ملخص
رحل الروائي الفرنسي باسكال لينيه عن 82 عاما بعدما انجز أعمالا روائية مهمة وأسس تيارا قائما على مساءلة الذات والجماعة، وحاز جائزة غونكور عن روايته الشهيرة "حائكة الدانتيلا" العام 1974.
لا تبدو التفاصيل الغارقة في الواقعية، والمتقاطعة مع الأسئلة الفلسفية الحائرة، مجرد تعبير عن أفكار باسكال لينيه، بل إنها تبني عالم رواياته، في تداخل منسجم، يشبه تشابك قماش الدانتيلا. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن قدرة هذا الكاتب على تحويل شخصياته العادية، إلى مرآة تعكس أعمق مشاعر الإنسان. تبدو أفكار بعض رواياته بسيطة ظاهراً، لكنها تُخفي عوالم كاملة من الطبقات الفكرية والفلسفية، التي تمضي بعيدا في البحث عن الهوية الداخلية للأبطال.
باسكال لينيه، الكاتب الفرنسي المؤثر، الذي رحل عن عمر يناهز 82 عاما، تحمل كتابته الإجابة على هذه الاسئلة، من خلال أعماله التي تمزج بين العمق النفسي، والتعالقات الاجتماعية، فقد استطاع أن يترك بصمته الخاصة في الأدب الفرنسي، مجسدًا الطبيعة الإنسانية بكل مآلاتها وتشتتاتها وتناقضاتها. يقول: "نحن لا نعيش إلا شذرات من حياتنا، نحن لا نعيش بما فيه الكفاية. وإذا فشلنا في محاولتنا الأولى، فلا مجال للمحاولة مرة أخرى. على أي حال، كم من الرجال، في لحظة وفاتهم، يمكنهم القول دون ضحك أنهم عاشوا حقاً؟".
كرس لينيه حياته للكتابة والتصوير الفوتوغرافي، صدر له 40 كتابا، من بينها 30 رواية. وتوج حياته الأدبية بجائزتين أدبيتين مرموقتين، ففي عام 1971، فاز بجائزة ميديسيس عن روايته "اللا ثورة"، ثم بعد ثلاث سنوات عام 1974، فاز بجائزة غونكور عن روايته "حائكة الدانتيلا"، وكلاهما من إصدارات دار غاليمار.
"حائكة الدانتيلا"
أعاد موت لينيه روايته، "حائكة الدانتيلا"، إلى الواجهة من جديد، هذه الرواية تُرجمت إلى عدة لغات، وتم تحويلها إلى فيلم من قبل كلود غوريتا في عام 1977، ومن بطولة إيزابيل أوبير، التي أدت دور الفتاة البسيطة بوم.
الرواية تحكي قصة بوم، وهي فتاة شابة، تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، تعمل في صالون لتصفيف الشعر، عاشت من دون أب، مع أمها التي تعمل نادلة في مقهى. خلال عطلتها على الساحل النورماندي، تلتقي بوم مع إيميري، وهو شاب نبيل ومثقف جاء ليمضي إجازته الصيفية أيضا، يحدث انجذاب سريع بينهما، لذا يأخذها إيميري لتعيش معه في باريس، حيث يدرس. هكذا تجد نفسها رفيقة لهذا الشاب الطموح والأرستقراطي، المأخوذ برشاقة حركاتها ورقتها الفطرية، إلى حد أن أطلق عليها لقب "حائكة الدانتيل". بوم المتواضعة والخجولة تكتشف لذة الحب لأول مرة مع إيميري دي بيلينيه. لكن ثمة حائل بينهما، رغم حياتهما معا، هو أن بوم مجرد عاملة بسيطة، لم تنل قسطا وافرا من التعليم، وبلا خبرة حياتية كافية، بينما إيميري ينتمي إلى البرجوازية المثقفة؛ إنهما من عالَمين مختلفين تماما.
