Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جوزف طراب اليهودي الأخير الذي أسهم في نهضة ثقافة بيروت

رافق الحركة الفنية والمسرحية اللبنانية منذ الستينيات ممثلاً وناقداً وكاتباً بالفرنسية

الناقد والمسرحي اللبناني جوزف طراب (سوشيل ميديا)

ملخص

رحل الناقد التشكيلي ورجل المسرح والمثقف الكبير جوزف طراب (1943-2025) في أول يوم من عام 2025 وكأنه يفتح عهداً جديداً ليعيش طويلاً في ذاكرة الأجيال المقبلة كرجل استثنائي استطاع أن يكرس حضوره الإنساني والنقدي بقوة في ثقافة لبنان بوجهها الفرنكوفوني والعربي على السواء، فقد أصر طراب الذي ينتمي إلى الطائفة اليهودية اللبنانية على البقاء في لبنان بعدما هاجرت أسرته عقب مرحلة من الاضطهاد خلال الحرب.

كان جوزف طراب شخصية ملهمة قل نظيرها، وأحد صناع الحداثة في بيروت الستينيات في عصرها الذهبي، في المسرح وكذلك في الأدب والفن التشكيلي، وكان شاهداً على التحولات الفنية التي واكبها بقلمه خلال الحرب وما بعدها، فلطالما كان مؤمناً بقوة العطاء ومشاركة الثقافة في بناء الأوطان، وهو الذي منذ أن أصيب بالداء الخبيث بدأ يرسم سيناريو لرحلة من نوع آخر خوفاً على مُقدراته الفكرية من التبدد، لذا تبرع بـ 6 آلاف كتاب لمكتبة جامعة الكسليك التي سبق وأعطى فيها دروساً في قسم الفنون، كما أودع مقالاته التي لا تعد ولا تحصى إلى المعهد الشرقي الألماني لتصنيفها وترقيمها، وترك مؤلفات عدة عن فنانين بارزين منهم بول غيراغوسيان وحسين ماضي وجميل ملاعب ومحمد الحفار ودوروثي كاظم سلهب ونوريكيان، وقد حاز على الوسام الوطني للفنون والآداب (2014) من قبل المستشار الثقافي ومدير المعهد الفرنسي في لبنان، هنري لوبريتون، نيابة عن وزيرة الثقافة الفرنسية أوريلي فيليبيتي، وجرى الاحتفاء به باعتباره "رجل الثقافة الأبرز في المشهد الثقافي اللبناني".

كانوا ثلاثة تجمعهم روح المودة والشغف والانفتاح على مختلف نوافذ الفكر من شرقها وغربها، سمير الصايغ وجوزف طراب وجلال خوري، وهؤلاء من جيل شارك في صنع ثورة الحداثة وجبهات الرفض الثقافية وكسر التقاليد والتمرد على القوالب، في ظل إمبراطورية الثقافة التي كان موئلها مقاهي الرصيف ومكاتب الصحف وخشبات المسارح وقاعات المعارض ودور النشر، مع جلبة الأحداث الفنية والقادمين من أسفارهم البعيدة من عرب وأجانب، والمهرجانات والملتقيات التي كانت محطتها بيروت، بيروت الستينيات التي يصفها جوزف طراب بأنها ملتقى للحوار والتفاعل بين مختلف الأقطاب والطوائف والمشارب والثقافات، كما كان يسميها قبله الناقد نزيه خاطر بأنها "مختبر الضمير العربي".

 وكان طراب وخاطر على طرفي نقيض، يتنازعان وهج الصدارة في ذروة التنافس ما بين قلمين وضاءين في الثقافتين العربية والفرنسية، فمن لم يحظ من الفنانين الكبار برضى خاطر في "جريدة النهار" كان يفوز بمقالة موقعة باسم طراب في الـ "أوريان لوجور"، وكانت سلوى روضة شقير أنموذجاً لذلك الاشكال بعدما استبعدها خاطر معطياً الريادة في التجريد إلى كل من ميشال بصبوص وشفيق عبود، فأنصف طراب ريادتها في التجريد الهندسي إلى جانب نقاد آخرين من ذلك الزمن الجميل.

ولطالما كان حضوره جزءاً من طقوس افتتاحات معارض بيروت على مدى عقود طويلة لم يغب عنها إلا خلال الأعوام الأخيرة من حياته، فكان معرض الفنان "أسادور" في متحف نقولا إبراهيم سرسق آخر المعارض التي قدمها كمدير فني وكاتب ومؤرخ (2016)، ومن نافلة القول إن مقالاته ونصوصه التي تصدرت كتيبات المعارض الفنية شكلت ذاكرة هائلة من التوثيق لمشهدية الفن في لبنان على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن.

