ملخص
قال الأمين العام لمركزية مؤتمر "الكنابي" في السودان إن "سكان ’الكنابي‘ لا علاقة لهم بما يحدث من قتال، فهم لا ينتمون إلى أي من طرفي الحرب، فجميعهم أناس بسطاء كل همهم كيف يوفرون قوت يومهم، ومن المؤسف أن تبدأ عملية التخوين ضدهم قبل أن تجف دماء قتلاهم الذين وقعوا ضحايا الغدر من دون ارتكاب جرم".
أحدثت الانتهاكات وأعمال السلب والنهب التي مارستها قوات "الدعم السريع" في حق مواطني ولاية الجزيرة عقب سيطرتها عليها في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023 شروخاً كبيرة في مجتمعات الولاية، إذ ارتفعت أصوات في شكل حملات منظمة على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بإزالة "الكنابي" (وهي تجمعات سكنية لعمال المشاريع الزراعية) من الولاية التي تضم أكبر مشروع زراعي في البلاد، بسبب اتهام سكانها بالتعاون مع "الدعم السريع" من خلال الإرشاد وتوفير المعلومات عن رموز المجتمع وأثريائه وقياداته السياسية المناوئة لتلك القوات، فضلاً عن المشاركة في عمليات النهب التي طاولت المؤسسات الحكومية ومنازل المواطنين.
في المقابل لقيت هذه الدعوات استهجاناً من قبل قادة مجتمعات "الكنابي"، الذين اعتبروا أنها تقع ضمن إطار "استهداف عنصري وإثني ممنهج"، مما ينبئ بصراع قادم بعد توقف الحرب.
فكيف ينظر المراقبون إلى هذه القضية وما ستحدثه من صراع مستقبلي وأثره في استقرار البلاد؟
جريمة أخلاقية
يقول الأمين العام لمركزية مؤتمر "الكنابي" في السودان، جعفر محمدين، إن "ما حدث من انتهاكات لمكونات مجتمع ’الكنابي‘ خلال فترة الحرب أمر خطر وكارثي، لأنه كان واضحاً أن هناك استهدافاً عرقياً وعنصرياً ممنهجاً من قبل طرفي الحرب ضد سكان تلك المكونات، وللأسف الشديد تعرض عدد من ’الكنابي‘ لهجوم منظم ينطلق من خطاب كراهية بغيض، إذ رُفع شعار 'لا كنابي بعد اليوم'، في وقت يقدم فيه أبناء هذه المكونات أرواحهم دفاعاً عن الوطن سواء في صفوف الجيش أو القوة المشتركة التابعة للحركات المسلحة، فالآن تهاجم حواضنهم باستمرار من قبل المستنفرين وما يسمى المقاومة الشعبية". وأضاف، "كل هذه الأفعال البغيضة تجد منا الإدانة بأغلظ العبارات، لأنها تعد جريمة أخلاقية لا يمكن السكوت عنها، فهي تهدد وحدة النسيج الاجتماعي وإحداث انقسامات داخله، لذا نحمل المسؤولية الكاملة للجهات المتحاربة لأي انتهاك تعرض له 'إنسان الكنابي' ونطالبها بحمايته وتوفير الأمن له، وفتح تحقيق عاجل في الجرائم التي ارتكبت من حرق لأحد ’الكنابي‘ وطرد سكانه الذين أصبحوا لاجئين ونازحين، ولا بد من محاسبة الجناة".
وزاد محمدين، "للأسف، الذين عُنفوا كان بعضهم عمالاً في المزارع، والآخرون اقتيدوا من داخل منازلهم، وصُفي بعضهم، وهناك انتهاكات قام بها أفراد من 'الدعم السريع'، وهو ما يؤكد أن الطرفين مارسا انتهاكات واسعة ضد سكان الكنابي".
وبين أن "سكان الكنابي لا علاقة لهم بما يحدث من قتال، فهم لا ينتمون إلى أي من طرفي الحرب، فجميعهم أناس بسطاء كل همهم كيف يوفرون قوت يومهم، ومن المؤسف أن تبدأ عملية التخوين ضدهم قبل أن تجف دماء قتلاهم الذين وقعوا ضحايا الغدر من دون ارتكاب جرم".
وأشار الأمين العام لمركزية مؤتمر "الكنابي" إلى أنه "على رغم كثرة ضحايا الحرب في مختلف الولايات، فإن مجتمعات ’الكنابي‘ هي من دفعت الثمن الأكبر في هذا الصراع الجاري، لذلك يجب على طرفي الحرب الجلوس إلى طاولة التفاوض من أجل وقف هذه الحرب العبثية حتى لا تصبح حرباً أهلية شاملة".
