ملخص
ما إن تسلم "حزب البعث" خصوصاً بعد وصول حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا بداية السبعينيات من القرن الماضي حتى صبغ الدولة ومؤسساتها باسمه بهدف تثبيت حكمه، لكن على رغم انشغال السوريين بملفات عدة بعد سقوط بشار الأسد بدأت ملامح تغيير هذه التسميات تظهر من خلال قرارات رسمية وأخرى شعبية.
ما إن تسلم "حزب البعث" السلطة في سوريا في الثامن من مارس (آذار) عام 1963 إثر انقلاب عسكري حتى بات يتغلغل في مفاصل المجتمع السوري، وبإضفاء صبغته الأيديولوجية والقومية في بلد يعج بالأعراق والطوائف والمذاهب وحتى التيارات والأفكار السياسية والثقافية، فأصبح الحزب قائداً للدولة والمجتمع وفق مادة دستورية تتيح له حكم البلاد بصورة مطلقة، والحزب نفسه تقوده هيئة تدعى "القيادة القطرية"، ويترأسها رئيس الدولة "الأمين العام".
آلية حكم الحزب الواحد ترسخت مع وصول حافظ الأسد بعدما أطاح زملاءه في قيادة الجيش إذ كان وزيراً للدفاع في حرب عام 1967 عندما انكسر جيشه وانسحب لمصلحة احتلال إسرائيل من مرتفعات الجولان، إلى أن أصبح رئيساً للبلاد بعد انقلابه على جميع قيادات السلطة في البلاد سماه بـ"الحركة التصحيحية" في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 ليصبح بعدها صاحب الصلاحيات المطلقة في الحزب والدولة والجيش، إذ جمع صلاحيات السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) في منصبه.
الرغبة في الارتقاء
حافظ الأسد الذي كان منحدراً من ريف اللاذقية ومن عائلة لا تعد من سادة الطائفة العلوية، حمل في شخصيته رغبة الارتقاء بمستواه الاجتماعي، بحسب باحثين، مثل الكاتب البريطاني باتريك سيل، فكان هذا أحد دوافع زواجه بأنيسة مخلوف التي كانت تجد نفسها أرقى منه اعتماداً على نسب عائلتها المعروف في المنطقة، كما أنه جاء في زمن "الشخصيات الرمز" لا سيما في الاتحاد السوفياتي التي عززت سوريا علاقتها بها، مثل جوزيف ستالين ونيكيتا خورتشوف، وعربياً مثل جمال عبدالناصر، فأصبح الأمر متاحاً أكثر أمام حافظ الأسد لنشر صوره في البداية في جميع مرافق الدولة والساحات العامة، ليتحول لاحقاً إلى تشييد التماثيل ونصبها في الساحات العامة وداخل المدارس والجامعات ومختلف الأماكن كالطرقات الرئيسة أيضاً.
لكن حب إظهار الشخصية وصبغ المرافق والمؤسسات الرسمية والعامة بأسماء الأسد وحزبه وعناوين أخرى كإنجازات نظامه باتت ظاهرة اعتيادية خلال 30 عاماً من حكم الأسد الأب، وانسحب الأمر خلال 24 عاماً من حكم الابن بشار الأسد، حتى باتت بعض العبارات التمجيدية لهذه البلاد تسمي البلاد بـ"سوريا الأسد"، وهذه العبارة تجاوزت حدود سوريا وأصبحت عبارة لمخاطبة البلاد كنوع من الإطراء والتزلف حتى من قبل بعض الساسة أو من يودون علاقات جيدة مع الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.
معارضون سوريون، وعلى قلتهم في إظهار مواقفهم زمن الأسد الأب بسبب التنكيل والقمع، وصفوا حال البلاد بأنها "مزرعة الأسد"، في إشارة إلى استغلال الأسد وعائلته والمقربين منه وأتباعه من الحزبيين والمتنفذين مختلف موارد البلاد، حتى إن قطاع النفط لم يعرف أحد مداخيله إلى خزانة الدولة، وكيف يجري التعامل معها في حين كشف لاحقاً عن أنها كانت تذهب إلى حساب بنكي خاص بالرئيس السوري، كما أن انتحار، أو اغتيال رئيس الوزراء الراحل محمود الزعبي كان بسبب سرقته ملايين الدولارات من حساب الرئيس في الخارج، إذ كان يعلم أرقام وبيانات الحساب، مما دفع الأسد الأب في نهايات حكمه إلى معاقبة رئيس وزرائه بسبب تلك السرقة وفق مذكرات نائب الرئيس الأسبق عبدالحليم خدام.