مشاكس مترفع

 يتهيب المرء في حضرة جوزف طراب لأنه يدرك أنه أمام قامة استثنائية بسبب هالته التي كرسها بتواضع شديد كمثقف موسوعي بارع على جانب كبير من النبل والمودة والذكاء، فقد أتقن لغات عدة ولكنه امتاز بتمكنه من الفرنسية التي عرف كيف يزخرفها ويبسطها ويتبحر في جعلها أداة منمقة وجميلة للتواصل مع العمل الفني.

وقلما تحدث عن نفسه وماضيه لذا بقيت سيرته مسيجة بالكتمان، لكن تاريخه يؤكد كم كان مؤثراً وفاعلاً في المشهدية الثقافية، وهو العقلاني الحكيم والناقد اللاذع المتطلب والنافذ في أقواله وآرائه وأفعاله بعيداً من المجاملة، وهكذا عرفته صديقاً معطاء جمعتنا مهنة الصحافة ولقاءات دورية في لجان تحكيمية عدة مثل معارض صالون الخريف في متحف نقولا إبراهيم سرسق، ولجنة جائزة جهنية بدورة للإبداع الفني، وكذلك تشاركنا في تمثيل لبنان في المهرجان الـ 10 للقمة الفرنكوفونية في باريس (2001) الذي نظمه مركز فالوني بروكسل بالتعاون مع وزارة الثقافة في لبنان تحت عنوان "الاستثناء اللبناني"، وقد اعترض في ذلك الوقت على ذوقية سيدة فرنسية (ماريان هيشتر) التي لا تفقه شيئاً عن الفن اللبناني في اختيار الأعمال المشاركة في المعرض، ولم يحضر إلى باريس ولم يشارك في حفل الافتتاح هناك، فقد استشعر ما نحن مقبلون عليه في عصر العولمة من اكتساح أساليب الاستعراض أكثر من نوعية المعروض الفني.

له يد بيضاء في تشجع كثير من المشاريع الثقافية والمواهب الشابة، كما ربطته صداقات مع أصحاب الغاليريات البيروتية، وكان من الأعضاء المؤسسين لجمعية النقاد التشكيليين في لبنان التي ضمت كلاً من نزيه خاطر رئيساً وسيزار نمور أمين سر وجوزف طراب وسمير الصايغ وسيلفيا عجميان وفيصل سلطان أعضاء ومهى سلطان أمينة للصندوق، وقد كان طراب صرحاً قوياً وركيزة لمعظم الأنشطة المتعلقة بلبنان بحكم خبرته وتجاربه، كما لعب دوراً في لجنة مهرجانات بعلبك فضلاً عن دوره كمستشار ثقافي لدى المعهد الألماني في لبنان، وهو مشاكس عنيد ومترفع، ولا أنسى قوله جهراً أمام اللجنة المنعقدة في وزارة الثقافة لمشروع إقامة متحف للفن الحديث إن "هناك أعمالاً تستحق الحرق"، منوهاً بالسياسة الخاطئة والمحسوبيات في اقتناءات وزارة الثقافة للأعمال من معارض الفنانين، كونها فاقدة للقيمة وغير جديرة بأن تكون في عداد مجموعة متحف وطني للفنون.

وكم كان صريحاً في رفضه القاطع مشروع تمثال في حديقة على أرض تابعة لبلدية بيروت لتزيين واجهة مرفأ بيروت بعد انفجار الرابع من أغسطس (آب) 2020، إذ وصفه بالاعتباطية والتسرع.

والتنسيق مع الطراب مطلب بل وضرورة، ولا سيما حين يتعلق الأمر بكتابة موسوعة فنية بأقلام نقاد عدة، مثل المشروع الذي عملنا عليه بطلب من السيدة نور سلامة وهو موسوعة "الفن في لبنان: فنانون حديثون ومعاصرون (1880- 1975) المجلد الأول الصادر عام 2013.

من المسرح إلى الفن التشكيلي

جوزيف طراب "بيروتي حتى العظم" كما وصفه المقربون، وعربي ومشرقي ماركسي مستقل كما كان يصف نفسه، قادم من إحدى أصغر الأقليات في البلاد وهي الطائفة اليهودية، وقد اتخذ خياراً شجاعاً بالبقاء في لبنان على رغم نزوح غالبية الجالية اليهودية على مدى أعوام الحرب، وكان مندفعاً للأفكار الثورية ومناصراً للقضية الفلسطينية داعياً قادتها إلى تبني الأفكار الاشتراكية، ومن مآثره أنه شارك نهاية عام 1967 في مهرجان كبير عُقد في باريس حول القضية الفلسطينية بصفته ممثلاً للجنة فلسطين للطلاب اللبنانيين في باريس، إضافة إلى مثقفين فرنسيين وعرب وإسرائيليين، ودافع خلاله عن حقوق الشعب الفلسطيني، وقد جرى ذلك في ظل هزيمة 1967،  كما لعب دوراً في ثورة مايو (أيار) عام 1968 بعد إقامة دامت خمسة أعوام في فرنسا حيث درس الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد، ثم قرر العودة لبيروت مسقط رأسه وملعب أحلامه وملتقى الثقافات وتنوع الأديان والمجتمعات، وقد دفعه شغفه بالثقافة إلى إتقان لغات عدة والانغماس في عوالم الأدب والمسرح والنقد الفني.

