ملخص
تتشابه رواية "كل ما أعرف" (دار العين) للروائي علي قطب في التكنيك السردي مع رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ، من زاوية الحدث الواحد الذي يروى من وجهات نظر مختلفة، عبر رواة متعددين، يرصد كلٌ منهم الأحداث من موقعه الخاص.
ثمة كثر من الروائيين قبل نجيب محفوظ وبعده، اتبعوا هذا الأسلوب السردي؛ لكن ما يدفع إلى الربط بين هذين العملين "كل ما أعرف" و"ميرامار" من الناحية الأسلوبية فقط، بعيداً عن مضمون الروايتين، هو أن لعلي قطب دراسة قيمة عن الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ، صدرت في كتاب عن دار "بيت الحكمة". فضلاً عن أنه يستهل روايته بمقطع من رواية "الكرنك" لنجيب محفوظ، تلك الرواية التي يسمي فيها محفوظ كل فصل من فصولها باسم من أسماء شخصياتها الرئيسة. وهذا النمط من الأنماط الشائعة في عدد من أعمال نجيب محفوظ الروائية كما هو الحال في روايات عدة له (أولاد حارتنا، المرايا، أفراح القبة، العائش في الحقيقة، يوم قتل الزعيم).
تختلف "كل ما أعرف" مع "ميرامار" من ناحية المضمون، فالثانية هي ذات بعد سياسي واضح، والصراع فيها يدور بين وجهات نظر فلسفية مختلفة. أما الأولى فذاتية لا تهتم بالجانب السياسي أو الشأن العام وإنما برغبات بطلها الذي يريد أن يتحول إلى رجل قادر يرسم مصائر الناس ويتلاعب بها كما يتلاعب بالشخصيات الروائية على الورق، والصراع فيها نفسي في المقام الأول، وتنتهي حبكتها البوليسية بمقتل الكاتب وابن خالته بعد تورطهما مع عصابة لتهريب الأموال.
تشظي الحكاية
يوحي عنوان الرواية بتعدد الرؤى، إذ هو ترجمة لجملة عامية شائعة في مصر: "ده كل اللي أعرفه" التي تقال بعد أن يروي الشخص قصة ما. وهي تفتح الباب إلى تعدد وجهات النظر واختلافها باختلاف موقع ساردها. كما تحيل الاقتباسات التي قدًّم بها العمل على المتن بداية من الإهداء: "إلى من تقاسموا معي حبيبتي الأولى"، حيث يدفع "أحمد علي" زوجته "غدير" دفعاً لخيانته من أجل مجد الكتابة التي يستمد موضوعاتها من الحياة الواقعية. ويحيل الاقتباس الثاني: "وَالمَوتُ بَعضُ حَبائِلِ الأَهواءِ" المأخوذ من قصيدة لأبي نواس، إلى المصير الذي واجهه بطل الرواية بسبب تلاعبه في مصائر الآخرين، وظنه أنه قادر على أن يرسم حياتهم ويوجهها كيف يشاء من أجل الاستفادة منها كذلك في الكتابة، فكان الموت مصيره على خلاف الحبكة التي رسمها لنفسه. أما اقتباس رواية "الكرنك": "تذكرت ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة، تذكرت سير المجرمين، وملاحم العذاب..."، ففيه إحالة أيضاً إلى الجو العام للرواية.
تعتمد الرواية في حبكتها على الشكل الفسيفسائي، فما إن تتجمع الروايات المختلفة للحدث، تكتمل الصورة الكلية للأحداث. ففي بداية العمل يظهر "أحمد علي" في صورة الضحية الذي يعاني الألم والمرارة بسبب خيانة زوجته "غدير" له مع صديق دراسته ومديره في العمل "ياسر الغنّام" بعد أن أتى له ابن خالته "أحمد محفوظ" بتسجيلات تؤكد هذه الخيانة. مع توالي الأحداث يكتشف القارئ أن "أحمد علي" جعل من زوجته فأر تجارب، وفتح الباب لصديقه ليدخل بيته في غيابه. أما عيادة الطبيب النفسي التي كان يخبرهما بأنه يذهب إليها ليعالج، فستكتشف زوجته أنه كان يتردد عليها لسبب آخر، وهو سماع قصص المرضى ليستفيد منها في الكتابة. وتنقل الرواية على لسان "غدير" تلك الخديعة: "بنسبة كبيرة علي لا يعاني من أي مرض، وبالرجوع إلى روايته الأخيرة والتي قرأت ما كتبه منها حتى الآن، فقد جعلني لعبة سخيفة، مجرد فأر تجارب يراقبه ليدون نتائج بحثه، أقحمني في روايته جاعلاً مني بطلتها ولمزيد من الإثارة والجذب أدخل عنصراً حفًّازاً يزيد من سرعة التجربة، لم تكن دعوتك لياسر فقط لمجرد الحصول على وظيفة جيدة بل للحصول على عالم يمكنك الكتابة عنه" ص87. فنحن أمام شخصية يدفعها هوسها المرضي إلى تدمير ذاتها.
حبكة أرسطية
هذا التَّعرَّف الذي يحدث للقارئ بعد أن يعرف تفاصيل الحكاية من جميع جوانبها يتبعه تحول في النظرة والحكم على أفعال الشخصيات، فيتحول الضحية الذي يعاني من الخيانة الزوجية إلى جان. فالرواية تعتمد في حبكتها في هذا الجانب على تقنية التَّعرُّف والتَّحوُّل الأرسطية وهي من سمات الحبكات الدرامية الجيدة عند أرسطو في الدراما والملحمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك الأمر تدركه "غدير" حين تعثر على مخطوط رواية زوجها وتتتبع خطواته، فتحول نظرتها إلى نفسها من أنها زوجة خائنة إلى أنها كانت ضحية لأنانية زوجها الذي جعل الكتابة أهم شيء في حياته: "ضايقني جداً ما فعله، كيف أقام نفسه حكماً وجرّني إلى ما لم أتوقع، لا يمكن أن تضع إنساناً تحت طائلة الحاجة ثم تحاسبه على تصرفاته، أنت من رغبتَ في الخيانة وليس أنا، لذا أجردك من حق محاسبتي"، وهو ما تعترف به شخصية الكاتب داخل العمل: "أنا أهم أسباب وقوع غدير في الخيانة...، تسألني كيف كنت السبب الرئيس للخيانة فأخبرك أني زوج متقاعد منذ بدأت أكتب..." ص44.
نهاية مأساوية
ومن هذا المنظور تناقش "كل ما أعرف" مسألة عالجتها الكثير من الأعمال الفنية والروائية حول هل يمكن أن يكون الإبداع مبرراً للتدمير الذاتي؟ وهو ما تجيب عنه الرواية بالنهاية المأساوية التي يتعرض لها البطل بعد أن فقد العمل الذي كتبه "الذي بذل فيه مجهوداً لا يوصف، وضحى قرباناً له بعلاقاته المقربة" ص141، إذْ يُقتل على يد العصابة التي تورّط في العمل معها، وتحصل زوجته على مخطوط الرواية وتقرر أن تنشره باسمها انتقاماً مما فعله فيها.
تبقى الإشارة هنا إلى حرص علي قطب في هذه الرواية على إبراز تعددية الأصوات بأن تعبر كل شخصية عن الحقيقة من وجهة نظرها وتفسرها وفقاً لموقعها من الأحداث والخلفية الاجتماعية التي نشأت فيها، لكنه اختار لسرد الأحداث الراوي المتكلم أو المباشر الذي وإن سمح بتعدد الرواة وتعدد وجهات النظر، فإنه من جانب آخر جعل صوت الكاتب الأصلي حاضراً يوجه الشخصيات للحديث في مواضع وأحداث بعينها، مما أضرَّ إلى حد ما تعددية الأصوات السردية، إذ تستخدم الشخصيات كلها مع اختلاف توجهاتها وميولها وموقعها الاجتماعي الأسلوب السردي الاعترافي في الكشف عما كانت تتكتمه.