ملخص
تخطط تركيا لترسيم الحدود البحرية مع سوريا الجديدة التي تقودها حكومة موقتة تقود البلاد بحكم الأمر الواقع وتتطلع إلى دعم دولي سياسي واقتصادي، ربما تستعجل أنقرة إبرام اتفاق مع دمشق على غرار الذي وقعته مع طرابلس الليبية عام 2019، ولكن مثل هذه الخطوة قد تعقد المشهد السوري وتزيد من تداعياته إقليمياً ودولياً.
لن تدخر تركيا جهداً في استثمار علاقاتها مع القيادة السورية الجديدة لتوقيع اتفاقات اقتصادية وسياسية وأمنية تحصن بها مصالحها في الجارة الجنوبية والمنطقة ككل إلى أجل غير مسمى، على رغم أن سلطة دمشق اليوم موقتة، ولا تمتلك وفقاً للقوانين الدولية صلاحيات إبرام معاهدات وتفاهمات مع الأطراف الخارجية وبخاصة في الملفات الإستراتيجية.
قبل أيام قليلة قال وزير النقل والبنية التحتية التركي عبدالقادر أورال أوغلو، إن بلاده تهدف إلى ترسيم حدودها البحرية مع سوريا في البحر المتوسط بعد تشكيل حكومة دائمة في دمشق، منوهاً إلى أن "هذه الصفقة ستسمح للبلدين بتحديد مساحات نفوذهما للتنقيب عن النفط والغاز"، وأي اتفاق مستقبلي في هذا المجال "سيكون متوافقاً مع القانون الدولي".
المقاربة السريعة التي تخطر ببال السوريين ودول المنطقة هي الاتفاقية التي وقعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج عام 2019، كانت أيضاً لترسيم الحدود البحرية بين البلدين وقد أثارت خلافات داخلية ليبية من جهة ومشكلات بين تركيا وبعض الدول المطلة على حوض المتوسط من جهة أخرى.
على المستوى الليبي لم تكن حكومة السراج تمثل الدولة ككل، فانتقدت دول عدة في المنطقة الاتفاقية وقالت إن الموقعين عليها ليبياً "لا يملكون التفويض الشعبي والقانوني اللازم"، وما فعلته أنقرة هو استغلال علاقتها مع حكومة طرابلس لتمرير تفاهم يمنح الأتراك نفوذاً كبيراً في المياه الدولية والإقليمية للبحر المتوسط على حساب أطراف أخرى.
على رغم الاعتراضات الداخلية والخارجية، صادق البرلمان التركي على مذكرة التفاهم مع ليبيا في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2019، وفي اليوم ذاته أقرها المجلس الرئاسي للحكومة الليبية المعترف بها دولياً، فيما صادق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عام 2020 على الاتفاقية استناداً إلى المادة (102) من ميثاق المنظمة الدولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عبر هذه المقاربة تحتاج الحكومة السورية الحالية إلى اعتراف دولي يتيح لها إبرام الاتفاقات مع دول وأطراف خارجية، وهو ما تدركه تركيا وفق تصريحات الوزير أورال أوغلو الذي قال إن "التقدم في التفاوض على صفقة بحرية يتطلب سلطة سياسية مستقرة في سوريا وبلاده تريد التعاون مع هذه السلطة في مشاريع عدة من بينها الموانئ".
والشرعية التي تتطلع لها القيادة السورية الجديدة لا تزال موضع بحث داخل أروقة السياسة في الدول الكبرى التي تقود مجلس الأمن والدول المعنية بالملف السوري في المنطقة، فثمة قائمة من المتطلبات لإتمام المرحلة الانتقالية يُنتظر من أحمد الشرع وحكومته الموقتة تنفيذها من أجل إقناع العالم بحسن نواياهم تجاه السوريين والأمن الإقليمي.
بدءاً بالحوار الوطني ووصولاً إلى إجراء انتخابات نزيهة في البلاد على أساس دستور جديد يتفق حوله السوريون ويحظون على ضوئه بحكومة ورئاسة ومجلس للنواب، كلها خطوات لا بد من المرور بها نظرياً للحصول على سلطة شرعية في العاصمة السورية دمشق يمكنها إبرام تحالفات وعقود وتفاهمات مع الأطراف الخارجية.
تجاوز كل هذا ربما يقتضي جملة من التفاهمات بين الدول المعنية بالملف السوري، ذلك لأن الجغرافيا السورية مقسمة بين دول عدة والأرضية المشتركة في رؤية السوريين لمستقبل بلادهم ليست كبيرة وتشوبها نزعات من الماضي والحاضر، إضافة إلى أن ما يحدث هناك بعد سقوط نظام بشار الأسد يمس مصالح دول المنطقة.
السؤال هو لماذا استعجلت تركيا بإعلان خططها في حوض المتوسط قبل أن تستقر الأوضاع في سوريا ويحصل السوريون على حكومة شرعية ومعترف بها دولياً؟ وبرأي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة إسطنبول، سمير صالحة، لطالما كانت التفاهمات المرتبطة بهذه المنطقة في الشق الخاص بسوريا غامضة ولا تراعي مصالح تركيا، وفرصة تثبيتها وتوضيحها اليوم كبيرة أمام أنقرة ولن تتأخر في قطفها حتى لو بصيغة أولية.
ويلفت صالحة إلى أن الحكومة الحالية في دمشق لا تتمتع بالشرعية الكافية لإبرام اتفاقات نهائية مع الأطراف الخارجية، ولكن يمكن لأنقرة التوقيع على مذكرة أولية مع حكام سوريا الجدد تكون بمثابة الإطار العام لأية مفاوضات أو تفاهمات في شأن الحدود البحرية بين البلدين في المستقبل، أي وضع محددات عامة تضمن مصالح تركيا.
برأي الباحث والأكاديمي في القانون الدولي، أحمد عجاج، يمكن للحكومة الموقتة في دمشق بوصفها حكومة "الأمر الواقع"، أن تبرم اتفاقات خارجية طالما أن لها سفراء وتمثل الدولة السورية في المحافل الدولية، ولكن ذلك لا يلغي حق البرلمان السوري المقبل في مراجعة هذه الاتفاقات وإقرارها أو نقضها وفقاً لمقتضى المصلحة العامة.
ويشدد عجاج على أن "الحكومة السورية الموقتة طالما أنها قادرة على ضبط الأمن وإدارة شؤون البلاد وفق المعايير المعروفة، فيمكنها إبرام اتفاقات اقتصادية وسياسية وأمنية وغيرها مع أطراف خارجية، ولكن الحكم على مضمون هذه الاتفاقات في جدواها وعدالتها وتلبيتها للتطلعات الوطنية يبقى رهناً بالبرلمان السوري المنتخب".
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع صرح أخيراً بأن حكومته الموقتة سوف تنظر في جدوى الاتفاقات التي وقعها النظام السابق مع روسيا خلال الأعوام القليلة الماضية لفحص عدلها بالنسبة إلى السوريين، يعرف الجميع بأن الرئيس المخلوع بشار الأسد أبرم التفاهمات مع موسكو من موقع ضعف لأنه كان بحاجة إلى حماية روسيا ودعمها العسكري ضد المعارضة، والسؤال الآن هو إن كان الشرع وحكومته سيبرمون التفاهمات مع تركيا انطلاقاً من حاجتهم الماسة لها في جوانب كثيرة أم استناداً إلى مصلحة الدولة العليا؟