ورث جوزف طراب حب الفن من والده الذي كان رساماً، ولكن حبه للسينما يعود لسني طفولته عندما شارك في ناد سينمائي تابع لمدرسة "كوليج دولا سال" حيث طور عينه الناقدة لتحليل تفاصيل الأفلام، ولا سيما ثقافة الصورة والسيناريو والحوارات، مما ساعده في ما بعد على تحليل العمل الفني وتقييمه، وبين عامي 1963 و 1969 كان من بين الأعضاء المشرفين على "المركز الجامعي للدراسات المسرحية"، فلعب دوراً بارزاً في تأسيس المسرح الحديث وبرع كممثل في مسرحيات عدة منذ مسرحية "آرلكان خادم السيدين" بإخراج آن ماري ديهاي، ثم "زيارة السيدة العجوز" من إخراج إيف تركية، وتميز في مسرحية "السيد" من إخراج روجيه عساف، وقد مثّل أيضاً في أعمال جلال خوري بالفرنسية أولاً ثم بالعربية، وتميز في مسرحية "قبضاي"، ولعب بإدارة بيرج فازليان في مسرحية "الأب لسترندبرغ" وكانت باللغة الفرنسية، كما مثل إلى جانب جلال خوري في مسرحية "فاوست" التي أخرجها برج فازليان في "مركز غوته" ضمن إطار بانوراما من أعمال المؤلفين الألمان.

وفي عام 1967 أعد طراب مسرحية للمؤلف البولوني غومبروفيتش عنوانها الأصلي "إيفون أميرة بورغونية"، وجعل لها عنواناً إضافياً وهو "مزحة كئيبة"، وتناول طراب المسرحية مؤكداً البعد العبثي فيها إذ عمل على تجسيد العبثية، لا في النص وأحداث المسرحية وإنما في طريقة الاخراج وتحديث الأشخاص على المسرح واستخدام الأدوات المساعدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومنذ أواخر الستينيات رافق جوزف طراب صعود الحداثة في الفن التشكيلي بعد دخوله الكتابة النقدية في "جريدة الأوريان" بطلب من جورج نقاش، ثم تولى إدارة الملحق الأدبي فيها وتابع العمل لعقود في جريدة "لوريان لوجور"، وقد أغنت كتاباته المشهد الفني والبصري اللبناني منذ سبعينيات القرن الـ 20 وحتى أوائل الألفية الثالثة، وكان شاهداً على حقب مهمة من تاريخ الفن في لبنان وتحولاته.

وعلى رغم أعوام الصراع الطويلة في لبنان فقد بقي يكتب ويثابر في عمله الصحافي حتى توقف عن العمل عام 2004، ويقول طراب إن الصحيفة "لم تعد تريد نقداً فنياً فقد كان مكلفاً للغاية بالنسبة إليهم، ولذا أرادوا توفير المال". وكان ذلك أيضاً مآل الفنانة هلن الخال التي جرى الاستغناء عن خدماتها في "الديلي ستار" كي تعتزل كتابة المقالة الصحافية وتنصرف للفن، ومن بعدها ثابر على الإشراف على إصدار الكتب الفنية وكتابة مقدماتها، وأسهم في إدارة صالة عرض "مقام للفن الحديث" مع صالح بركات (2008-2011) في حي الفنون (الصيفي فيليج) وسط بيروت التي حاولت إعادة الاعتبار لسوق الفن التشكيلي.

ولم تثنه جولات الحروب والانقسامات الطائفية وصراع المحاور والقتل على الهوية والعنف على مغادرة لبنان، بل ظل متجذراً فيه إلى أبعد الحدود، وكانت حياته تشبه خشبة مسرح وكواليس في حقبها وترتيبها ونظامها، وقيل بأن تجربته في الكتابة النقدية عن الفن التشكيلي قد حجبت تجربته المميزة كممثل ومخرج مسرحي، ولكنه لم يبح لأحد عن سر هذا الانعطاف.

ثمة غموض وتحفظ وتؤدة صنعت أسطورة هذا الرجل الذي ظل وفياً لأصدقائه ومحباً ومتفائلاً بالحياة، وقد عاش وحيداً داخل منزله المفروش بالأثاث الشرقي في جونيه، يحيط نفسه بالكتب واللوحات الفنية التي زينت عينيه بألوان الحياة وظلال الذكريات، وكأنه أسلم نفسه للقدر بشيء من الرضا، ومن دون أن يخبر أحداً مضى بحسب وصيته بلا دموع وكأن الموت مرحلة من المراحل التي كان يطويها خلفه طوال عمره، لينظر إلى الأمام حيث النور.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة