Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة الشاعر بول إلويار في الذكرى المئوية للبيان السوريالي

ديوان "الحب الشعر" اخترق الحداثة بغنائيته المتجلية

الشاعر الفرنسي بول إلويار (متحف التاريخ والفن)

ملخص

لمناسبة الذكرى المئوية الأولى لصدور أول بيان للسوريالية (1924-2024) الذي حمل توقيع أندريه بروتون، تعيد منشورات غاليمار إصدار ديوان الشاعر بول إلويار (1895-1952) "الحب، الشعر" في حلة جديدة تضم إلى جانب القصائد رسومات ولوحات للفنانة التشكيلية الأميركية كيكي سميث (مواليد 1954).

صدر ديوان "الشعر، الحب" في السلسلة البيضاء "بلانش" التي أطلقتها الدار العريقة عام 1911 ضمن ما كان يعرف آنذاك بـ"إديسيون دو لا نوفيل ريفو فرانسيز"، التي سميت كذلك بسبب لون أغلفتها المميزة مقارنة بالألوان الزاهية التي كان يلجأ إليها الناشرون في بداية القرن. هذا الجمع الجميل بين الشعر والرسم أضفى على قصائد إلويار وهجاً جديداً. فكأني بقراءتها قد أصبحت اليوم أكثر متعة، فأثبتت أن الفن يتفوق على الزمان ويتجاوز الحدود، وأن رسومات فنانة معاصرة يمكنها أن تتناغم مع كلمات شاعر رحل عن عالمنا عام 1952.

وقد تفاعلت الرسامة بحرية مطلقة مع موضوعات الأشعار، فأضاءت بسحر رسوماتها قصائد شاعر السوريالية، خالقة عالماً يلتقي فيه الجسد بالطبيعة والكون بروح هذا التيار الأدبي. وكيكي سميث شخصية فريدة في الفن الأميركي المعاصر. عرفت منذ ثمانينيات القرن الماضي بعملها المتعدد التخصصات (رسومات، كولاج، منحوتات) وبالتنوع الكبير في الوسائط التي تستخدمها، والتي تستكشف من خلالها، بجرأة وحساسية، موضوع الجسد الأنثوي والجنس وعلاقة الإنسان بالموت والجمال. وقد عرضت أعمالها في أبرز المتاحف العالمية، في شيكاغو وواشنطن العاصمة، ومتحف ويتني للفن الأميركي في نيويورك، ومركز ولكر للفنون في مينيابوليس، وقد خصتها "دار باريس للنقد" بمعرض فردي وكانت ضيفة "أجندة لابلياد" لعام 2024.

في عام 1928، وبعد إصابة الشاعر إلويار بمرض رئوي حاد أجبره على تمديد إقامته في مصحة كلاڤاديل قرب دافوس في سويسرا، تعرف إلى شابة روسية تدعى إيلينا دياكونوفا، أطلق عليها تحبباً اسم غالا، أثارت شخصيتها القوية واندفاعها وثقافتها إعجابه. فكان يقرأ وإياها قصائد جيرار دو نيرفال وشارل بودلير ولوتريامون وغييوم أبولينير، وكان لقاؤهما أول انطلاقة له في عالم الشعر العاطفي، وهي انطلاقة ستظل حاضرة في جميع كتاباته، حتى بعد زواجه منها وإنجابهما ابنتهما الوحيدة ووقوع غالا تحت سحر الرسام ماكس إرنست، ثم انفصال إلويار عنها لتصبح هذه المرأة في ما بعد ملهمة وزوجة سلفادور دالي. لكن الشاعر سرعان ما تعرف إلى ماريا بنز المعروفة بنوش، وتزوجها عام 1934. في هذا السياق، كتبت هذه المجموعة الشعرية التي "لا نهاية لها"، إذ تعيد قصائدها سرد مغامرة رجل يائس، ممزق بين الحب والشعر، بين الواقع والخيال، رجل أعاد له الحب ونفحة الشعر، مذاق الحياة وشغفها.

تتضمن المجموعة قصائد نشرت للمرة الأولى عام 1929، مهداة إلى غالا، تتناول الحب والسعادة والآلام الناجمة عن هشاشة الشعور بالحب وتقلباته. حتى نفهم مضمونها، كان علينا وضعها في إطار الحركة السوريالية التي ثارت ضد أهوال الحرب العالمية الأولى وهاجمت الدوغمائية والثقافة الغربية العقلانية. فبغية تحرير الفكر من هذا الجمود المزمن، قال بروتون بضرورة الانتظام في ثورة فنية تقوم على "الإيمان بعالم أسمى" يعبر عن العقل الباطن وفق تلقائية نفسية خالصة، بعيدة كل البعد من أي مراقبة تمارس من قبل العقل والتصنيفات الجمالية التقليدية ولو اعتمدت على الأشياء الواقعية كرموز للتعبير عن الأحلام وللارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي بهدف استعادة الوحدة المفقودة في لحظة إشراق. ذلك أن الفن ليس سوى أداة تحرر وثورة لسبر نواة الحلم واللاوعي والإضاءة عليهما. لكن هذه الاستعادة تتطلب وجود وسيط، هو المرأة-الإلهام، التي تغذي "الإيروس" داخل الخيال السوريالي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذا السياق، كان لديوان إلويار "الحب، الشعر" دلالة كبيرة. فيه عرض الشاعر نهجاً فنياً أكد العلاقة الانصهارية بين الحب الموجه إلى الملهمة غالا والإبداع الجمالي المتجاوز للواقع والخالق لجمال ضارب في أعماق النفس الواعية واللاواعية. فإلويار المهتم بالصور الشعرية التي تضيئها النظرة الأنثوية يموضع في هذا الديوان قصائده على تقاطع الشعر والصورة، راسماً الضوء المنبعث من عيني المرأة، "مستقبل الإنسان" و"لون روحه" على ما يقول لويس آراغون. لذا غدت قصائده المتوهجة بمثابة كلمات "مشمسة" تجاوزت حدود الصور الشعرية التقليدية من خلال نظرات غالا التي ولدت عاطفته الشديدة وأحلامه المتقدة وعطاءه المطلق في سعي دؤوب إلى تحقيق ذاته، بعدما لعبت نظرات المرأة دور المفتاح الذي أتاح للشاعر بلوغ العالم السوريالي. فمن دونها يغرق الشعر في الظلام والانقلاب على ذاته. فغالا منحت الشاعر حب الشعر ومن ثم الإلهام اللامحدود، وهذا ما يبرر إهداء إلويار "هذا الكتاب البلا نهاية" لها التي تبدأ قصيدته الافتتاحية تحت لواء الضوء الذي يمجد كأداة إشراق.

 إن القراءة المتأنية لديوان "الحب، الشعر" وتحديداً الـ65 قصيدة في "أولاً" و"طبيعة ثانية" و"كصورة"، تكشف لنا ليس فقط عن غنى الصور الشعرية، بل أيضاً عن التشابك الوثيق الذي يجعل من كل قصيدة مرحلة ضرورية في مغامرة تحمل سمات الاستكشاف الداخلي للذات. ففي الجزء الأول الموسوم "أولاً" لا يسرد الشاعر ابتعاد المرأة المحبوبة وحسب، بل يطارد صورتها التي يصفها بـ"فم الانصهار". ذلك أن الحياة من دون الحب ليست سوى حياة ناقصة، تشبه جدران زنزانة بيضاء. غير أنه سرعان ما سينصت في الجزء الثالث المعنون" كصورة" إلى الكلمات ويتفحص صورها الغريبة التي ستعيده تدريجاً إلى الحياة، كاشفة له كيف يطرد الحب قوى الشر ويمنح الثقة في الأيام الآتية.

 في الختام، يتيح هذا الإصدار الجديد لديوان بول إلويار "الحب، الشعر" المرفق برسومات كيكي سميث التي زادته بهاءً إعادة اكتشاف أجمل قصائد الحب في الشعر الفرنسي والتأمل في عالمها الشفاف الذي يلتقي فيه الجسد والطبيعة والكون بروح السوريالية المفعمة بالحب والجمال والأحلام والهوامات والصور الغرائبية لواحد من أهم شعراء فرنسا في القرن الـ20.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة