ملخص
تتصاعد التوترات بين روسيا والغرب مع استمرار بوتين في حرب أوكرانيا وتعزيزه الاقتصاد العسكري والتحالفات مع الصين وإيران. إن سعيه إلى تغيير النظام الدولي يفاقم التحديات الأمنية للغرب ويهدد الاستقرار الإقليمي والعالمي
في السادس من أغسطس (آب) 2024، شنت القوات الأوكرانية هجوماً مفاجئاً عبر الحدود على منطقة كورسك الروسية، وهو أكبر توغل أجنبي في الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. وكان رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معبّراً. فبعد أيام من الهجوم الأوكراني، هاجم بوتين الولايات المتحدة وأوروبا قائلاً: "الغرب يقاتلنا بأيدي الأوكرانيين"، مكرراً وجهة نظره بأن حرب روسيا في أوكرانيا هي في الواقع معركة بالوكالة مع الغرب. لكنه لم يبادر إلى شن هجوم مضاد عسكري فوري. فهو لم يكن على استعداد لإعادة نشر أعداد كبيرة من القوات بعيداً من عملياتها في شرق أوكرانيا، حتى لاستعادة أراضٍ داخل الوطن. وبعد ثلاثة أشهر، وبينما كانت القوات الأوكرانية لا تزال في كورسك، لجأت موسكو إلى استقدام قوات من كوريا الشمالية للمساعدة في طردها، وهي المرة الأولى منذ أكثر من قرن تدعو فيها روسيا قوات أجنبية إلى أراضيها.
في الواقع، بعد ما يقارب ثلاثة أعوام على غزو روسيا الشامل جارتها، فإن تصرفات موسكو تؤكد كيف أصبح بوتين أكثر التزاماً من أي وقت مضى بحربه مع أوكرانيا ومواجهته الأوسع مع الغرب. على رغم أن الصراع هو في المقام الأول مسعى إمبريالي إلى إنهاء استقلال أوكرانيا، فإن أهداف بوتين النهائية هي إعادة النظر في النظام الذي ساد بعد الحرب الباردة في أوروبا، وإضعاف الولايات المتحدة، وإقامة نظام دولي جديد يمنح روسيا المكانة والنفوذ اللذين يَعتقد أنها تستحقهما.
وهذه الأهداف ليست جديدة، لكن الحرب زادت من عزم بوتين وضيقت خياراته. ولا مجال للعودة إلى الوراء: فقد نجح بالفعل في تغيير المجتمع والاقتصاد والسياسة الخارجية الروسية من أجل تحسين وضع الكرملين في مواجهة الغرب. وبعدما قبلت روسيا دور النظام المارق، بات من غير المرجح أن ترى حاجة إلى ضبط النفس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والآن أصبح المسرح مهيأ لتكثيف المواجهة مع روسيا، على رغم الاهتمام الواضح من جانب إدارة ترمب القادمة بتطبيع العلاقات مع موسكو. والواقع أن الحرب لا تسير على ما يرام بالنسبة إلى أوكرانيا، ويرجع هذا جزئياً إلى أن المساعدة المحدودة التي أرسلها الغرب إلى كييف لا تتناسب مع المصالح الكبيرة التي يدّعي أنه يمتلكها في الصراع. ونتيجة لهذا، فمن المرجح أن تخرج روسيا من الحرب وهي أكثر جرأة، وبمجرد أن تعيد بناء قدرتها العسكرية، فإنها سوف تتلهف لخوض معركة أخرى لتعديل النظام الأمني في أوروبا. علاوة على ذلك، سوف يسعى الكرملين إلى استغلال أية تنازلات من إدارة ترمب لإنهاء الحرب الحالية، مثل تخفيف العقوبات، لتعزيز موقفها في الحرب المقبلة. ومن الجدير بالذكر أن روسيا تهيّئ نفسها بالفعل من خلال عمليات التخريب وغيرها من العمليات الخاصة التي أطلقتها في مختلف أنحاء أوروبا، ومن خلال تحالفها مع جهات فاعلة مارقة أخرى، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية. والواقع أن الدول الأوروبية لم تحرز سوى تقدم طفيف في استعدادها لمواجهة التحدي الروسي بمفردها مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة أعوام. وبحسب الطريقة التي ستنتهي بها الحرب في أوكرانيا، فإن احتمال اندلاع حرب أخرى مع روسيا يلوح في الأفق.
والسؤال المطروح ليس ما إذا كانت روسيا ستشكل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها، بل كيف يمكن تقييم حجم الخطر والجهد المطلوب لاحتوائه. وستظل الصين المنافس الرئيس للولايات المتحدة. ولكن حتى مع تركيز قدر كبير من اهتمامها على آسيا، لا تستطيع واشنطن تجاهل عدو عنيد وانتقامي في أوروبا، وبخاصة إذا كان يشكل تهديداً عسكرياً مباشراً لأعضاء حلف شمال الأطلسي.
إن الحالة الروسية هي أيضاً مشكلة أو قضية عالمية. فاستعداد بوتين لغزو دولة مجاورة، والاعتداء على المجتمعات الديمقراطية، وانتهاك المعايير المقبولة عموماً، وقدرته الواضحة على الإفلات من العقاب، هي أمور تمهد الطريق للآخرين ليحذوا حذوه. وسيؤدي توفير الكرملين المعدات العسكرية والخبرات الفنية لخصوم الولايات المتحدة الحاليين والمحتملين إلى تضخيم هذه التهديدات، مما يضاعف التحديات التي ستواجهها واشنطن من الصين وإيران وكوريا الشمالية وأية دولة أخرى تدعمها روسيا.
ولذلك، يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا الاستثمار في ردع روسيا الآن أو تدفعان ثمناً أعظم بكثير في وقت لاحق. إن إدارة ترمب القادمة، على وجه الخصوص، لا تتمتع برفاهية دفع روسيا إلى أسفل قائمة أولوياتها السياسية. وإذا رأى بوتين أن واشنطن تفعل ذلك، فسوف يصبح أكثر جرأة وطموحاً في جهوده الرامية إلى إضعاف الولايات المتحدة وحلفائها، سواء بصورة مباشرة أو من خلال محور الاضطرابات الذي تدعمه روسيا. وفي سبيل منع حدوث ذلك، يتعين على واشنطن وحلفائها مساعدة أوكرانيا في تعزيز موقفها قبل الدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب الحالية. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة محقة في إعطاء الأولوية للصين، ولكن من أجل التنافس بفاعلية مع بكين، يتعين عليها أولاً وضع الأمن الأوروبي على المسار الصحيح. ويتعين على واشنطن أن تظل الجهة الرئيسة الداعمة لهذا الأمن في الوقت الحالي، مع ضمان أن تزيد أوروبا من الاستثمارات المطلوبة للتعامل بصورة فضلى مع دفاعها في الأعوام المقبلة. ومن خلال اتخاذ الخطوات اللازمة لمواجهة روسيا اليوم، يمكن للولايات المتحدة وأوروبا ضمان أن يكون التهديد الذي يواجهانه غداً قابلاً للإدارة.
غارق حتى القاع
أحدث بوتين تغييرات في روسيا تضمن بقاءها تحدياً للغرب طوال فترة وجوده في السلطة، وربما لفترة طويلة بعدها. فالمواجهة هي الآن السمة المميزة للسياسة الخارجية الروسية. وفي الواقع، يبرر بوتين نظامه وإجراءاته من خلال الحديث عن "الصراع الوجودي" مع الغرب. ففكرة أن الحضارة الروسية هي في صراع دائم مع أعدائها الغربيين تعزز الأساس الأيديولوجي لحكمه، وهو مصدر الشرعية الذي يحتاج إليه الآن لحماية قبضته على السلطة.
وقد أدى اعتماد بوتين المتزايد على القمع إلى توليد أخطار على استقرار نظامه. وتُظهر بحوث العلوم السياسية أن القمع فعال، بمعنى أنه يزيد من مدة بقاء المستبدين في السلطة. لكن الاعتماد عليه بصورة كبيرة، مثلما فعل بوتين، يمكن أن يزيد احتمال ارتكاب القادة أخطاء تزعزع الاستقرار. فالتكتيكات القمعية تجبر الناس على إخفاء آرائهم الخاصة وتجنب مشاركة أي شيء سوى ما ترغب الحكومة في سماعه، مما يعني أن المستبد أيضاً يفقد القدرة على الوصول إلى المعلومات الدقيقة. كذلك، تؤدي مستويات القمع المرتفعة إلى تراكم حال عامة متزايدة من الاستياء الشعبي، مما يجعل نوبة بسيطة من السخط تتحول بسرعة إلى مشكلة للنظام. ومن أجل التخفيف من هذه الأخطار وتعزيز قبضته على السلطة، استخدم بوتين سيطرته على المجال الإعلامي لإقناع الشعب الروسي بأن بلادهم تخوض حرباً مع الغرب الذي يسعى إلى تفكيكها.
لقد زادت الحرب من عزيمة بوتين وقلصت خياراته
وأعاد بوتين توجيه الاقتصاد الروسي لخدمة حربه. فمن المقرر أن يصل الإنفاق الدفاعي الروسي إلى أعلى مستوياته منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، مع خصخصة 145 مليار دولار في موازنة 2025، وهو ما يعادل 6.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من ضعف مبلغ الـ66 مليار دولار الذي خصصته روسيا للدفاع عام 2021، العام السابق للغزو. ومن المرجح أن يكون الحجم الحقيقي لمثل هذا الإنفاق أعلى من ذلك، وربما يتجاوز ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بمجرد احتساب أشكال أخرى غير رسمية من النفقات المتعلقة بالدفاع. (وعند تعديل الأرقام لتأخذ في الاعتبار الفروقات الكبيرة في تكافؤ القوة الشرائية بين روسيا والولايات المتحدة، نجد أن الإنفاق الدفاعي الفعلي لروسيا أعلى بكثير من 145 مليار دولار، متجاوزاً 200 مليار دولار). وقد أضافت المصانع الروسية التي تنتج المعدات العسكرية نوبات عمل لزيادة الإنتاج، وانتقل العمال من القطاعات المدنية إلى القطاعات العسكرية، حيث الأجور أعلى، وارتفعت المدفوعات مقابل الخدمة العسكرية بصورة كبيرة. وهكذا، أصبحت الحرب آلية تُستخدم لنقل الثروة، من خلال توجيه الأموال إلى المناطق الفقيرة في روسيا، وانتقل عدد من النخب الاقتصادية إلى قطاع الدفاع للاستفادة من الفرص المربحة. وتكيفت النخب الآن مع التكوين الحالي للنظام، مما مكنها من الصمود لا بل حتى الاستفادة وتحقيق الأرباح.
وبعدما تحمل بوتين عبء تحويل الاقتصاد إلى وضعية حرب، والشعور بالضغوط الناجمة عن المصالح المكتسبة الجديدة، من غير المرجح أن يتراجع عن هذه التغييرات بسرعة. وبعد انتهاء القتال في أوكرانيا، من المرجح أن يسعى بدلاً من ذلك إلى تبرير استمرار اقتصاد زمن الحرب. بالاسترجاع، كان هذا الاتجاه الذي سلكه الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، فبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية سرعان ما بدأ في الحديث عن خطط موسكو الخمسية الجديدة باعتبارها تحضيراً ضرورياً للحرب الحتمية المقبلة.
إن السياسة الخارجية الروسية تشهد أيضاً تحولات يصعب التراجع عنها. فقد جعل غزو أوكرانيا من المستحيل على روسيا بناء علاقات مع الغرب، واضطرت موسكو إلى البحث عن فرص في أماكن أخرى. وربما كانت شراكاتها المتعمقة مع الصين وإيران وكوريا الشمالية مدفوعة إلى حد كبير بالضرورة: فروسيا تحتاج إلى مساعدة من هذه الدول لدعم اقتصادها وآلتها الحربية. لكن موسكو تدرك أيضاً أن العمل مع هذه البلدان يجعلها في وضع أفضل للحفاظ على المنافسة الطويلة الأجل مع الولايات المتحدة وحلفائها. والواقع أن الدعم الذي تقدمه هذه البلدان لا يجعل روسيا أقل عزلة وأقل تأثراً بأدوات الحرب الاقتصادية الأميركية وحسب، بل يجعلها تستفيد أيضاً من وجود حلفاء يعملون جنباً إلى جنب وبالتوازي لإضعاف الغرب. وقد بذل الكرملين قصارى جهده ووضع كل ثقله في هذه الشراكات، فتخلى عن الحذر في التعاون مع كوريا الشمالية، وتغلب على قلقه إزاء الإفراط في الاعتماد على الصين، ورفع مستوى العلاقات مع إيران إلى ما هو أبعد من التفاعلات الشكلية والتعاملات العابرة. وكل هذا يشكل إستراتيجية جديدة لموسكو، وهي إستراتيجية لن تختفي ببساطة بمجرد أن تهدأ المعارك أو تنتهي في أوكرانيا.
روسيا تعيد بناء جيشها
إن التهديد العسكري الروسي لن يختفي أيضاً. فالسؤال حول إعادة بناء الجيش الروسي لا يتعلق بإمكانية حدوث ذلك بل بتوقيت حدوثه. حتى لو لم تستطع روسيا الحفاظ على إنفاقها الحربي الحالي، فمن المرجح أن تبقى الموازنة الدفاعية لفترة طويلة أعلى بكثير من المستويات التي كانت عليها قبل الحرب. ومن غير المحتمل أن يعود الجيش الروسي إلى حجمه الصغير نسبياً الذي كانت روسيا تعتمد عليه قبل الحرب. أحد الدروس التي استخلصها قادة الجيش الروسي من حرب أوكرانيا هو أن الجيش الروسي لم يكن "سوفياتياً" بما يكفي، إذ كان يفتقر إلى الحجم والقدرة على تعويض الخسائر. والواقع أن الجيش الروسي كان عالقاً في حالة انتقالية غير مكتملة، إذ إنه اكتسب بعض القدرات المتقدمة أو الحديثة، ولكنه احتفظ أيضاً ببعض خصائص الحقبة السوفياتية، بما في ذلك التجنيد الإجباري وثقافة القيادة المركزية التي كانت تثبط روح المبادرة. الآن، من المرجح أن تحافظ روسيا على قوة عسكرية كبيرة بهيكل موسع وتوزيع أكبر للقوى البشرية، على رغم أنها ستظل تعتمد على التعبئة في حال الحرب لتقليل كلفة جيش كبير دائم في أوقات السلم.
وإعادة بناء الجيش لا تقتصر على العتاد وحسب بل تشمل أيضاً القدرة على إجراء عمليات قتالية واسعة النطاق. لقد أظهر الجيش الروسي قدرته على التعلم كمنظمة، فهو قادر على توسيع نطاق استخدام التكنولوجيا الجديدة مثل الطائرات من دون طيار وأنظمة الحرب الإلكترونية في ساحة المعركة، وسيصبح قوة متغيرة بعد تجربته في أوكرانيا. وعلى رغم أدائه الضعيف في البداية، فقد أثبت الجيش الروسي قدرته على الصمود وتحمل مستويات عالية من الاستنزاف.
علاوة على ذلك، فإن عملية إعادة البناء هذه سوف تواجه رياحاً معاكسة، بخاصة بسبب القدرات المحدودة على التصنيع الدفاعي ونقص العمالة الماهرة. في الحقيقة، لم تتمكن الصناعة الروسية من توسيع إنتاج الأنظمة العسكرية الرئيسة والأسلحة بصورة كبيرة. وتظل العمالة والمعدات الآلية تشكل قيوداً أساسية بسبب العقوبات الغربية وضوابط التصدير. ومع ذلك، تمكنت روسيا من زيادة إنتاج الصواريخ والأسلحة الدقيقة والطائرات من دون طيار والذخائر المدفعية بصورة كبيرة، كما أقامت نظاماً فعالاً لإصلاح المعدات الموجودة وتجديدها. لكنها ما زالت تعتمد أيضاً بصورة كبيرة على المخزونات القديمة الموروثة من الاتحاد السوفياتي في ما يتعلق بمعظم معدات القوات البرية، ومن ثم فإن توسيع قواتها واستبدال خسائرها يستنزف مواردها.
من الآن فصاعداً، سيحمل الجيش الروسي طابعاً مزدوجاً، إذ سيتمتع بنقاط قوة ونقاط ضعف بارزة بالقدر نفسه. من ناحية، أصبح أفضل بكثير في مجال الاستهداف الديناميكي، والضربات الدقيقة، ودمج الطائرات من دون طيار في العمليات القتالية، واعتمد أساليب أكثر تقدماً لاستخدام الأسلحة الطويلة المدى الموجهة بدقة. وقد تكيفت روسيا، لا بل حتى طورت تكتيكات فعالة في بعض الحالات، للتعامل مع القدرات الغربية التي واجهتها في أوكرانيا. وبمرور الوقت، أعادت القوات الروسية تنظيم الخدمات اللوجستية والقيادة والتحكم، وابتكرت طرقاً لتقليل فاعلية معدات الغرب واعتراض الذخائر الغربية، وتعلمت العمل في ظل وجود الأسلحة الغربية البعيدة المدى الموجهة بدقة، إضافة إلى المعلومات الاستخباراتية، وعمليات الاستهداف الدقيقة.
وينبغي أن يدق ذلك ناقوس الخطر بالنسبة إلى الـ"ناتو". يجادل بعض المحللين بأن الطريقة التي تقاتل بها أوكرانيا حالياً ليست الطريقة التي سيخوض بها الـ"ناتو" حرباً محتملة مع روسيا في المستقبل. ويعتقدون بصورة خاصة أن حلف شمال الأطلسي سيحقق بسرعة تفوقاً جوياً ويحافظ عليه، مما سيغير طبيعة الصراع. وعلى رغم أن هذا قد يكون صحيحاً، فإن القوة الجوية لن تحل كل التحديات التي قد يواجهها الـ"ناتو" في ساحة المعركة. كما أن معظم القوات الجوية الأوروبية تفتقر إلى الذخائر اللازمة لخوض حرب تقليدية طويلة الأمد. ويمكن قياس الوقت اللازم لاستنزاف ترساناتها بالأسابيع، وفي كثير من الحالات بالأيام.
من ناحية أخرى، من المرجح أن يستمر جزء كبير من القوات البرية الروسية في استخدام معدات سوفياتية قديمة الطراز، وسيستغرق الأمر أعواماً لإعادة بناء جودة القوات واستبدال الضباط الذين فُقدوا في أوكرانيا. كما أن قدرة روسيا الدفاعية ستعتمد على ما إذا كان اقتصادها يعمل بأقصى طاقته وما إذا كان قطاع الدفاع قد وصل بالفعل إلى الحد الأقصى من الإنتاج، أو ما إذا كان هناك مجال لزيادة الإنتاج مع دخول المصانع والمرافق الحديثة والمجددة حيّز الخدمة. بصورة عامة، سيظل الجيش الروسي مزيجاً يتألف من مكونات مختلفة، بعضها أصبح أكثر تقدماً وقدرة مما كان عليه في بداية عام 2022، وبعضها الآخر ما زال يستخدم معدات تعود إلى منتصف الحرب الباردة، إن لم تكن أقدم. ومع ذلك، فمن المستبعد تدمير القوات المسلحة الروسية بشكل حاسم وجعلها لفترة طويلة غير قادرة على تشكيل تهديد كبير.
فجوة متزايدة
إن الأخطار الناجمة عن إعادة بناء الجيش الروسي تتفاقم بسبب استجابة الغرب الضعيفة تجاه العدوان الروسي المتزايد. ولا يزال أمام أوروبا طريق طويل قبل أن تصبح مستعدة للتعامل مع التهديد الروسي بمفردها. فالإنتاج الدفاعي الأوروبي غير كاف لتحقيق أهداف إعادة التسليح، على رغم الميزات التي تتمتع بها أوروبا من جهة رأس المال، والأدوات الآلية، وإنتاجية العمل. لقد استنزفت الدول الأوروبية مخزوناتها بصورة كبيرة من خلال نقل معداتها القديمة إلى أوكرانيا، مما حد من قدرتها على تعبئة جيوشها. وستواجه هذه الدول قريباً ضغوطاً مزدوجة تتمثل في تمويل مجهود أوكرانيا الحربي وتعافيها وفي الوقت نفسه استبدال العتاد الحربي الذي استُنفد. بادئ ذي بدء، بالنظر إلى محدودية ترساناتها، إذا أرادت هذه الدول أن تكون مهيأة للتعامل مع العدوان الروسي، فستحتاج إلى بناء قدرات تتجاوز مستويات عام 2022، وليس تعويض الخسائر وحسب.
وتشير الاتجاهات الحالية إلى أنه على رغم احتمال زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، قد لا تكون الزيادات كافية لتوسيع القدرات العسكرية بصورة كبيرة. وهناك استثناءات، مثل بولندا ودول البلطيق. لكن عدداً من الدول ذات الموازنات الكبيرة، مثل إيطاليا وإسبانيا، متخلفة عن الركب. وهناك دول عدة لم تفِ بعد بالالتزام الذي قطعه جميع أعضاء الـ"ناتو" بإنفاق ما يعادل اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وفي جميع أنحاء أوروبا، يواجه الإنتاج الدفاعي قيوداً تتمثل في القدرات الصناعية، وبطء وتيرة إبرام العقود، وأولويات الموازنة. في الواقع، يمكن التغلب على جميع هذه المشكلات بالإرادة السياسية الكافية، ولكن على القادة الأوروبيين أولاً أن يكونوا واقعيين في تقييمهم البيئة الأمنية. فالولايات المتحدة لن توسع بشكل كبير وجودها في أوروبا، في أفضل الأحوال، سيظل التزام واشنطن الأمن الأوروبي ثابتاً، مع دفعها أوروبا إلى بذل جهود إضافية، وهناك خطر حقيقي بأن توجه تركيزها إلى أماكن أخرى. يجب على أوروبا أن تستعد لتحمل مزيد من العبء لضمان أن تكون أوكرانيا قادرة على الدفاع عن نفسها وردع العدوان الروسي المستقبلي ضد أوكرانيا وأوروبا بصورة عامة.
ويتعين على القادة الأميركيين، بدورهم، أن يكونوا واقعيين في شأن قدرات أوروبا. فحتى تلك الدول التي تستثمر حالياً بصورة كبيرة في المعدات والمشتريات لا تزال تواجه مشكلات في تجنيد العدد الكافي من القوات والحفاظ عليها وتدريبها. ولا يترجَم الإنفاق الدفاعي بسهولة إلى القدرة على تنفيذ عمليات قتالية واسعة النطاق. فالعمليات الحديثة معقدة، ولا تستطيع البلدان الأوروبية عموماً تنفيذها من دون دعم الولايات المتحدة. وقد طُورت معظم الجيوش في القارة لتكون مكملة للجيش الأميركي وليس للعمل بصورة مستقلة.
وقد أحرزت الجيوش الأوروبية وحلف شمال الأطلسي بعض التقدم في مواءمة استثماراتها الدفاعية مع متطلبات خطط الدفاع الإقليمية. لكن القوات النشطة في القارة ليست قادرة على التعامل مع حرب واسعة النطاق بمفردها. وستجد صعوبة في الاتفاق على من سيقود مثل هذه العمليات ومن سيقدم عناصر الدعم اللازمة. وستواجه الجيوش الأوروبية صعوبة في الدفاع عن عضو من أعضاء الـ"ناتو" أو أوكرانيا من دون دعم أميركي، وهو اعتماد ساعدت واشنطن جزئياً في ترسيخه. ومن ثم فعلى رغم أنه يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في الضغط على حلفائها الأوروبيين لحملهم على تحمل مزيد من العبء الأمني، يجب على واشنطن أن تدرك أن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تتمكن أوروبا من تحقيق ذلك.
تزايد خطر الحرب
أوروبا والولايات المتحدة لا تستعدان لتهديد بعيد المدى. فموسكو تشن بالفعل حرباً غير تقليدية ضد أوروبا. خلال الأعوام القليلة الماضية، اشتُبه في ضلوع جهات مدعومة من روسيا في إشعال الحرائق في مستودعات في ألمانيا والمملكة المتحدة كانت مليئة بالأسلحة والذخيرة المخصصة لأوكرانيا، والعبث بمراكز تنقية المياه في فنلندا، ودفع المهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى عبور بيلاروس وروسيا نحو حدود بولندا وفنلندا، واستهداف البنية التحتية للسكك الحديد في جمهورية التشيك والسويد، واغتيال أحد المنشقين العسكريين الروس في إسبانيا، بل وحتى التآمر لاغتيال رئيس ألماني الجنسية لشركة أسلحة أوروبية كبرى. والهدف الذي يسعى الكرملين إلى تحقيقه من هذه التدابير هو أن تُظهر روسيا للحكومات والمواطنين الأوروبيين أنها قادرة على الانتقام رداً على دعمهم كييف.
ولكن بمجرد انتهاء الحرب في أوكرانيا، لن تخمد جهود روسيا. فالهدف الأكبر لموسكو من هذه التكتيكات هو تقويض الغرب وقدرته على التصدي لروسيا. في الواقع، تسعى موسكو إلى إضعاف المجتمعات الغربية، وزرع الشقاق بين الولايات المتحدة وأوروبا، وتقليل قدرة أوروبا على العمل الجماعي، وإقناع الأوروبيين بأن مواجهة موسكو لا تستحق العناء. وجزء من إستراتيجيتها يشمل استخدام التهديدات النووية، مثل التغييرات الأخيرة في العقيدة النووية الروسية التي تبدو وكأنها تخفض العتبة اللازمة لاستخدام السلاح النووي، وذلك لزيادة مخاوف الغرب من مواجهة روسيا.
يبدو الوضع مهيأ لتصعيد المواجهة بين الغرب وروسيا
إن روسيا ليست في وضع يسمح لها بتحدي الـ"ناتو" بصورة مباشرة. ومن المرجح أن يستمر الصراع المنخفض الحدة الحالي مع دول الـ"ناتو" إلى أن تعيد روسيا بناء جيشها، وهي عملية قد تستغرق أعواماً. لكن الكرملين سيبحث حينئذ عن فرص إضافية لتقويض الـ"ناتو". وسيظل لدى موسكو أسباب للحذر، ليس أقلها أنها تعتبر الـ"ناتو" قوة متفوقة، ومع ذلك، قد تستسلم للإغراء إذا اتضح أن الحلفاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، يفتقرون إلى العزيمة للدفاع الجماعي. سيكون الكرملين أكثر ميلاً للتفكير بهذا الخيار إذا كانت الولايات المتحدة منخرطة في صراع كبير مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تعتبرها واشنطن أولوية قصوى في أمنها القومي. وإذا توصل الكرملين إلى اعتقاد يفيد بأن واشنطن لن تستطيع أو لن ترغب في الدفاع عن أوروبا، وأن أوروبا لن تكون قادرة على تحقيق النصر بمفردها، فقد تستهدف موسكو دولة على الجناح الشرقي للحلف، وتتحدى الـ"ناتو" للرد.
وتزداد الصورة تعقيداً نظراً إلى نزعة الكرملين إلى المخاطرة وسوء التقدير. بالفعل، أخطأت موسكو بصورة خطرة في تقدير قدرتها على هزيمة الجيش الأوكراني بسرعة وزعزعة عزيمة الغرب. والواقع أن الطغاة الشخصانيين مثل بوتين هم من نوع القادة الأكثر عرضة إلى ارتكاب الأخطاء، ويرجع هذا جزئياً إلى أنهم يحيطون أنفسهم بالمتملقين والموالين الذين يخبرونهم بما يرغبون في سماعه. لذا، ليس من المفترض أن تشعر واشنطن وحلفاؤها بالاطمئنان حتى لو كانت قوات الـ"ناتو" مجهزة جيداً لهزيمة الجيش الروسي. فالثقة في أن حلف شمال الأطلسي سوف ينتصر في النهاية ليست كافية، وبخاصة بالنظر إلى ما تشهده أوكرانيا حالياً: مدن مدمرة، وعشرات آلاف من القتلى، وملايين اللاجئين، ومناطق تحت الاحتلال الروسي لفترة طويلة. وحتى لو هُزمت روسيا اليوم، فإن حرباً مستقبلية معها قد تكون كارثية على البلد الذي تغزوه وعلى الـ"ناتو". والمطلوب من الولايات المتحدة والـ"ناتو" هو ضمان ألا تحاول موسكو مطلقاً القيام بذلك.
المساعدة والتحريض
سيظل الصراع مع روسيا أكثر حدة ضمن أوروبا، لكن التحدي الذي تمثله موسكو هو تحدٍّ عالمي. فعلى رغم أن الولايات المتحدة وأوروبا فرضتا كلفاً كبيرة على روسيا في أعقاب غزوها أوكرانيا، فإن موسكو تمكنت من التحايل على العقوبات الغربية والقيود المفروضة على الصادرات، وتحدت التوقعات بأنها ستُعزل دولياً. ففي أكتوبر (تشرين الأول)، استضافت روسيا القمة السنوية لمجموعة "بريكس" (التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا كأعضاء مؤسسين)، بحضور عشرات القادة العالميين، مما أظهر اهتماماً متزايداً بدور المجموعة كمنصة لتحدي القوة والنفوذ الغربيين.
كلما تصاعدت المواجهات بين بوتين والولايات المتحدة وحلفائها، وظهر أنه قادر على الإفلات من العقاب، ازدادت جرأة الدول الأخرى على إطلاق تحدياتها الخاصة. إن حرب روسيا في أوكرانيا لا تكشف عن فجوة بين الخطاب الغربي والتزامه العملي وحسب، بل أيضاً عن حدود القدرة العسكرية الغربية. وهذا لا يعني أن نجاح روسيا الظاهري في أوكرانيا سيؤدي تلقائياً إلى غزو الرئيس الصيني شي جينبينغ تايوان، ذلك أن عوامل أخرى، مثل التوازن العسكري في المنطقة والاعتبارات السياسية في بكين، ستلعب دوراً أكثر حسماً في صياغة حسابات شي وقراراته. ومع ذلك، فإن الصين تراقب من كثب، وكذلك متفرجون آخرون حول العالم. فالأعداء المحتملون للغرب يقيّمون كلفة استخدام القوة ويفكرون في ما قد يتوقعونه إذا أقدموا على خطوة مماثلة. وعلى نحو مماثل، فإن الرد الغربي غير الكافي على التخريب الروسي في أوروبا قد يشجع خصوماً محتملين آخرين على الدخول في اللعبة.
ولا تكتفي موسكو بإلهام الآخرين وحسب، بل تنخرط بنشاط في دعم خصوم الغرب. فقد قدمت روسيا الدعم لجهات مارقة في منطقة الساحل الأفريقي، بما في ذلك توفير معدات عسكرية ومساعدة دبلوماسية مكّنت المسؤولين العسكريين من الاستيلاء على السلطة بالقوة في مالي عام 2021، وفي بوركينا فاسو عام 2022، وفي النيجر عام 2023، مما أدى إلى تراجع العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. علاوة على ذلك، ترسل روسيا الأسلحة إلى السودان، مما يطيل أمد الحرب الأهلية هناك والأزمة الإنسانية الناجمة عنها. كما أنها قدمت الدعم لميليشيات الحوثيين في اليمن، الذين هاجموا السفن في البحر الأحمر، فعطّلوا التجارة العالمية، وأطلقوا الصواريخ على إسرائيل، الحليف الوثيق للولايات المتحدة.
وعلى رغم أن تأثير أي من هذه التطورات بمفردها قد يكون محدوداً على الولايات المتحدة، فإن الأنشطة الروسية مجتمعة تزيد من التحديات التي تواجه واشنطن. ففي النيجر، سهّل الدعم الروسي قرار الحكومة الجديدة بإجبار الولايات المتحدة على التخلي عن قاعدة كانت تستخدمها لإطلاق مهمات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. وإذا كثفت روسيا دعمها الحوثيين وزودتهم بصواريخ مضادة للسفن، فإن الجماعة المسلحة ستتمكن من استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر بصورة أكثر فعالية، مما يزيد من مستوى التهديد للسفن الحربية الأميركية، وللسفن الأوروبية التي تؤمن لها الحماية. وبمجرد انتهاء القتال في أوكرانيا، قد تخصص روسيا موارد واهتماماً أكبر بكثير للحوثيين وغيرهم من الجماعات أو البلدان التي تهدد المصالح الأميركية.
يعلّق بعض المراقبين آمالهم على أن مخاوف الصين في شأن مصالحها الاقتصادية ستدفعها إلى كبح جماح روسيا. لكن تصرفات بكين حتى الآن لا تشير إلى أي جهد من هذا القبيل. فالصين لم تعترض على دعم روسيا الحوثيين، على رغم الأخطار التي تهدد الشحن العالمي. وحتى إذا كانت بكين حذرة من تعميق العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية، فمن غير المرجح أن تتدخل، وبخاصة لأنها لا تريد إفساد علاقتها الطويلة الأمد مع بيونغ يانغ. وبدلاً من ذلك، يبدو أن الصين راضية عن السماح لروسيا بزعزعة النظام الدولي والاستفادة من الفوضى الناتجة من ذلك لتعزيز صعودها. ومن ثم، إذا كان هناك أي رادع لأنشطة روسيا المزعزعة للاستقرار، فلا بد من أن يأتي من الغرب.
محور الاضطرابات
إن جهود روسيا الرامية إلى دعم الصين وإيران وكوريا الشمالية تعد أحد أكثر التحديات خطورة التي تفرضها موسكو. فقد حفّزت الحرب الروسية في أوكرانيا مستوى من التعاون بين هذه الدول لم يكن أحد يتوقعه، وكانت موسكو هي المحفز الأساس في ذلك. ويُعد وصول القوات الكورية الشمالية إلى روسيا تذكيراً مقلقاً بأنه مع وجود أنظمة استبدادية ذات طابع شخصي في روسيا وكوريا الشمالية، ومع انتقال الأنظمة في الصين وإلى حد أقل في إيران نحو هذا الاتجاه، يمكن أن يتطور التعاون بسرعة وبطرق غير متوقعة.
في هذا السياق، تُظهر مجموعة من البحوث السياسية أن هذا النوع من الأنظمة يميل إلى تبني أكثر السياسات الخارجية خطورة وعدوانية. فالدول التي يتولى قيادتها مستبدون شخصانيون هي الأكثر ميلاً إلى بدء الصراعات بين البلدان، والأكثر ميلاً إلى خوض الحروب ضد الديمقراطيات، والأكثر ميلاً إلى الاستثمار في الأسلحة النووية. ولن يؤدي الدعم الروسي العسكري والسياسي المتزايد للصين وإيران وكوريا الشمالية إلا إلى تسهيل هذه الاتجاهات. وبما أن موسكو قد تخلت الآن عن قلقها في شأن سمعتها الدولية، فمن المرجح أن تصبح مقيدة بصورة أقل في استعدادها لدعم حتى أشد الأنظمة سوءاً.
لذا فإن الدعم الروسي لأعضاء آخرين في محور الاضطرابات هذا قد يجلب الفوضى إلى مناطق رئيسة. لنأخذ على سبيل المثال العلاقات الصينية الروسية. فعلى رغم أن موسكو زودت بكين بالأسلحة لأعوام، بما في ذلك طائرات مقاتلة متقدمة وأنظمة دفاع جوي وصواريخ مضادة للسفن، فإن علاقاتهما الدفاعية تعمقت بمعدل ينذر بالخطر. ففي سبتمبر (أيلول) مثلاً، أعلن مسؤولون أميركيون أن روسيا قدمت لبكين تكنولوجيا متطورة ستجعل غواصات الصين تصدر ضجيجاً أقل مما يجعل تتبعها أصعب. وكان من المستبعد تصور مثل هذا الاتفاق قبل بضعة أعوام بالنظر إلى الطبيعة الحساسة لهذه التكنولوجيا. ومع التعاون بين بكين وموسكو، يمكن أن يضعف التفوق العسكري الأميركي على الصين، مما يزيد من احتمالية وقوع صراع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إذا اعتقدت الصين أنها تملك اليد العليا.
كلف ردع روسيا ستستمر في الارتفاع
وعلى نحو مماثل، فإن دعم روسيا إيران يثير القلق. فقد أرسلت موسكو منذ فترة طويلة دبابات ومروحيات وصواريخ أرض-جو إلى طهران، وهي الآن تدعم برامج الفضاء والصواريخ الإيرانية. ومنذ تدخل روسيا في سوريا عام 2015 لدعم حكم الرئيس بشار الأسد، والانضمام إلى إيران في هذا الجهد، سمح التفاعل المتزايد بين موسكو وطهران بالتغلب على حال عدم الثقة التاريخية بينهما وبناء أسس شراكة أعمق وأكثر ديمومة. قبل عقد من الزمن، شاركت روسيا (وإن بحذر) في المفاوضات الدولية التي أدت إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. ولكن اليوم، يبدو أن موسكو أقل انخراطاً بجهود الحد من التسلح أو منع الانتشار النووي. ومع استمرار الحروب في الشرق الأوسط في إنهاك وكلاء إيران وكشف حدود قدرتها على ردع إسرائيل، قد تزداد رغبة طهران في الحصول على سلاح نووي، وقد تلجأ إلى روسيا للحصول على المساعدة. وقد تكون هذه المساعدة علنية ومباشرة، فتقدم موسكو الخبرة اللازمة لتصغير الأسلحة [أي تقليل حجم الرأس الحربي النووي ليتناسب مع أنظمة توصيل أصغر مثل الصواريخ أو الطائرات من دون طيار، مع الحفاظ على قدرته التدميرية] على سبيل المثال، أو قد تكون غير مباشرة، من خلال حماية روسيا طهران من أية إجراءات قد تتخذها الأمم المتحدة.
في ما يتعلق بكوريا الشمالية، فإن الدعم الروسي يزيد من خطر عدم الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية. وفقاً للمسؤولين في كوريا الجنوبية، طلبت بيونغ يانغ تقنيات روسية متقدمة لتحسين دقة صواريخها الباليستية وتوسيع نطاق غواصاتها، مقابل إرسال كوريا الشمالية قواتها وذخائرها وغير ذلك من الدعم العسكري إلى روسيا. وليست المعدات المتقدمة هي وحدها التي قد تجعل كوريا الشمالية أكثر قدرة وربما أكثر استعداداً للانخراط في صراع إقليمي. فالقوات الكورية الشمالية المنتشرة في روسيا تكتسب الآن خبرة قيّمة في ساحة المعركة وفهماً للصراعات الحديثة. كما وقعت موسكو وبيونغ يانغ في نوفمبر معاهدة لتأسيس "شراكة إستراتيجية شاملة" تدعو كل جانب إلى مساعدة الآخر في حال وقوع هجوم مسلح، وهو اتفاق قد يجر روسيا إلى صراع بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.
قد يكون من المغري أن نتخيل أنه إذا ضغطت الولايات المتحدة على أوكرانيا لإنهاء الحرب، ثم سعت إلى علاقة أكثر براغماتية مع روسيا، فقد يتراجع تعاون موسكو مع أعضاء هذا المحور. لكن هذا مجرد تفكير واهم. فالعلاقات المتنامية بين الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا مدفوعة بحوافز أعمق بكثير من الاعتبارات التبادلية ذات الطابع النفعي التي خلقتها الحرب في أوكرانيا. والتنازلات المقدمة إلى روسيا لإنهاء الحرب قد تعزز قدرة الكرملين على مساعدة شركائه في إضعاف الولايات المتحدة.
ترتيب الأولويات
قد لا تتوقف الطموحات الروسية عند أوكرانيا، وفي غياب التحرك الغربي اليوم، فإن كلف ردع العدوان الروسي سوف ترتفع. صحيح أن روسيا قوة متراجعة، بيد أن قدرتها على إثارة الصراع تظل كبيرة. لذا فإن عبء الردع والدفاع ضدها لن يخف في الأمد القريب. وبما أن التغييرات في الإنفاق الدفاعي، وشراء المعدات، ووضع القوات، تحتاج إلى وقت طويل، فإن واشنطن وحلفاءها يجب أن يفكروا في ما هو أبعد من الحرب الحالية في أوكرانيا وأن يبدأوا في الاستثمار الآن لمنع العدوان الروسي الانتهازي في وقت لاحق. ويتعين على أوروبا أن توجه إنفاقها الدفاعي المتزايد نحو توسيع القدرة التنظيمية والدعم اللوجستي اللازمين لجعل العمل المستقل ممكناً إذا انشغل الجيش الأميركي في مكان آخر. وتجدر الإشارة إلى أن الاستسلام لمطالب روسيا لن يجعل الدفاع عن أوروبا أسهل أو أقل كلفة، ويكفي أن ننظر إلى أحداث العقدين الماضيين لنستنتج ذلك. في كل منعطف، مثل الحرب في جورجيا عام 2008، والغزو الروسي الأول لأوكرانيا عام 2014، ونشر القوات الروسية في سوريا عام 2015، أصبح بوتين أكثر استعداداً للمخاطرة لأنه يعتقد أن القيام بذلك يؤتي ثماره.
ولا شك في أن واشنطن لديها أولويات متنافسة قد تحول تركيزها بعيداً من التهديد الروسي، وتوجد الصين في مقدم هذه الأولويات. ولكن من أجل التعامل بفاعلية مع بكين، يتعين على واشنطن أولاً أن تضع الأمن الأوروبي على المسار الصحيح. ولا تستطيع الولايات المتحدة ببساطة أن تسلم الأمن الأوروبي إلى أوروبا غير المهيأة بعد لإدارة التهديد الروسي. وإذا خفضت واشنطن التزامها تجاه أوروبا قبل الأوان، فقد تعتبر موسكو ذلك علامة على تراجع الاهتمام الأميركي بصورة متزايدة وتستغل الفرصة للمضي قدماً.
وأهمية تحديد أولويات السياسات الأميركية واضحة، وكذلك أهمية ترتيب تسلسلها. وسيتعين على إدارة ترمب أولاً أن تدير الحرب في أوكرانيا. في الواقع، إن مساعدة أوكرانيا في إنهاء الحرب بشروط مواتية هي أوضح طريقة للحد من تهديد العدوان الروسي ومحور الاضطرابات الذي يدعمه. وينبغي أن يكون هذه الاتفاق جزءاً من إستراتيجية أكبر لاحتواء روسيا والحفاظ على الأمن الأوكراني. إضافة إلى ذلك، يتعين على الـ"ناتو" أن يلغي "القانون التأسيسي بين حلف شمال الأطلسي وروسيا" NATO-Russia Founding Act لعام 1997، الذي يحظر النشر الدائم للقوات المتحالفة قرب روسيا، ووضع قوات على جبهة الـ"ناتو" الشرقية. ويتعين على الحلف أيضاً أن يرفع أهداف الإنفاق الدفاعي التي وضعها أعضاؤه، وأن يزيد من استعداده، وأن يحسن قدرته على نشر القوات للدفاع عن الدول الأعضاء المهددة. وبطريقة موازية، يتعين على الدول الغربية أن تحافظ على العقوبات وضوابط التصدير المفروضة على روسيا وتطبقها بصورة فضلى في الأقل ما دام بوتين لا يزال في السلطة. ويتعين على الدول الغربية أيضاً أن تستثمر في قطاع الدفاع الأوكراني وتضمن قدرة أوكرانيا على دعم قواتها المسلحة لردع روسيا عن شن غزو مرة أخرى. وعلى رغم أن هذه التدابير لن تضع حداً للمواجهة مع روسيا، فإنها ستضعف طموحات موسكو وقدرتها على إثارة الصراعات في أوروبا وتعزيز شركائها في أجزاء أخرى من العالم.
يجب على إدارة ترمب أيضاً الحفاظ على دور الولايات المتحدة باعتبارها الداعم الأساس للأمن الأوروبي، في حين تعمل على تخفيف الأعباء المترتبة على هذا الالتزام. ويتعين على الدول الأوروبية أن تصبح أكثر قدرة على اتخاذ إجراءات جماعية لا تحتاج إلى مساعدات أميركية. وقد تظل هذه الدول تعتمد على الولايات المتحدة في بعض الظروف، ولكن يمكن تقليص درجة هذا الاعتماد بصورة كبيرة. وبمرور الوقت، ستصبح الولايات المتحدة أكثر حرية في التركيز على الصين مع نقل مزيد من المسؤوليات الدفاعية إلى أوروبا. وفي الوقت نفسه، ستتجنب تحولاً متسرعاً وفوضوياً يشجع موسكو ويزيد جرأتها وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى شن روسيا حرباً متهورة، إما ضد حلف شمال الأطلسي أو مرة أخرى ضد أوكرانيا.
لا يوجد حل سهل للمواجهة بين الغرب وروسيا. فالنزعة التعديلية [الرغبة بتغيير النظام الدولي] والعدوان الروسيين لن يختفيا. وحتى إذا انتهت الحرب الحالية في أوكرانيا بهدنة، ففي غياب الضمانات الأمنية لأوكرانيا، من المرجح أن تندلع حرب أخرى. إن تجاهل روسيا أو الافتراض بأنه يمكن إدارتها بسهولة بينما تحول الولايات المتحدة انتباهها إلى الصين، لن يؤدي إلا إلى تفاقم التهديد. وسيكون من الأفضل بكثير أن تتعامل الولايات المتحدة وحلفاؤها بجدية مع التحدي الذي تشكله روسيا اليوم بدلاً من السماح لصراع آخر أن يصبح أكثر كلفة في المستقبل.
أندريا كيندال تايلور زميلة بارزة ومديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز "الأمن الأميركي الجديد"، عملت بين عامي 2015 و2018 نائبة ضابط الاستخبارات الوطنية لشؤون روسيا وأوراسيا ضمن مجلس الاستخبارات الوطني.
مايكل كوفمان هو زميل بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 18 ديسمبر (كانون الأول) 2024