إثبات قانوني
من جانبه أوضح المتحدث الرسمي، رئيس اللجنة القانونية في مؤتمر الجزيرة هيثم الشريف، أن "قضية ’الكنابي‘ أو السكن الاضطراري في ولاية الجزيرة تحتاج إلى علاج جذري بالفعل، من جهة كونها تمثل نوعاً من أنواع السكن العشوائي الذي يحتاج إلى مراجعة قانونية وهندسية، لكن يجب أن يكون العلاج في إطار قانوني وحقوقي وليس سياسياً، لأن القضية في أصلها ليست سياسية ولا توجد أية مقومات لتصبح قضية سياسية مهما حاول البعض الاستثمار في هذا الأمر بغرض توظيفه لخدمة أجندة محددة".
وتابع الشريف، "بالنسبة إلى دور أهل ’الكنابي‘ السلبي في الحرب فهذا تعميم وسابق لأوانه ويحتاج إلى إثبات قانوني، وساعتها فما ينطبق على المجرم من ’الكنابي‘ ينطبق على المجرمين الآخرين".
واستطرد المتحدث الرسمي باسم مؤتمر الجزيرة، "التحدي بالنسبة إلينا الآن هو تحرير ولاية الجزيرة من ميليشيات ’الدعم السريع‘، وبعد عودة سكانها إلى ديارهم يمكنهم معالجة القضايا التي تهمهم كافة بما فيها قضية ’الكنابي‘، في إطار سلمي وحقوقي ودستوري من دون أن يظلم أحد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكمة وتروٍّ
في السياق قال أحد القيادات السياسية في ولاية الجزيرة، ويدعى خلف الله الشريف، إن "بعض العناصر في ’الكنابي‘ آزرت ميليشيات 'الدعم السريع' واشتركت في أعمال النهب والسرقات التي طاولت معظم مدن وقرى ولاية الجزيرة، لكن في الوقت ذاته هناك من لم يشترك في هذا الجرم، بل منهم من استنكر ما تقوم به الميليشيات ومعاونوها من فظائع في حق الوطن ومواطنيه". وأضاف الشريف، "حقيقة ما وقع في قرى الجزيرة من قتل وسحل ونهب وتهجير يجعل في نفوس كل المواطنين غضباً تجاه من قام بهذه الأعمال الوحشية ومن عاونهم، وهنالك أصوات ترتفع كرد فعل على ما حدث، لكني أرى ألا نأخذ كل الناس بجرائم بعضهم، ويجب التروي قبل اتخاذ أية خطوة في هذا الخصوص". وأردف "لكن من الضروري والمهم ألا يفلت أي مجرم من العقاب، وألا يؤخذ الآخرون بجرائم غيرهم، فالأمر شائك ويحتاج إلى الحكمة والتروي، لأننا في النهاية ننشد حياة خالية مما حدث من جرائم وانتهاكات وحشية وخالية أيضاً من ترسبات هذه الحرب وما تركته في النفوس".
ونوه القيادي السياسي بأن "معالجة المجتمعات هي واجب كل الناس وتنقيتها ضرورة في المرحلة القادمة، لذا فلا بد من بذل جهود مضاعفة من أجل أن يتعافى المجتمع تماماً".
تجمعات عمال
وتعرف "الكنابي" بأنها تجمعات لعمال موسميين تقع عند أطراف مدن السودان، بخاصة في المشاريع الزراعية المروية، قبل أن تتمدد مع مرور الوقت وتتحول إلى مناطق مأهولة يقطنها، إلى جانب العمال وأسرهم، فارون من مناطق الجفاف والحروب أو ساعون إلى تحسين ظروفهم الاقتصادية.
وبحسب باحثين في شؤون الهجرة، فإن سكان "الكنابي" هم مجموعات بشرية هاجرت من منطقة دارفور في غرب السودان ومنطقة كردفان في أواسط البلاد، وتعود بدايات هجرتهم إلى عام 1885 أثناء العهد المهدوي.
وارتبط إنسان ’الكنابي‘ من البداية بالزراعة في القطاعين المروي والمطري، وهم الآن عماد العمال الزراعيين في السودان، وعلى عاتقهم يقع عبء ترقية الإنتاج والإنتاجية في المشاريع الزراعية، بعدما هجر معظم المزارعين العمل بالزراعة ليقوم سكان ’الكنابي‘ وبخاصة المرأة بدور كبير في إنتاج المحاصيل الزراعية الرأسمالية والغذائية الأخرى، وفي سبيل ذلك تحملوا كل تبعات الظروف السيئة، وتأثيرات التعرض المباشر وغير المباشر للمبيدات السامة وظهور كثير من حالات السرطان والفشل الكلوي وأمراض الكبد الوبائي.
ويقدر عدد "الكنابي" في ولاية الجزيرة بأكثر من 2150 "كمبو" (معسكر)، إذ يسهم سكانها بنسبة 75 في المئة من العملية الإنتاجية مقارنة بمساهمة المزارعين بمختلف فئاتهم التي تبلغ 25 في المئة، ويحصل العمال الزراعيون على 12 في المئة من العائد مقابل 88 في المئة للمزارعين.