمبر أقرت حكومة رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين مشروع موازنة 2025 – 2027 التي اعتبر المحللون أنها ستؤدي إلى "تعميق الاختلالات في مالية الحكومة"، حسب نص مشروع الموازنة الذي ترجمته وكالة "رويترز" عن الروسية. واستند هؤلاء في تحليلهم إلى عامل أساس، وهو الزيادة غير المسبوقة في بند الإنفاق العسكري في الموازنة الجديدة الذي يزيد من أخطار اتساع فجوة الخلل المالي، وذلك على رغم توقع مشروع الموازنة الجديدة نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5 في المئة في العام المقبل 2025.
على رغم أن هذا الإنفاق العام السخي يدعم نمو الناتج المحلي الإجمالي عموماً، فإن المحللين يرون أنه يمثل خطر تدهور مستويات المعيشة للمواطنين الروس في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، كما ذكر تقرير لشبكة "سي أن بي سي" الأميركية. ويصل معدل التضخم في روسيا إلى 9.1 في المئة، ومع رفع سعر الفائدة توقع البنك المركزي أن "تظل الضغوط التضخمية في الاقتصاد عالية بصورة عامة". كما يتوقع أن تواصل الأوضاع المعيشية للروس التدهور، حتى على رغم أن بمقدور المواطنين الآن الإنفاق بسبب ما لديهم من مدخرات، وبسبب أن الإنفاق الحكومي، حتى العسكري منه، يعود على العاملين بزيادة الدخل. وفي تحليل نشره أخيراً، رأى كبير الاقتصاديين في "كابيتال إيكونوميكس" ليام بيتش أن عدم مواجهة الاختلالات في معادلة العرض والطلب في الاقتصاد الروسي سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من ارتفاع الأسعار. وأضاف أنه "بينما سيساعد الدخل الشخصي وزيادة ضرائب الشركات في تمويل بعض من ذلك (بنود مشروع الموازنة لعام 2025) إلا أن الوضع المالي سيظل مائعاً إلى حد كبير. وإلى جانب القيود على جانب العرض سيؤدي ذلك إلى بقاء معدلات التضخم مرتفعة، وستواصل خدمة الديون من قبل الحكومة الارتفاع في ظل وصول عائدات سندات الدين السيادي إلى أعلى المستويات".
تتطلع الأنظار الآن غلى توقعات صندوق النقد الدولي للاقتصاد الروسي التي تصدر الأسبوع المقبل، ويتوقع كثر إلى تعديل في تلك التوقعات عن سابقاتها. يذكر أن مشروع الموازنة الجديدة يستند إلى تقدير نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5 في المئة في العام المقبل 2025.