ملخص
منذ نحو أكثر من شهر تشهد مدينة الخرطوم بحري معارك واشتباكات شرسة استخدم خلالها الجيش القصف الجوي والمدفعي والمشاة، وتمكن من التقدم إلى وسط المدينة في طريقه إلى سلاح الإشارة جنوب المدينة في سعيه إلى فك الحصار عن مقر القيادة العامة بالعاصمة.
في خضم مأساتهم الممتدة، ومن وسط المعارك المحتدمة في الخرطوم بحري والفاشر وصحاري دارفور، يتطلع السودانيون إلى عام جديد، لعله يحمل بعض بوادر الأمل بتوقف الحرب واستعادة بلادهم سلامها المفقود، بعد عام مأسوي خلفت فيه الحرب المتواصلة الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم، في ظل شلل وجمود كل المساعي الإقليمية والدولية من أجل الحل السلمي، فكيف هي حال السودانيين بين عام مغادر وآخر يطرق الأبواب؟
شهدت آخر أيام الأسبوع الأخير من هذا العام وداعاً قاسياً بكارثتين منفصلتين في منطقة الخرطوم بحري، الأولى محرقة حي المزاد التي ماتت فيها أسر عدة بكامل أفرادها، نتيجة سقوط قذائف حارقة على الحي، بحسب شهود عيان، فيما سقط عشرات الضحايا في حي شمبات نتيجة قصف جوي لطيران الجيش، وفق بيان لحزب الأمة القومي.
ومنذ نحو أكثر من شهر تشهد مدينة الخرطوم بحري معارك واشتباكات شرسة، استخدم خلالها الجيش القصف الجوي والمدفعي والمشاة، وتمكن من التقدم إلى وسط المدينة في طريقه إلى سلاح الإشارة جنوب المدينة، في سعيه إلى فك الحصار عن مقر القيادة العامة بالعاصمة.
إرهاصات الجوع
تطل ملامح عام 2025 على السودان بإرهاصات اتساع دائرة الجوع، بحسب توقعات نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، لتشمل خمس مناطق جديدة في شمال دارفور بحلول مايو (أيار) 2025. كما حددت اللجنة 17 منطقة أخرى في أنحاء السودان المختلفة معرضة لخطر المجاعة، في ما اعتبرته "يمثل تفاقماً وانتشاراً لم يحدثا من قبل لأزمة الغذاء والتغذية، نتيجة الصراع المدمر وضعف وصول المساعدات الإنسانية".
واستبقت الحكومة السودانية صدور تقرير نظام التصنيف بتعليق مشاركتها في النظام، متهمة إياه بعدم الموثوقية وتقويض سيادة وكرامة البلاد.
وفي يونيو (حزيران) الماضي اجتاحت الفيضانات والسيول مدن وقرى الولايات الآمنة شمال وشرق السودان، وسحقت كارثة انهيار سد خور أربعات مئات القرى في شرق البلاد. ومنذ أسبوعين اجتاح فيضان النيل الأبيض عدداً من قرى جنوب خزان جبل أولياء، متسبباً في نزوح ما يقارب 30 ألف مواطن في عشرات القرى.
غربة ممتدة
في السياق، يقول الناشط السوداني مدثر يعقوب، "إن استمرار الحرب والتصعيد العسكري هذا العام كله وطوال 20 شهراً منذ بدء الحرب أفرز تداعيات إنسانية واجتماعية غيرت واقع السودانيين إلى أسوأ ما يكون، فمع توسع القتال وتفشي الجوع أمضى الناس معظم أيامهم في رحلة ممتدة من النزوح لا تكاد تهدأ أو تنقطع، تلاحقهم أصوات القصف والرصاص وشبح الموت والجوع والأوبئة من ولاية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر".
يتابع، "للأسف لم يحصد السودانيون هذا العام سوى التشرد والغربة داخل وخارج الوطن، بعدما تجاوز دمار الحرب الواقع المادي إلى تحطيم ملامح البلاد وإنسانية مواطنيها، ولحقت تشوهات كبيرة بالمجتمع السوداني وكشفت الحرب مآسي وتناقضات عميقة داخله، بغياب كثير من القيم الفاضلة وتفشي الجشع والمغالاة في أسعار كل شيء، وانتشر اللصوص والسرقات وعصابات النهب المسلحة".
حنين وذكريات
بحسب الناشط مدثر يعقوب، "فإنه في مقابل ذلك بعثت الحرب تجارب خيرة من عمق إرث السودانيين ظهرت في (التكايا) التي انتعشت بفضل أيادٍ بيضاء أنقذت مئات الأرواح، التي لولاها لعصف الجوع في هذا العام بكثير من الأسر النازحة التي لم تعد تملك قوت يومها في كثير من المناطق بالعاصمة والولايات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يختم الناشط الاجتماعي حديثه بأن "الحرب بددت طعم ونكهة كثير من المناسبات التي تحملها نهايات ديسمبر (كانون الأول) للسودانيين من كل عام، (كعيد الميلاد ورأس السنة الهجرية وذكرى الاستقلال وثورة ديسمبر)، والتي مرت باردة من دون تفاعل، لذلك بينما ينتظر كثير من الشعوب في هذه الأوقات عاماً جديداً أفضل من سابقه، يغرق السودانيون في الحنين للماضي باجترار ذكريات أعوام مضت عاشوا فيها بسلام".
متى نعود؟
خارجياً يقول اللاجئ عاطف عبدالرحيم، "ظللنا بعد الفرار عالقين في الخارج بين محنة اللجوء وأحلام العودة، كل آمالنا هي أن تتوقف الحرب في العام الجديد (2025)، لأن ظروفنا كلاجئين تسوء يوماً بعد يوم، ولا يفارقنا حنين إلى الديار".
يضيف عبدالرحيم، "لكن المشكلة أن لا أحد يدري متى ستنتهي هذه الحرب، لذلك لا ندري متى سنرتب نفسنا للعودة، وهو وضع نفسي أشبه بالشعور بالضياع، لكن للأسف لا يستطيع أحد التنبؤ بموعد نهايتها".
ويشكو الإحباط الكبير الذي يسيطر على اللاجئين خارج الحدود وهم يتابعون أنباء مفزعة عن التدمير الكبير الذي تتعرض له البنى التحتية والخدمات، مما يعقد مسألة تهيئة الأوضاع للعودة ويقلص مساحات التفاؤل بعودة قريبة للوطن.
المأساة المنسية
على الصعيد نفسه، اعتبر الباحث في المجال الإنساني، سيف الدين إبراهيم، أن العام الحالي كان طويلاً وثقيلاً على السودانيين يسيطر عليه الموت والدمار، تحولت فيه مأساتهم إلى أزمة منسية، وانتقلت إلى هامش اهتمامات المجتمع الدولي وضعفت فيه الاستجابة للحاجات الإنسانية المتزايدة للمتضررين.
يشير إبراهيم إلى أن تواصل العمليات الحربية يعني استمرار تفاقم الأوضاع الإنسانية وتضاعف موجات النزوح الداخلي والفرار الخارجي، في وقت تتوقع فيه المنظمات الأممية والدولية أن تزداد حدة انعدام الأمن الغذائي خلال الأشهر المقبلة، مما يعني أن السودانيين مقبلون على أيام قد تكون أكثر سواداً وسوءاً مما هي عليه الآن.
على الصعيد ذاته، أوضح الباحث في مجال حل النزاعات والقيادي في تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية (تقدم)، بابكر فيصل، أن القوى المدنية ظلت تحذر منذ الأيام الأولى للحرب من أن طول أمدها سيؤدي إلى نتائج وخيمة، على رأسها الخطر الكبير الذي سيهدد وحدة البلاد وينذر بتقسيمها وتفتيت كيانها الحالي.
خطر التفكيك
بعد 20 شهراً من الحرب، وفق فيصل، أضحى خطر تفكيك البلاد ماثلاً عبر ممارسات لا تخطئها العين، في مقدمها خطاب الكراهية الجهوي والعنصري الذي ضرب صميم النسيج الاجتماعي، وخلق حاجزاً نفسياً يمهد لانقسام البلاد بصورة واضحة.
ورأى أن الخطوات التي اتخذتها سلطة الأمر الواقع في بورتسودان بتغيير العملة التي فرضت واقعاً يقسم النظام المالي بالبلاد، إلى جانب قرار إجراء اختبارات الشهادة السودانية في مناطق الجيش من دون مواقع قوات "الدعم السريع"، فضلاً عن الخطوة المزمع اتخاذها من بعض القوى السياسية والحركات المسلحة بإعلان حكومة موازية خارج مناطق سيطرة الجيش، تشكل كلها خطراً كبيراً على وحدة البلاد.
انتصارات وانهيار
في الضفة الأخرى هناك من يرون أن عام 2024 كان هو عام الانتصارات وبداية انهيار قوات "الدعم السريع"، نتيجة للانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش وتملكه زمام المبادرة الميدانية في المحاور الرئيسة بالخرطوم والفاشر والجزيرة، فضلاً عن أن الحرب على رغم آثارها الكارثية فإنها وحدت مشاعر الشعب تجاه فظائعها وتعاطف أهل الشمال مع الوسط والجنوب والغرب.