تحمل بوم، روحا هادئة، وحضورا جسديا مرهفا، تكتفي بالمشاركة في هذا العالم عبر التفرج، والتفاعل في سلوكيات متناغمة وهادئة لا ترجو الكثير، ولا تنطق بما يختلج في داخلها، ولا تجد الكلمات التي تُترجم مشاعرها وأحاسيسها. لذا يراها البطل بعين سطحية، ويحكم عليها بأنها فتاة عادية، ويصفها بأنها خاوية بلا عمق. لم يدم إعجابه بها طويلاً؛ إذ أرهقه صمتها، وأزعجه رضاها الهادئ، رآه خضوعاً، وخجلها اعتبره استسلاما، وسكونها ظنه فراغاً وغياباً للفضول.
يهجرها إيميري، فتعود بوم إلى عالمها البسيط، لكن شيئاً ما قد تغير فيها؛ إذ اخترقت تجربة الحب والثقافة عالمها الداخلي كالدودة التي تفسد الثمرة. لن تخرج بوم من هذه التجربة سالمة؛ صمتها الذي كان ملاذها أصبح عبئاً يلتهمها ببطء، والكلمات التي لم تستطع نطقها أصبحت سبب معاناتها. بوم، الهشة التي تبدو وكأنها تتقبل الأمر بسهولة، تعود للعيش مع والدتها في ضواحي باريس. لكنها تبدأ في التلاشي ببطء، "غير راغبة في طلب شيء من عالم لم يمنحها سوى القليل"، ثم ينتهي بها المطاف في المستشفى، تنزلق تدريجياً نحو الجنون، أما إيميري، فيواصل حياته، وحيداً، في مسار عادي وباهت.
اختار باسكال لينيه كتابة هذه الرواية، ضمن بناء سردي محكم للغاية، وبأسلوب يبدو باردا في ظاهره، عميقا في دلالاته، يرسم الكاتب صورة مأساوية لروح خذلتها الكلمات، ولحياة أُنهكت بصمتها حتى النهاية. لنقرأ: "كائن لا يستطيع الكلام أو التعبير عن نفسه، يختفي بلا صوت وسط الحشد البشري، كخربشة صغيرة على طاولات التاريخ، كائن يشبه ندفة ثلج تائهة في قلب الصيف، هل هو حقيقة أم حلم؟ هل هو خير أم شر؟ ثمين أم بلا قيمة؟".
ثورة مؤجلة
في حالة من اليأس الصامت الذي لا يمكن سبر أغواره، يقدم باسكال لينيه في روايته "اللاثورة"، نموذجين متناقضين ظاهريا، ومتشابهين ضمنيا. النموذج الأول يمثله الراوي، وهو أستاذ فلسفة، شاب متمرد عُيّن في مدرسة تقنية إقليمية، في مدينة تبعد 150 كيلومترًا عن باريس. إنها أول وظيفة له بعد حصوله على شهادة التخرج. أما النموذج الثاني، هم طلابه، أولئك الذين يُطلق عليهم، اسم "الجماهير الصامتة".
الراوي، أستاذ الفلسفة، شاب متمرد، في السادسة والعشرين من عمره، يرتدي سترة ذات ياقة طويلة، يختلف في زيه عن زملائه المعلمين الذين يرتدون البذلات وربطات العنق، وعن المدير ومشرف المدرسة. يحاول البطل التكيف مع حياته الجديدة، يتساءل عما يمكنه أن يخبر طلابه به، هو لا يشعر بأنه فيلسوف على الإطلاق، بل وجد نفسه في هذا المجال فقط لإرضاء والدته، التي أصبحت فقيرة بعد أن ترملت. يقول: " لقد درستُ الفلسفة، ولكن ليس لأجل أن أُعلِّمها. في الحقيقة، لم أكن قد درست الفلسفة بعمق؛ لقد قرأت فقط بعض الكتب واجتزت الامتحانات. والفلسفة، بالنسبة لي وفي داخلي، لم تكن معرفة؛ بل كانت أبعد ما تكون عن شيء يمكنني تدريسه.كانت بالأحرى شعورًا دائمًا بعدم الارتياح، شعورًا يلازمني منذ طفولتي، شيءٌ يلحّ باستمرار، يكمن تحت سطح الوعي، مثل شعور بالحكة تحت الجلد، على وشك أن يظهر؛ لكنه يظل عند حافة الظهور فقط؛ شيء يزعجك مندون أن تتمكن من الوصول إليه. الفلسفة، بالنسبة لي، أشبه بجارٍ في الطابق العلوي يتجول جيئة وذهابًا في غرفته، بحذاء مسمّر على أرضية خشبية، يدوس على أفكارك بوقع خطواته الثقيلة".
