Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"خشيت أن يلقوني في الحفرة"... عن مقابر الأسد الجماعية في سوريا

من موقع مقبرة جماعية في القطيفة التي تبعد نحو 25 ميلاً من العاصمة السورية دمشق نتحدث إلى شخص حفر المقابر قبل أن يدرك هول ما يحدث في ذلك الموقع – في وقت تتعالى فيه أصوات محذرة من حجم الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد قبل إطاحته

أحمد (اسم مستعار) حفار قبور، وهو يشير إلى المكان الذي أرغم أن يحفر فيه خنادق لمقبرة جماعية، فيما يقف قرب مقاتل من المعارضة (بيل ترو)

ملخص

كشفت شهادات وصور الأقمار الصناعية عن مقابر جماعية في سوريا تدفن فيها ضحايا التعذيب والإعدام الجماعي تحت حكم نظام الأسد في دليل آخر يؤكد على جرائم الحرب المروعة التي ارتكبت.

لم يدرك أحمد* فظاعة ما أجبر على حفره كل يوم إلا عندما أصبحت الرائحة الكريهة المنبعثة من الأرض لا تطاق.

ففي هذا الموقع النائي الذي يبعد نحو 25 ميلاً (40 كيلومتراً) إلى شمال شرقي العاصمة السورية دمشق، أمر مسؤولو النظام الحفار أن يحفر خنادق بطول 100 متر وعرض أربعة أمتار وعمق ثلاثة أمتار.

جرى ذلك في عام 2012 - بعد عام واحد فقط من انطلاق الثورة ضد نظام بشار الأسد في سوريا - وانطلاق شرارة حرب أهلية استحالت حمام دم.

قيل لأحمد، وعمره اليوم 47 سنة، حين كان يعمل في النوبة الصباحية إن ذلك "عمل عسكري"- ومن ثم لا يمكن طرح أي سؤال حوله. كانت الأرض صلبة حيث واجهت آلات الحفر صعوبة بالعمل على الأرض الصخرية.  

"لم أدرك ما كان يحدث هنا إلا بعد أن حفرت نحو أربعة خنادق. عندها أدركت أنها مقبرة جماعية"، يقول أحمد لـ"اندبندنت" من الموقع في القطيفة، الذي بات الآن مسوراً لكنه لا يزال كما هو من دون مساس بعد سقوط نظام الأسد قبل أسبوعين.

تنتشر في المكان أربع مركبات مدرعة ثبتت على متنها هوائيات وتحمل ما يبدو أنها كتيبات ومقتنيات روسية، وتتمركز كل واحدة على زاوية. وتتناثر على الأرض، التي تبدو خالية ومغطاة بالشجيرات، بعض الأشياء التي تبدو وكأنها عظام.

ويقول أحمد إنه بعدما أنهى حفر الخندق الرابع، لاحظ أن الحفر التي حفرها كانت تردم بشكل غامض من قبل فريق آخر يعمل في النوبة الليلية، ثم بدأت الروائح تنبعث. بعد مرور شهر، لم يتمكن العمال من العمل من دون أن يغطوا أنوفهم وأفواههم بوشاح.  

ويقول أحمد في حال من الذهول "كانت الرائحة المنبعثة من الأرض سيئة للغاية، أدركنا أنها لا بد من أن تكون نابعة من جثث. كل يوم كنت أحفر، كنت أرى جرافة مختلفة تأتي لاحقاً كي تردم الحفر".   

مرعوباً مما اكتشفه، حاول الاستقالة، لكن جنود النظام هددوه وأصروا على أن يواصل العمل.

ويتابع قائلاً: "كنت أخشى أن أجد نفسي في الخندق مثل الجثث الأخرى".

 

وقد تضاعف هذا الرعب مع اعتقال أخيه في عام 2013، وهو جندي التحق بالخدمة الإلزامية، بعد توجيه اتهامات غير معروفة له في مدينة التل الواقعة في ريف محافظة دمشق. شقيقه الذي، بعد أكثر من عقد، لا يزال في عداد المفقودين.

ويقول أحمد "لا يفارقني احتمال أن يكون أخي من بين الجثث التي دفنوها. تأثرت لدرجة أنني لم أعد أستطيع الأكل".

 كثيراً ما اتهمت منظمات حقوق الإنسان وحكومات أجنبية والمواطنون السوريون، الأسد ووالده حافظ، اللذين حكما البلاد طوال خمسة عقود، بالإخفاء القسري والاعتقال العشوائي والتعذيب والقتل من دون محاكمة - بما في ذلك عمليات الإعدام الجماعية - داخل سجون البلاد السيئة السمعة. وقد نفى الأسد مراراً وتكراراً ارتكاب حكومته أي انتهاكات لحقوق الإنسان، واصفاً منتقديه بالمتطرفين.

ولكن منذ إطاحة الأسد المفاجئة على يد المتمردين وهربه السريع من البلاد الأسبوع الماضي، تمكن الناس للمرة الأولى من الوصول إلى مثل هذا الموقع، مما كشف عن حجم عمليات القتل. وقالت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، ومقرها لاهاي، إنها تلقت بيانات تشير إلى احتمال وجود ما يصل إلى 66 موقعاً لمقابر جماعية لم يتم التحقق منها بعد في سوريا.

 

كشف الموقع في القطيفة للمرة الأولى على يد الفريق العامل في "المنظمة السورية للطوارئ" SETF، بعد أن تقدم حفارو قبور نجحوا بالهرب وطلب اللجوء في دول غربية، للإفصاح عن قصصهم المرعبة. وطابقت المنظمة شهاداتهم مع صور أقمار اصطناعية تكشف عن حفريات حدثت على امتداد أعوام عدة.

وانضم مؤسس المنظمة السورية للطوارئ، معاذ مصطفى، الذي غيب النظام عمه، إلى "اندبندنت" في الموقع. وهو يقول إنه موقع واحد من بين ستة مواقع محتملة لمقابر جماعية تمكنوا من تحديد مكانها قد يكون فيها مئات آلاف الأشخاص الذين أخفاهم النظام.

ويعتقد فريق المنظمة استناداً إلى تحقيقاته أن نحو 800 جثة كانت تصل القطيفة أسبوعياً بين عامي 2013 و2017. كما يظنون أن هذه المنطقة اختيرت لكونها منطقة عسكرية مغلقة ولأن المقبرة الجماعية التي سبقتها في بلدة نجهة، التي تبعد زهاء 40 كيلومتراً إلى الجنوب "امتلأت عن آخرها". وفي رأي المنظمة كذلك، توقف العمل في القطيفة عندما امتلأ الموقع بدوره في عام 2017 وفي وقت من الأوقات بعد ذلك، شيد حوله سور لإخفائه عن أنظار العالم الخارجي.  

ويقول مصطفى "اطلعنا على صور الأعوام السابقة وكانت الخنادق واضحة في الموقع. أي شخص يمكن أن يطلع عليها. يمكنكم فتح موقع ’غوغل إيرث‘ وكتابة الموقع والعودة إلى الصور القديمة وسترون آلات الحفر وهي تعمل. وشاحنات، تحمل قاطرات عملاقة مكدسة بالبشر. يمكنكم أن تروا حجم الموضوع".

لديك دولة استخدمت آلة الموت والإرهاب ضد شعبها

السفير ستيفن جاي راب، مدعٍ عام لجرائم الحرب

 

ويزور الموقع أيضاً السفير ستيفن جاي راب- وهو مدعٍ عام دولي مرموق لجرائم الحرب وسفير أميركي سابق فوق العادة لشؤون جرائم الحرب يعمل مع المنظمة السورية للطوارئ من أجل توثيق المقابر الجماعية وتحديد هوية المسؤولين المتورطين بجرائم الحرب. ويقول لـ"اندبندنت" إن المقبرة الجماعية كانت جزءاً من "آلة الموت وإرهاب الدولة" التي استخدمها نظام الأسد ضد شعبه طوال عقود من الزمن. وأضاف أنه نظراً إلى حجم المقابر الجماعية، يرجح أن عشرات آلاف الأشخاص قد قضوا تحت التعذيب- وهو شيء "لم نره فعلياً منذ النازية".

وما يبرز سوريا باعتبارها حالة فريدة في القرن الـ21 هو التوثيق الكثيف للمواقع من قبل حكومة الأسد نفسها.

ويتابع السيد راب بقوله "إنه نظام مهووس بالتوثيق"، مضيفاً أنه حدد نحو 100 مركز من فروع الاستخبارات العسكرية إلى السجون، تحوي كميات ضخمة من الأدلة على ارتكاب الجرائم. نوع من بيروقراطية تفصيلية ومدينة لدرجة "حد الغباء" تقريباً.

 

ويشرح عن أهمية جمع هذه الأدلة الحيوية بشكل عاجل من كل أنحاء البلاد، بعدما تفقدت العائلات اليائسة التي تبحث عن أقاربها المفقودين مواقع المقابر الجماعية والسجون والمشارح والمستشفيات، في محاولة للعثور على أي دليل متعلق بأقاربهم المفقودين.  

ويقول راب: "في الوقت الراهن، لا وجود للأمن فعلياً ويأتي الأشخاص ويحاولون العثور على معلومات عن عائلاتهم ويأخذون معهم الملفات. يجب أن تلتزم السلطات الموقتة التزاماً جدياً لتوفير هذا الأمن".  

وفي القطيفة - الموقع الذي لم يمسسه أحد بعد بسبب بعده - يبرز سكان المنطقة حقيقة الرعب الذي جرى هناك بصورة كبرى.  

يقول علاء، وعمره 33 سنة، لـ"اندبندنت" إن سكان المنطقة بدأوا بملاحظة وجود الموقع في عام 2013 لكن أحداً لم يتحل بالشجاعة كي يطرح أي سؤال حوله. كل ما علموه هو أن الشاحنات تأتي في منتصف الليل كي توصل شيئاً معيناً.

لكن ذلك تغير في عام 2016 فيما كان يقود دراجته النارية قرب المكان، ورأى كلباً يجر شيئاً أشبه برجل بشرية.

ويقول "توقفت كي ألتقط الصور فاعتقلني جندي عند نقطة التفتيش وساقني إلى المدينة المجاورة. وسجنت هناك عاماً ونصف العام داخل فروع الأمن"، ثم يشرح كيف احتجز داخل الزنازين السيئة السمعة لفروع الاستخبارات العسكرية 293 و227- وفيها زنازين تحت الأرض زارتها "اندبندنت".

اتهمه النظام بالتقاط الصور كي يعطيها للمعارضة. ويضيف علاء "بعد إطلاق سراحي، رأيت أنهم شيدوا هذا السور".

 

أمام احتمال السجن والتعذيب تحت غطاء هذه الاتهامات نفسها، يقول أحمد، حفار القبور، إنه أيضاً شعر بخوف شديد منعه من ترك عمله. كما أحس بالذعر، لخشيته أن يكون شقيقه بين القتلى، وبدأ يشارك صور أخيه في السر مع العمال الآخرين "في حال رأوه".

ويقول "تخيلي 11 خندقاً- كم جثة قد تتسع فيها؟ وضعوا الجثث بشكل عشوائي. شعرت بالرعب من ترك الوظيفة، وخفت أن يضعوني في هذه الخنادق ويتهموني بالتكلم عما حدث".

بعد ذلك، أقدم مع زملائه العمال على خطوة يائسة فقرروا أن يتعمدوا العمل بشكل أبطأ. ونجحت خطتهم: فقد طردوا من العمل في النهاية لعدم كفاءتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"كان الوضع قبل ذلك كابوسياً، أشبه بسيف ذي حدين. فمغادرتي العمل ستخلق مشكلة وبقائي فيه سيخلق مشكلة. وفي الأخير، طردونا".

يقول مصطفى من المنظمة السورية للطوارئ إن سوريا في حاجة إلى دخول المجتمع الدولي إلى البلاد للمساعدة في العثور على عشرات - إن لم نقل آلاف - المفقودين، الذين يعتقد أن غالبيتهم قد توفوا ودفنوا داخل مقابر جماعية مثل القطيفة.

وهو يقول من موقع المقبرة فيما يجهش بالبكاء "هذه قصتي. وهي قصة الجميع. كل إنسان لديه قلب، هي قصة الجميع".

ويضيف مصطفى "لأنه إذا سمحنا بحدوث أمور مثل هذه، فالأمر لا يقتصر على سوريا فحسب. يعني أنه يمكنك أن تكون ديكتاتوراً وتستخدم الأسلحة الكيماوية والقنابل العنقودية والتعذيب حتى الموت من أجل التمسك بالسلطة، والعالم سيقوم بتطبيع ذلك ويتركه يحدث".

*أسماء مستعارة

© The Independent

المزيد من تقارير