Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أشخاص موراكامي يخلعون ظلالهم في "المدينة ذات الأسوار المريبة"

رواية الحب الضائع والتأرجح بين عالمين متوازيين والقراء بالملايين حول العالم

الروائي الياباني هاوكي موراكامي (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

يبلغ الكاتب الياباني الذائع الصيت هاروكي موراكامي سن الـ76 بعد أيام، وهو المولود في الـ12 من يناير (كانون الثاني) 1949. وبعد انقطاع دام ستة أعوام، يعود صاحب "الغابة النرويجية" (1987) و"كافكا على الشاطئ" (2002) و1Q84 (2010)، برواية جديدة لا تقل عن سابقاتها حجماً ولا جمالية لتُنقل في مدة تقل عن سنة إلى الفرنسية والإنجليزية بعنوان "المدينة ذات الأسوار المريبة" (The City and Its Uncertain Walls, tr. Philip Gabriel, ed. Harvill Secker)، وقد تهافت القراء بالملايين على هذه الرواية مبدين خشيتهم من أن تكون آخر روايات الكاتب.

لعل ما يجدر ذكره أن رواية "المدينة ذات الأسوار المريبة" التي نُشِرت في عام 2023 في نحو 672 صفحة باليابانية، إنما هي نسخة مطولة عن نوفيلا تحمل العنوان نفسه كتبها موراكامي عام 1980 من دون أن يكون راضياً عنها تماماً، ليعود إلى النص بعد 40 عاماً، أي عام 2020، في خلال جائحة الكوفيد، ويكتب الرواية بصيغة مطولة ومختلفة ويصدرها في الحلة التي تصدر فيها اليوم.

لكن الرواية أيضاً ليست جديدة تماماً من ناحية تقاربها مع رواية أخرى لموراكامي نشرها عام 1985 وهي روايته الرابعة "أرض التجوال القاحلة ونهاية العالم" (Hard-Boiled Wonderland and the End of the World, 1985, tr. Alfred Birnbaum, ed. Kodansha International)، وهي رواية تملك تشابهاً كبيراً مع رواية "المدينة ذات الأسوار المريبة" من جهة علاقة المرء بظله وضرورة التخلي عنه ووجود عالمين متوازيين يتنقل الراوي بينهما.

لن يُفاجأ القارئ الخبير بأعمال موراكامي بأسلوبه ولا بحبكته في هذه الرواية، فهذه الأخيرة تحمل الخصائص نفسها والأسلوب نفسه والألم الداخلي نفسه الموجود في أدب موراكامي كله. فيعود هذا الكاتب السبعيني العاشق للجاز إلى موضوعات العزلة والوحدة والحزن البليد. يقع القارئ في النص على عشق للموسيقى وغرق في الكتب للهرب من الواقع مع وجود مشاعر عدم الألفة مع العالم ومع المجتمع ومع الآخر ومع الذات. يعود موراكامي في روايته هذه إلى السرد القائم على عالمين متوازيين وزمانين لا يلتقيان وأحداث متراكمة متداخلة تدور في شيء من هلوسة سردية تحمل القارئ إلى عوالم موازية.

من هنا يأتي الحديث عن مبدأ أو مفهوم الـMono no aware، وهو مفهوم إستيطيقي روحاني ياباني فيه كثير من الحزن وعبثية العيش والشعور بثقل الوقت والمكان، وهو مفهوم يصيب في جوهره مأساة حتمية التغير في الحياة وعدم الثبات وعدم البقاء. تلخص هذه العبارة التي تحولت إلى فن أدبي اعتمده كتاب يابانيون كثر، الإيمان الروحاني بأن كل شيء إلى زوال، الأشياء والمشاعر والناس. ولا يخفى على أحد ما في هذا المعنى من ميلانكوليا وحزن ويأس وتخلٍّ عن الحياة وتفلت منها وبحث عبثي عما هو أسمى وفيه راحة وسلام، وهي مشاعر تحف بها نصوص موراكامي كما تحف بها نصوص كتاب يابانيين كثر على مر العصور، منذ موتوري نوريناغا (1730-1801) مروراً بالفائز بنوبل عام 1968 ياسوناري كواباتا (1899-1972) وصولاً إلى الكاتبة المعاصرة ميوكو كواكامي (1976- ). تعج رواية موراكامي هذه، كما غيرها من الروايات بشيء من الحزن ورثاء الأشياء وفقدان المعنى. رقة في التعبير وبطء في الأحداث ووصف هادئ يميز الأدب الياباني عموماً وأدب موراكامي في أعماله وفي هذه الرواية خصوصاً.