تتناول الرواية موضوعات تتجاوز الفلسفة، لتشمل علم الاجتماع، وتحديدًا الحتمية الاجتماعية في النظام التعليمي، وتأثير الخلفيات الثقافية على مسارات الطلاب. كما يناقش مفهوم "اللا ثورة" التي يعيشها الأستاذ الشاب، قائلاً: "إنها اللا ثورة: حركة متناقضة، تتشكل من قلق عميق، ونقد شامل يذوب في نفسه بفعل تأمله الذاتي، طلابي ليس لديهم اهتمام بالعدالة أو الظلم بقدر اهتمامهم بالنظام، والنظام في الواقع، هو تسلسل هرمي، إنه عدم مساواة؛ ثم ندافع عن عدم المساواة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو التعارض بين الأستاذ المتمرد وتلاميذه التقليدين، قائما بينهم من جميع النواحي، ومع ذلك يتحد الأستاذ وتلاميذه في مسار اللاثورة، في مواجهة عقيمة بين تمرد لفظي بحت، وبين لا مبالاة واستسلام تام.
لعل الجدير بالملاحظة، وما أشارت إليه الرواية من خلال الأستاذ وتلاميذه يتعلق بأحداث وقعت في فرنسا عام 1968، فقد حدثت احتجاجات طلابية في الجامعات الفرنسية، لا سيما في جامعة نانتير ثم السوربون في باريس، ضد النظام التعليمي والسلطوي، ثم توسعت لتشمل إضرابات عمالية كبرى.
قارئ حقيقي
في عام 2000، انتقد باسكال لينيه في كتابه "غونكور المقدسة"، عبر أسلوب ساخر وتهكمي، الدعاية الإعلامية المحيطة بالجوائز، مسلطا الضوء على الجانب الإعلامي والتجاري المرتبط بموسم الجوائز الأدبية؛ معتبراً أن "حائكة الدانتيلا" قد طغت على بقية أعماله، إذ يبدو من حقه، بعد كتابة ثلاثين رواية، أن يتعجب من ربط اسمه بالعملين الفائزين فقط، وتجاهل باقي مؤلفاته، مما يدل على مدى سطوة الجوائز الأدبية ، كما يوضح رؤيته حول جائزة الغونكور أنها اهتمت بالشهرة والضجة الإعلامية، أكثر من القيمة الأدبية الحقيقية للروايات، سواء مع كتبه، أو مع مؤلفات أخرى.
يُعدكتابه هذا بمثابة نقد فكري وثقافي لهذه الظاهرة في الوسط الأدبي، ندد باسكال لينيه بالتأثيرات السلبية للموضة الأدبية، والانصياع في الإبداع الأدبي، كما في جميع مجالات الثقافة. بالنسبة له، اعتبر أن الهراء الإعلامي أصبح يخنق الأعمال الأدبية الجادة، أو يشوّهها في كثير من الأحيان، بدلاً من أن يضيء عليها. لذا، فإن الأمر متروك للقارئ لاستعادة حريته الخاصة، في اختيار الكتب، لأنه لا يوجد مؤلف جيد دون قارئ حقيقي وجيد.