ملخص
بحسب المؤشرات والتقديرات كافة فإن حجم الدين العام الأميركي سيتجاوز في غضون أعوام قليلة مستوى ما كان عليه الدين اليوناني وقت الأزمة، وبحسب أحدث البيانات فقد زاد حجم الدين الحكومي الأميركي عللا 36 تريليون دولار، مقارنة مع 20 تريليون دولار قبل ثمانية أعوام
لا يزال الاقتصاديون والمعلقون والمحللون يعتبرون أزمة الديون اليونانية عام 2011 مرجعاً لكارثة انفجار فقاعة الدين العام وما يمكن أن تؤدي إليه من إفلاس الدول وتداعياتها الأوسع في المحيط الإقليمي والدولي، وكانت أزمة تخلف اليونان عن سداد ديونها بعدما وصل حجم الاقتراض الحكومي إلى مستوى غير مستقر، أدت إلى أزمة الديون الأوروبية عام 2014، حين واجه الاتحاد الأوروبي "تأثير الدينامو" مع تعثر دول أخرى مثل إسبانيا في تحمل عبء الديون، قبل أن تتدخل المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي بحزم إنقاذ بالمليارات لمواجهة الأزمة.
ومع أزمة وباء كورونا زادت ديون اليونان ضعف حجم اقتصادها لتصبح الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي مثلها مثل دول فقيرة وخاضعة للعقوبات مثل السودان وفنزويلا وإريتريا، ولكنها الآن أصلحت وضعها بسياسات مؤلمة لتعدل حجم الدين ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي عبر خطط نمو للاقتصاد.
والمثير الآن أن المحللين والاقتصاديين يتوقعون أن تصل أميركا إلى وضع اليونان السابق بل وقد تتجاوزه نتيجة توسعها في الاقتراض الزائد، وهي صاحبة أكبر وأقوى اقتصاد في العالم، وهذا ما خلص إليه تقرير لصحيفة "ديلي تلغراف" هذا الأسبوع، مستعرضاً الزيادة الكبيرة المستمرة في الدين العام الأميركي خلال فترة رئاسة جو بايدن والمتوقعة في فترة رئاسة دونالد ترمب المقبلة.
الدين الأميركي
بحسب المؤشرات والتقديرات كافة فإن حجم الدين العام الأميركي سيتجاوز في غضون أعوام قليلة مستوى ما كان عليه الدين اليوناني وقت الأزمة، وبحسب أحدث البيانات فقد زاد حجم الدين الحكومي الأميركي عللا 36 تريليون دولار، مقارنة مع 20 تريليون دولار قبل ثمانية أعوام.
وأصبح الدين العام حالياً أكبر من حجم الاقتصاد الأميركي، ومع نهاية هذا العقد سيصل إلى 134 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصاد في العالم، أي أنه سيتجاوز نسبة دين إيطاليا العام إلى ناتجها المحلي الإجمالي، بل سيكون أكبر من ديون اليونان التي يتوقع أن تصل نسبة ديونها إلى الناتج المحلي الإجمالي بداية العقد المقبل إلى 130 في المئة، وفقاً لتقديرات بنك "يو بي اس" الاستثماري استناداً إلى معدلات الاقتراض الحالية والمتوقعة.
ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أن كلفة خدمة الدين العام الأميركي من مدفوعات فوائد وأقساط وسندات مستحقة المدة وصلت بالفعل إلى أكثر من 1.1 تريليون دولار سنوياً حالياً، مما يثير قلق المحللين والاقتصاديين، وإن كان المستثمرون حتى الآن يراهنون على تميز الاقتصاد الأميركي ومرونته بما يجعله قادراً على تحمل هذا القدر من المديونية، وفي الأقل حتى الآن، لكن هناك من بدأ يقرع أجراس الإنذار بأن استمرار هذه الوتيرة للاقتراض الحكومي ومراكمة المديونية يقترب من حد "عدم الاستقرار"، وبالتالي يمكن في أية لحظة أن يتحول المستثمرون إلى الخوف من مدى استدامة هذا الوضع.
التميز الأميركي
وإضافة إلى أن الاقتصاد الأميركي يعد الأكبر في العالم فإن الولايات المتحدة تعد الملاذ الأمن للنظام المالي العالمي، وفي أوقات الازمات مثل الركود الاقتصادي وغيره تتجه الأموال نحو أميركا باعتبارها مخزناً للثروة، إذ تعد المعيار الذي على أساسه تُسعر الديون في بقية أنحاء العالم.
وفي العام الماضي خفضت مؤسسة "فيتش" للتصنيف الائتماني تصنيف الدين السيادي الأميركي، وقال الاقتصادي ريتشارد فرانسيس إن "الدين الأميركي أصبح مرتفعاً بصورة هائلة وعند مستوى يساوي ضعف ما هو عليه في الدول ذات التصنيف الائتماني الجيد".
أضاف، "عبء كلفة الفائدة مرتفع جداً وهو في أميركا الآن أعلى من نظيراتها"، متوقعاً أن يستمر مرتفعاً ومؤكداً "نحن ننفق على فوائد الدين أكثر مما ننفق على الدفاع أو الرعاية الطبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومما يقلل من مخاوف المستثمرين حالياً مرونة الاقتصاد الأميركي وكونه وجهة رئيسة للأموال في وقت الأزمات، إضافة إلى استمرار دور الدولار كعملة احتياط في العالم.
وتابع فرانسيس أن "اقتصاد الولايات المتحدة متنوع جداً وقوي، والدولار هو عملة الاحتياط الأولى في العالم مما يعطي الولايات المتحدة مرونة تمويلية هائلة لا نظير لها في العالم".
وعلى رغم ارتفاع كلفة الاقتراض لكن المستثمرين لا يزالون يمولون العجز الأميركي من دون تردد، ويمكن للخزانة الأميركية الاقتراض بإصدار سندات دين متوسطة الأجل مدة 10 أعوام بنسبة عائد 4.2 في المئة، وتلك نسبة كلفة أعلى مما كانت عليه وقت وباء كورونا عند واحد في المئة، وحتى عن متوسط العائد ما بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 حين كانت النسبة ما بين اثنين وثلاثة في المئة.
وفي حال ارتفاع العائد متزامناً مع استمرار النمو الاقتصادي فإن الأموال تنساب أكثر إلى الاقتصاد الأميركي، وهو ما يصفه الاقتصادي في "ستاندرد أند بورز" مايون اميوت بأنه "الميزة الهائلة" لأميركا، لكن في مرحلة ما يمكن للمستثمرين أن يتساءلوا هل سنحصل على أموالنا التي نقرضها، وعندئذ قد تنفجر فقاعة الدين.
مؤشرات الخطر
ويحذر المحللون من أن الحكومة الأميركية ستجد نفسها قريباً في وضع صعب، إذ تضيق فرص الاقتراض الإضافية مع استمرار مراكمة المديونية بالمعدلات الحالية، وقال كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقاً اوليفييه بلانشار إن "الولايات المتحدة تقترب من مؤشر الخطر"، مضيفاً أنه "عند مرحلة ما سيبدأ المستثمرون في التساؤل عما إذا كان سيستردون أموال الدين أم لا، وهنا قد يطالب المستثمرون بعائد أكبر على السندات وترتفع خدمة الدين أكثر في دائرة مفرغة تؤدي غالباً إلى التخلف عن سداد الدين، أي الإفلاس".
ويتساءل بلانشار "حدث ذلك في دول أخرى وإن كان يبدو غير معقول بالنسبة إلى دولة بحجم أميركا، لكن هل هو فعلاً أمر غير معقول؟".
ويظل وضع الدولار القوي الذي يحسب به معظم الدين العام الأميركي ومكانته كعملة احتياط أولى في العالم من الميزات المهمة جداً التي تجعل الولايات المتحدة قادرة على الاستمرار في الاقتراض، وقال مايرون أميوت "هناك تساؤل عن استدامة الدين كل حين، لكن حتى الآن لا يوجد بديل حقيقي للدولار كعملة احتياط عالمية".
ويشير بعضهم إلى أن الرئيس المنتخب دونالد ترمب يدرك مدى خطورة ذلك، لذا كان تصريحه أخيراً بتهديد دول مجموعة "بريكس" بأن أية خطوة من جانبها لاستبدال الدولار بعملة للمجموعة أو أية عملات أخرى سيقابل بعقوبات صارمة، أولها فرض رسوم جمركية تصل إلى 100 في المئة، إذ يعكس التهديد الإحساس بخطر التحول عن الدولار عالمياً مما يمكن أن يفجر أزمة المديونية الأميركية.
كذلك أشار تانوس فامفاكيديس من "بنك أوف أميركا" إلى أن تصرف الإدارة الجديدة تجاه مجلس الاحتياط الفيدرالي قد يؤدي إلى فقدان الولايات المتحدة ميزة الملاذ الآمن، مضيفاً "قد يفجر الأزمة العام المقبل حدوث احتكاك ما بين الإدارة الأميركية الجديدة ومجلس الاحتياط الفيدرالي، فإذا بدأت الإدارة الجديدة معارضة التوجه الصقوري للبنك، رداً على السياسات المالية للإدارة، فإن هذا سيشكل شرارة خطرة".
ويخشى عدد من المحللين والاقتصاديين من أن الإدارة الجديدة قد تسبب ضرراً لمكانة الدولار ووضع أميركا باعتبارها ملاذاً آمناً بينما تحاول حماية ذلك الوضع، فسياسة الاستمرار في الاقتراض مع تهديد البنك الفيدرالي والحروب التجارية مع الشركاء يمكن أن تأتي بنتائج عكسية سلبية على الدولار ومكانة أميركا وتميزها.