عالمان متوازيان

تنقسم أحداث هذه الرواية إلى ثلاثة أقسام يتنقل فيها الراوي بين عالمين متوازيين، عالم أول هو عالمنا الذي يمكن أن نسميه بالعالم الواقعي، والعالم الآخر وهو العالم الحقيقي بحسب الرواية الذي لا يمكن للمرء أن يدخله قبل أن يخلع عنه ظله، فيقول الراوي: "في هذه المدينة، لا يملك الناس ظلاً. ما إن تخلع عن نفسك ظلك، حتى تفهم فعلاً وللمرة الأولى أن للظلال ثقلها الذي كنت رازحاً تحته". لتتحول رمزية الظل إلى أعباء الحياة، إلى عبثية الأمور، إلى الذات القلقة المتوجسة غير المستقرة. يتحول الظل إلى الـalter-ego، الذات التي يجب تهذيبها وترويضها وخلعها ليدخل المرء عالم السلام والهدوء والنور واللاوقت، ففي هذه المدينة التي لا يملك فيها الناس ظلالاً لا وجود للوقت ولا لمفهومه ولا للتغيير الذي يحدثه، حتى الساعة لا عقارب فيها.

يسترسل موراكامي في روايته هذه في فانتازيا من الواقعية السحرية ومن التخيل الغرائبي. تأرجح بين عالمين وزمنين ومكانين، مدينة غريبة مريبة ذات أسوار عالية يعيش خلفها أناس بلا ظلال. حياة هادئة تمر بلا وقت، يقف على أسوارها حارس غريب مخيف يخلع الظلال عن الناس قبل أن يدخلوا ويجعلهم يوقعون تعهداً بأنهم لن يطالبوا بظلالهم مجدداً. بحث عن الحب وعن الحقيقة وعن الخير، مع حزن جميل ووحدة هادئة وعزلة تمس الروح وتوحد الراوي والقارئ معاً في هذه الرحلة نحو اللامكان واللازمان واللاظلال.

 

ولا يمكن للمرء الذي يقرأ هذه الرواية إلا أن يفكر بنظرية الكهف لأفلاطون التي تقول بأن الناس يعيشون في كهف ولا يرون من داخله الحقيقة بل مجرد ظلها. وما إن يدرك سكان الكهف أنهم يعيشون في الظل حتى يبدؤوا مسيرتهم نحو الشمس والحقيقة والتخلي عن الظلال. ولا يبلغ المرء مأربه إلا عندما تختفي الظلال ومعها تنفتح العيون على عالم المثل والضوء والخير. ترمز الظلال في أسطورة الكهف كما في رواية موراكامي إلى الأشياء الحياتية الثانوية التافهة كالمادة والغضب والقلق والشر والمطامع والجسد. والإنسان القادر على الترقي فوق هذه الأمور، أي القادر على الخروج على الظلال، هو الوحيد القادر على رؤية الشمس والحقيقة، لتلتقي النظريتان في جعلهما للظلال رمزاً للقيد أو العبء الذي يمنع المرء عن رؤية الحقيقة والنور والخير وبلوغ السلام والشمس.

أسئلة وجودية روحانية

من خلال عالمه الموازي الذي يخلقه، يطرح موراكامي أسئلة وجودية كثيرة، فيتوقف عند الحب والخير والجذور والوقت وحتمية الفناء وتغير الأحوال والعلاقة بالعالم وبالفن وضرورة التحرر من الأمور الثانوية المادية. مشاعر قلق تساور الراوي وعدم توازن وعدم ثقة، وكأن المدينة التي يتهمها بأن أسوارها مريبة تتحول إلى الملاذ الوحيد الذي يجد فيه الراوي حبه وسلامه وتوازنه الداخلي.

"المدينة ذات الأسوار المريبة" رواية موراكامي الأحدث التي فيها ما فيها من تشظٍّ وبحث وإرهاق هي رواية الوحدة الحزينة وغربة الروح والسوداوية الواقعية والذات الهائمة على وجهها، وهي موضوعات موراكامي الأثيرة التي تتكرر دوماً في أدبه مع أسلوب سردي قائم دوماً على خلق عالم موازٍ لا يجد فيه الراوي إجابات عن أسئلته بل أسئلة أكثر تعقيداً من أسئلته الأولى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة