ملخص
"أوبرتو" قد ترك لابنته رسالة يعلن لها فيها أنه إنما نفى نفسه منذ البداية من دون أن يجبره أحد على ذلك، وأنه ترك لها إرثاً منه كل أمواله تتصرف بها كما تشاء، طالباً منها مسامحته على كل ما تسبب به لها من ألم. وأمام هذه النهاية غير المتوقعة تقرر إليانورا، من ناحيتها، أن تتخلى عن كل شيء وتتوجه لتعيش في الدير.
كانت سنوات عديدة، بل حتى عقود قد مرت ومحبو الموسيقى الإيطاليون يرقبون، بغيظ، تفوق جيرانهم الألمان عليهم في ذلك المجال الفني الذي كانوا سادته منذ مونتيفردي في الأقل. وكانوا دائماً يتساءلون، بحيرة، من أين جاءهم ذلك "الفاغنر" الذي خبطهم في الصميم مبعداً الأوبراً الإيطالية إلى الصف الثاني من الاهتمام الأوروبي؟ ومن هنا كانوا عند نهايات النصف الأول من القرن الـ19 من اليأس والشعور بالغبن إلى درجة أنهم لم يتنبهوا في عام 1839 تحديداً إلى تلك الأوبرا البسيطة التي قدمت على خشبة "لا سكالا" في ميلانو، ولقيت نجاحاً لا بأس به. فهم أمام تواضع ذلك العمل الذي حمل عنوان "أوبرتو كونت سان بونيفاسيو" لم يدركوا، أول الأمر، أنه ستكون، خلال سنوات قليلة، بداية ثأرهم الموسيقي الأوبرالي، من الألمان، والخطوة الأولى في طريق الألف ميل التي ستجعل لهم في بلادهم ذلك الموسيقي الكبير الذي سيقف طوال العقود التالية منافساً لريتشارد فاغنر، بل متفوقاً عليه في بعض الأحيان. ولعل ما فاقم من غفلة الإيطاليين عما كان يحدث أمام أعينهم وآذانهم، ذلك الفشل الذي سيكون من نصيب العمل الأوبرالي الثاني الذي ثنى به منتجو أوبرا فيردي الأولى محاولين الاستفادة من نجاح العمل الأول فأخفقوا في ذلك.
وكان العمل الثاني يحمل عنوان "يوم على العرش". ومن المعروف، عادة، أن العمل الثاني هو الذي يؤكد نجاح أو فشل صاحب عمل أول... ومن هنا كان على الإيطاليين أن ينتظروا مزيداً من الوقت، وتحديداً ظهور العمل الثالث لفيردي في عام 1842. وسيكون ذلك العمل "نبوكو" (نبوخذ نصر) الذي قلب الآية تماماً، وأطلق ذلك الشاب الطموح في سماء عالم الأوبرا، ليس في إيطاليا وحدها، بل في العالم كله، معيداً للإيطاليين كرامتهم وآمالهم ومكانتهم في فن دائماً ما اعتبروه خاصاً بهم.
عودة إلى العمل الأول
والحقيقة أن النجاح الكبير الذي ستحققه أوبرا "نبوكو" كان هو نفسه ما أعاد إلى الأذهان، وكذلك إلى الواجهة، تلك الأوبرا الأولى التي كانت قد نسيت بعض الشيء بخاصة أن الإنجليزية ماري شو التي قامت ببطولتها في العروض الأولى، كانت، بدورها، قد نسيت تماماً، لتستعاد، أي الأوبرا، عبر تقديم معدل، فقط في عام 1951 لمناسبة الاحتفال في قاعة "لا سكالا" نفسها بالذكرى الـ50 لرحيل الموسيقي الكبير، أي بعد أكثر من قرن من ولادتها! المهم أن أوبرا "أوبرتو" لم تعش حياتها الطبيعية إلا على ضوء النجاح الكبير الذي حققته أوبرا ملحنها الثالثة، والتي ينظر إليها عادة على أنها المدماك الذي انبنت عليه مكانة ذلك الملحن الكبير. ومن هنا سيكون من الإنصاف العودة إلى الأوبرا الأولى من حين إلى آخر كنوع من التذكير بدايات فنان كبير، حتى ولو أن الفوارق كبيرة بين الأولى والثالثة، بل حتى بين الثالثة وبين معظم أوبرا فيردي الأخرى على أية حال كبيرة جداً، وبالكاد يمكن أحداً أن يصدق اليوم أن لجوزيبي فيردي (1813 - 1901) أوبرا عن أنها " أوبرتو كونت سان بونيفاسيو" يمكن أن تقف بقوة إلى جانب تحف له تحمل ستة عناوين مدهشة من "عايدة" إلى "لا ترافياتا"، ومن "الحفل المقنع" و"قوة الأقدار" إلى "القرصان" و... قس على ذلك. ولعل أهم ما يمكن أن ننطلق به في حديثنا عن "أوبرتو" هنا هو الإشارة إلى خطأ يرافق دائماً أي حديث عنها وينسب كتابة نصها بصورة رسمية إلى الشاعر تيميستوكل سوليرا، مع أن الباحث الأكبر في أعمال فيردي جوليان بادن، قال إن كاتبها الحقيقي الذي أنجز كتابة أكثر من نصف النص ليس سوى أنطونيو بياتزا، غير أن هذه المسألة تبقى جانبية بالتأكيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غرام وانتقام
من ناحية مبدئية، لا يعرف أحد بصورة يقينية ما إذا كان ذلك العمل الأوبرالي الأول الذي يحمل توقيع ذلك الشاب الثلاثيني الذي كانه فيردي في عام 1839، عملاً من ابتكاراته الخاصة أم كان كما يخمن البعض نوعاً من إعادة اشتغال على عمل وجده ملحناً من قبل، فاستحوذ هو عليه وأمعن فيه تعديلاً، لكن الذي يعرفه كثر هو أن فيردي قد احتاج للعمل جاهداً ما يصل إلى أربع سنوات حتى أنجز تلحين "أوبرتو". وتدور الحكاية التي ترويها الأوبرا من حول الحاكم إيزيلينو دا رومانا الذي تنطلق الأحداث من انتصاره على منافسه "أوبرتو" في عراك قام بينهما. ولقد جعلت الهزيمة "أوبرتو" يلتجئ إلى دوقية مانتوفا. وهناك يحدث لريكاردو أن يغوي إليانورا ابنة أوبرتو، على رغم ان الأمير المفتري كان على أهبة الزواج من كونيتزا شقيقة إيزيلينو، بالتالي، وبعد حوار صاخب ومدهش موسيقياً على أية حال سيقال إنه ثبت أقدام فيردي في عالم الأداء الثنائي، وتصاحب إليانورا أباها "أوبرتو" إلى باسانو، حيث يفترض أن يقام العرس ليكشفا لكونيتزا عما اقترفه خطيبها. فلا يكون من كونيتزا إلا أن تفضح ذلك الخطيب المهذار أمام الكورال الذي يفترض به أن يشارك بأنشوداته في العرس. وعلى مشاركة الكورال في فضح المعتدي ينتهي الفصل الأول بين فصلين تتوزع عليهما الأوبرا، ليبدأ الفصل الثاني والأخير بريكاردو، وهو يطلب من كونيتزا أن تستمع إليه وهو يدافع عن نفسه. غير أن كونيتزا ترفض الإصغاء إليه، ولا حتى الاجتماع به أصلاً. وبعد حين يدخل "أوبرتو" وهو يتوخى منازلة ريكاردو بالسيف انتقاماً منه لشرف ابنته، في وقت تبدأ فيه كونيتزا مطالبتها ريكاردو بالزواج من إليانورا، ولسوف يرضخ هذا الأخير لطلب كونيتزا المنصف، غير أن القلبة المسرحية سرعان ما تقلب الأوضاع حين تبدأ المبارزة بالسيف بين "أوبرتو" وريكاردو لتنتهي بقتل الأول بسيف الثاني. ويتبين في النهاية أن "أوبرتو" قد ترك لابنته رسالة يعلن لها فيها أنه إنما نفى نفسه منذ البداية من دون أن يجبره أحد على ذلك، وأنه ترك لها إرثاً منه كل أمواله تتصرف بها كما تشاء، طالباً منها مسامحته على كل ما تسبب به لها من ألم. وأمام هذه النهاية غير المتوقعة تقرر إليانورا، من ناحيتها، أن تتخلى عن كل شيء وتتوجه لتعيش في الدير.
بين الاب والابنة
في الحقيقة أن أهم ما في تلك الأوبرا الأولى كان أنها مهدت الطريق لموسيقيها كي يخوض من موقعه الإيطالي الذي كان بعيداً بعض الشيء عما سيبدو لاحقاً فقط مقنعاً في نتاجاته التراجيدية، لخوض ذلك النوع الذي كان يقف بالتعارض تماماً مع "الأوبرا بوف" التي كانت عماد الفن الأوبرالي الإيطالي، إلى جانب أوبرا الحكايات الاجتماعية المعاصرة، غير أنه كان ثمة فيها إلى ذلك جانب لم يجر التنبه له إلا لاحقاً، وفحواه أنها تكاد تكون بداية حقيقية وجيدة لسلسلة لافتة من حوارات تدور بين أب وابنته، وهي حوارات كانت شديدة الندرة ولا تغري الجمهور كثيراً، لكنها هنا برزت بقوة، ولا سيما منذ الفصل الأول، حين يوضح "أوبرتو" لابنته إليانورا أنه لن يسامحها أبداً على ما حل بها إن هي لم تعمل بنصيحته وتشجب العرس الذي يفترض أنه سيجمع بعد حين بين الأمير المفتري عليها وكونيتزا. لقد أتى الحوار هنا قوياً بصورة رأى فيها كثر من النقاد منذ ذلك الوقت المبكر، القاعدة التي انبنى عليها مجمل المواقف العائلية في أوبرات فيردي الكبيرة التالية، بل إن ثمة من المعلقين والنقاد من أكد أن "كل الحس العائلي" الذي كثيراً ما نجده متفوقاً في أوبرا فيردي يمكن العثور هنا على أسسه.