صور وأسماء وشعارات
إن جبروت الأسد الأب في البلاد كان يتجلى في شعارات يومية تطلق صباح كل يوم في المدارس بمختلف مراحلها حيث كان التلاميذ يرددون "قائدنا إلى الأبد... الأمين حافظ الأسد"، إلى جانب شعارات "حزب البعث"، وأيضاً أقواله وصوره في المنهاج المدرسي، وحتى دفاتر الأطفال كانت صور الأسد مطبوعة عليها.
وفي دمشق أنشأت الدولة عدداً كبيراً من المرافق والمؤسسات وجميعها كانت تحمل اسم الأسد، وامتازت عن غيرها من المؤسسات الشبيهة بجودة الخدمة ونطاقها الواسع، أبرزها "مستشفى الأسد الجامعي"، إذ كان دخول المستشفى وقبول المرضى فيه يحتاج إلى إجراءات أدق من غيرها إلى جانب المحسوبيات أو دفع رشى للمعالجة فيه، وكان أمهر الأطباء وأشهرهم وأقدرهم يعملون في هذا المستشفى.
كذلك خلف قيادة الأركان العسكرية، وفي إطلالة على ساحة الأمويين المقابلة لمبنى الإذاعة والتلفزيون، بدأ بناء مكتبة ضخمة جداً في مساحة 22 ألف متر مربع في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وأصبحت مرجعاً للباحثين والدارسين وطلاب الدراسات العليا في الجامعات السورية، وسميت هذه المكتبة الضخمة بـ"مكتبة الأسد الوطنية".
وعلى بعد مئات الأمتار شرق المكتبة، في بداية تسعينيات القرن الماضي، أنشئ جسر يربط حي أبو رمانة والبرامكة من فوق نهر الفرات والطريق المحاذي له وسط دمشق، وسمي عقب انتهائه بـ"جسر الرئيس حافظ الأسد"، لكن المفارقة أن الجسر بات مكاناً مزدحماً للركاب وقاصدي التنقل إلى ضواحي دمشق من خلال وجود باصات النقل الداخلي، وتحول إلى مشهد يختصر فقر سكان سوريا إذ أصبح مرتعاً للمتسولين وباعة يفترشون بضاعتهم على الأرض.
وفي كل مدينة ومحافظة وحتى قرية كانت المؤسسات موسومة باسم الأسد الأب إلى جانب صوره في الشوارع والساحات وعلى الطرقات الرئيسة.
دور باسل
في يناير (كانون الثاني) 1994 قضى باسل حافظ الأسد في حادثة مرورية ما زالت تفاصيلها غامضة حتى مع تناسق روايات غير مؤكدة باغتياله وتصفيته بسبب خلافات وتضارب نفوذ في عائلة الأسد نفسه، وباسل كان النجل الأكبر لحافظ، وكان يعد لتسلم الحكم من بعده بحسب الأوساط المحيطة بمصدر القرار. وكان الرجل في منتصف الثلاثينيات من عمره عندما قضى في الحادثة، وأدى مقتله إلى خيبة أمل كبيرة لدى حافظ الأسد الذي استدعى، إثر تلك الحادثة، ابنه بشار الذي كان يدرس اختصاص طب العيون في لندن ليهيَّأ من بعد أخيه لتولي الحكم.
ثمة مشهد ألفه السوريون عندما قرأ بشار الأسد كلمته في نعي أخيه أمام والده والمسؤولين الكبار في الدولة في ساحة مفتوحة في بلدة القرداحة حيث مدفن أفراد العائلة وقبر باسل، بدا واضحاً على الأسد الأب عدم رضاه عن أداء ابنه بشار، وهو سرب لاحقاً أنه ما كان يجد فيه صفات الوراثة والحكم والسلطة مقارنة بأخيه الذي قضى في حادثة السير.
وأعلن الحداد لأيام عدة بسبب وفاة باسل الأسد الذي لم يكن يحمل أي صفة رسمية في البلاد سوى أنه نجل الرئيس الأكبر، فكان أول الألقاب التي تعرف إليها سكان سوريا "الشهيد الرائد الركن والمهندس المظلي باسل حافظ الأسد" مع صورة ملونة محاطة بالورد أصبحت منتشرة في جميع أرجاء سوريا، لتبدأ مرحلة جديدة من تسمية المؤسسات والمرافق في البلاد، ففي الجانب الرياضي إذ كان باسل يهوى ويحترف رياضة الفروسية وغالباً ما كان يحصل على المرتبة الأولى في المنافسات المحلية، وأحياناً خارج البلاد، سميت أندية الفروسية جميعها تقريباً باسمه، وكذلك مسابقاتها وبنسخها المتتالية، إلى مسابقات كرة القدم والقفز المظلي والسباحة، وغيرها من النشاطات الرياضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس الرياضة فقط
لكن حيزاً كبيراً كان ينافس المجال الرياضي في تسمية مؤسساتها باسم باسل الأسد وبخاصة تلك المتعلقة بجراحة وأمراض القلب، وهي الأخرى كانت فيها جودة الخدمات والمعالجة أفضل من نظيراتها التابعة للحكومة، لا بل إن بعضها تحول إلى "هيئة الباسل" كالهيئة العامة لـ"مستشفى الباسل لجراحة وأمراض القلب" في عدد من المدن أبرزها دمشق العاصمة.
كذلك تمت سُميت حديقة عامة أنشأتها البلدية في مدينة سري كانيه (رأس العين) في أقصى شمال شرقي البلاد، في ثمانينيات القرن الماضي، باسم "حديقة الباسل" بعد وفاته.
كما شهدت سوريا تسمية ولادات جديدة حملت اسم باسل.
قرارات التغيير
وبعد سقوط نظام الأسد بأيام معدودة وتسلم ماهر الشرع، شقيق قائد إدارة العمليات أحمد الشرع، شؤون وزارة الصحة أصدر قراراً بتاريخ الـ24 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري يقضي بتعديل أسماء الهيئات العامة للمستشفيات المسماة باسم باسل، وكذلك السد إما إلى الوطني أو بأسماء المدن التي توجد فيها هذه المستشفيات، ومعظمها لجراحة القلب، ويبلغ مجموعها 14 مستشفى وكلها تتبع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
وفي اليوم التالي لصدور قرار وزير الصحة أصدر رئيس الوزراء الجديد محمد البشير قراراً، بناءً على قانون تنظيم الجامعات، يقضي بتعديل اسم "جامعة تشرين" إلى جامعة اللاذقية، وكذلك "جامعة البعث" إلى "جامعة حمص".
أما في دمشق فقد اعتمد شعبياً تعديل اسم "مكتبة الأسد" إلى "المكتبة الوطنية"، وكذلك "جسر الرئيس" إلى "جسر الساروت"، كناية إلى الشاب المتحدر من مدينة حمص، الذي كان حارس مرمى المنتخب الوطني و"نادي الكرامة"، وانضم إلى الاحتجاجات الشعبية ليلقب باسم "بلبل الثورة" إذ كان يهتف وينشد في الجموع أثناء التظاهرات في مدينة حمص لكنه انضم لاحقاً إلى العمل المسلح، وقتل في محافظة حماة في يونيو (حزيران) 2019 متأثراً بجروحه.
واستطاع السوريون كسر جميع تماثيل الأسد مع سقوط النظام، التي سبق أن حطمها الأكراد في شمال شرقي البلاد في ما عرفت بـ"انتفاضة 12 آذار"، وهي احتجاجات شعبية قام بها الأكراد في المدن التي يقطنونها لكنها سرعان ما قمعت بقوة جيش النظام وقوى الأمن، لكن السوريين يعدون تلك الانتفاضة مصدر إلهام لكثير منهم.
أين أثر الأسد؟
لقد طبعت عائلة الأسد اسمها على مرافق وأماكن عامة في سوريا، لكن موجة الاحتجاجات الشعبية التي طاولت البلاد في مارس 2011 نبهت السكان إلى أن البلاد ملك لهم وليس لحكامها، حتى إن بعض الشعارات في التظاهرات كانت تقول "سوريا لنا وما هي لبيت الأسد"، لكن آلة حرب الأسد دمرت البلاد مع كل ما بنته الدولة بما فيها تلك التي سميت باسمهم من مرافق ومراكز خدمية، ليبقى السؤال هذه الأيام: ماذا فعل الأسد لهذا البلد؟