ويبدو المتحدث باسم القوات المشتركة في دارفور، المقدم أحمد حسين، متفائلاً بأن "هذا العام سيمضي بكل مواجعه وجراحاته وآلامه التي أحاطت بملايين السودانيين، وسيطل من وراء كل هذه العتمة وغمامة الحزن كثير من الآمال، ويتحقق النصر قريباً".
معارك ومحطات
تطورات عسكرية متلاحقة شهدها العام الحالي شكلت أهم ملامح مسار الحرب ومحطاتها البارزة، إذ شهد أول أيام العام توقيع قيادتي تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) وقوات "الدعم السريع" على إعلان أديس أبابا في الثاني من يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي فجر جدلاً كثيفاً بالأوساط السودانية، ووسع الهوة بين (تقدم) وقيادة الجيش.
في فبراير (شباط) التالي تفجرت معركة الاتصالات بانقطاع شامل لشبكات الاتصال واتهام "الدعم السريع" بتعطيل المحولات الرئيسة للشركات المشغلة في مناطق سيطرتها وسط الخرطوم.
الاستنزاف الطويل
خلال الأسبوع الثاني من مارس (آذار) الماضي بدأ الجيش يتقدم وأكمل سيطرته على أحياء مدينة أم درمان القديمة، واستعاد مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون.
بعيداً من العاصمة انفجرت في مايو الماضي معارك ضارية للسيطرة على مدينة الفاشر عاصمة دارفور التاريخية، زادت حدتها وشراستها بعد تخلي الحركات عن حيادها، وكثفت قوات "الدعم السريع" هجماتها الشرسة على المدينة، لتبدأ حرب حصار واستنزاف طويلة لا تزال مستمرة على رغم التدهور المريع للوضع الإنساني بالمدينة.
لم يجد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في يونيو الماضي، المطالب بالوقف الفوري للقتال وحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية وإنهاء حصار المدينة، أي صدى على أرض الواقع. في الوقت نفسه اتجهت قوات "الدعم السريع" لتسيطر على جبل موية، ثم مدينة (سنجة) عاصمة ولاية سنار، مما أسفر عن أكبر موجة نزوح يشهدها السودان في تاريخه الحديث، إلى جانب أعمال نهب وانتهاكات مروعة في حق المدنيين.
انفتاح وانتقام
بنهاية سبتمبر (أيلول) الماضي أطلق الجيش السوداني أكبر عملياته العسكرية بتنفيذ انفتاح شامل بدأ بعملية (عبور الجسور) من بحري وأم درمان في اتجاه الخرطوم، تصاعدت إثرها شراسة المعارك والمواجهات، وتمكن خلالها الجيش للمرة الأولى منذ بدء الحرب من التقدم داخل قلب العاصمة السودانية.
في مقابل انفتاح الجيش صعدت قوات "الدعم السريع" من عملياتها الحربية، وأعلن قائدها نفض يده عن التفاوض والاستنفار لحشد مليون مقاتل في إطار ما سماه الخطة (ب) البديلة.
وهنا، تابع الجيش عملياته الواسعة على محاور عدة، وتمكن في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي من استعادة منطقة جبل موية الإستراتيجية ومدينة (سنجة) عاصمة ولاية سنار ومدينتي السوكي والدندر في الولاية ذاتها، كما أحرز تقدماً في شمال مدينة الخرطوم بحري وجنوب أم درمان.
ومع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وعلى نحو مفاجئ انحاز أحد قادة قوات "الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، وهو (أبو عاقلة كيكل) للجيش السوداني، مما أدى إلى رد فعل عنيف من "الدعم السريع" بشن حملات انتقامية دموية قتل فيها مئات السودانيين وهجر آلافاً من مدن وقرى شرق الجزيرة.
حصيلة صادمة
ودع السودانيون هذا العام بحصيلة إنسانية صادمة وسط تضارب كبير في الإحصاءات، فينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى سقوط أكثر من 14 ألف قتيل، ترجح منظمة أطباء بلا حدود أن يصل العدد إلى 40 ألفاً في الأقل.
وخلفت 20 شهراً من الحرب نحو 14 مليوناً و800 ألف نازح ولاجئ، منهم نحو 3.2 مليون لاجئ، بحسب آخر تحديث لمنظمة الهجرة الدولية، و25.6 مليون شخص في حاجة إلى المساعدات الإنسانية، منهم 18 مليوناً يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، ودفعت بـ80 في المئة من أطفال السودان أي (17 مليوناً) خارج الدراسة.