Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فريد الأطرش... معزوفة شرقية بـ"حكاية العمر كله"

الفنان العربي الوحيد الذي سُجل اسمه في لائحة الخلود الفني في فرنسا واحتفت اليونسكو بمئوية ميلاده وتمر حالياً خمسينية رحيله

بدأ فريد الأطرش الغناء بكازينوهات شارع عماد الدين في مصر (مواقع التواصل)

ملخص

مرت 50 سنة على رحيل فريد الأطرش الأمير الآتي من سوريا ليتربع على عرش الموسيقى الشرقية ويجددها طوال مسيرته الفنية التي استمرت لنحو 40 عاماً

50 عاماً مرت على رحيل فريد الأطرش، ملك العود وموسيقار الأزمان وبلبل الشرق، بعدما أثرى الحياة الفنية في مصر خلال القرن الـ20، إذ كانت تجربته الفنية لها طبيعة خاصة، بعدما جمع بين التلحين والغناء والتمثيل، ونجح في كل منها بالقوة ذاتها، مما لم يستطِع القيام به غير عدد محدود من الفنانين.

ولد فريد الأطرش عام 1917، وكان أبوه فهد الأطرش من أمراء منطقة جبل العرب المعروف بجبل الدروز في سوريا، وعرفت عائلته بمقاومتها الاحتلال الفرنسي الذي كان يسيطر على سوريا خلال هذه الحقبة، فكانت الأوضاع مشتعلة في دول عربية عدة في هذه الآونة، إذ شهد عام 1923 في سوريا ثورة الدروز ضد الفرنسيين، وكانت مصر في أوج مقاومتها الاحتلال الإنجليزي.

وخوفاً على أبنائها من هذه الأجواء ومن انتقام الفرنسيين من عائلة الأطرش ذات الباع الطويل في مقاومتهم، حملت علياء المنذر والدة فريد الأطرش حقائبها وأبناءها وفرّت من هذه الأجواء إلى لبنان، حيث أمضت عامين، ثم انطلقت إلى القاهرة التي وصلوا إليها عام 1924، وكان فريد الأطرش حينها في السابعة من عمره.

أقامت الأسرة المكونة من الأم وثلاثة أمراء في شقة صغيرة، وكانت الحال المادية للأسرة غير مستقرة فلجأت الأم إلى أشغال الإبرة لمحاولة كسب بعض المال، ثم اتجهت إلى استغلال موهبتها في الغناء فغنت في الأفراح، ثم في كازينوهات روض الفرج التي كانت وجهة للفنانين في هذا الوقت.

في مسرح بديعة مصابني

خلال حقبة العشرينيات، كانت القاهرة تشهد انطلاقة فنية كبرى لكل أنواع الفنون، وخلال هذه الفترة كانت بدايات كثير من عمالقة الفن الذين أثروا الساحة الفنية لاحقاً بعشرات الأعمال في الموسيقى والغناء والسينما، وفي هذه الأثناء كانت موهبة فريد الأطرش بدأت بالظهور.

لم يرضَ فريد وشقيقه فؤاد أن تتحمّل الأم وحدها إعالة الأسرة، فبدأ كل منهما البحث عن عمل ووسيلة لكسب العيش، فعمل الشقيق الأكبر فؤاد في عيادة طبيب، وفريد في محل للأقمشة إلى جانب الدراسة، وأثناء عمله استمع المطرب إبراهيم حمودة إلى عزف فريد الأطرش فأعجب به، وطلب منه الانضمام إلى فرقته، وكان حمودة هو المطرب الذي حلّ محل محمد عبدالوهاب عندما ترك الأخير فرقة منيرة المهدية، وبالفعل عمل فريد الأطرش معه لقاء أربعة جنيهات شهرياً إلى جانب عمله في محل الأقمشة.

تعرفت الأسرة إلى الملحن داوود حسني الذي شجع فريد على الالتحاق بنادي الموسيقى الشرقية المعروف لاحقاً بمعهد الموسيقى العربية لتنمية موهبته، لكنه يوم الامتحان أصيب بنزلة برد شديدة أفقدته صوته لتُجمع اللجنة المكونة من كبار الموسيقيين آنذاك مصطفى رضا وصقر علي وفتحي الشوا ومحمد فتحي على رسوبه في الاختبار وفصله من المعهد.

في هذه الأثناء، كانت تُجرى اختبارات في الإذاعة المصرية لاختيار مطربين جدد، فذهب إليها فريد الأطرش أملاً في أن يتمكن من الغناء في الإذاعة، لكن المفارقة أن يجد لجنة الاختبار هي ذاتها اللجنة التي أصدرت قراراً بفصله من معهد الموسيقى العربية، لكن هذه المرة ما إن بدأ بالعزف على العود والغناء حتى ظهرت عليهم علامات الرضا، واعتمدوه مطرباً في الإذاعة، مما مثّل نقطة انطلاق كبيرة لفريد الأطرش حققت له انتشاراً كبيراً.

بدأ الأطرش الغناء في كازينوهات شارع عماد الدين وبدأت شهرته بالذيوع، لكن الانطلاقة الحقيقية كانت من مسرح بديعة مصابني التي ضمته إلى فرقتها فبدأ بالغناء على مسرحها، إضافة إلى تلحين ال"اسكتشات" والاستعراضات التي اشتهر بها مسرحها. وقال عنها في مذكراته "كانت بديعة مصابني في هذا الوقت ملكة المسارح الاستعراضية ونجمها المتألق، وكان مسرحها أشبه ما يكون بمدرسة للفن والنجاح معاً، إذا حدث واحتضنت فناناً فرفعته إلى المكان الذي يستحق، وإذا حدث وغضبت على آخر فأنزلته إلى أسفل ما يستحق".

وعندما لمع اسم فريد الأطرش اختاره المخرج أحمد بدرخان هو وشقيقته أسمهان لبطولة فيلم "انتصار الشباب" الذي حقق نجاحاً طاغياً وقتها حينما عرض في 1941 لتبدأ من بعده مسيرة ممتدة لنحو 35 عاماً في الغناء والسينما والتلحين.

تراث فريد الأطرش

إرث فني متنوع ما بين الأغنيات والألحان والأفلام تركها فريد الأطرش مثله مثل كثير من المبدعين الراحلين، ومع مرور الأعوام يحتاج الأمر إلى جهود مخلصة من محبين للفنان الراحل لإبقاء تراثه حياً وتعريف الأجيال الجديدة به وبقيمته، ويتم ذلك أحياناً بجهود مؤسسية وفي بعض الأوقات يكون بجهد فردي من محبين أخذوا على عاتقهم هذا الأمر.

الفنان عادل السيد، مؤسس ورئيس جمعية محبي الموسيقار فريد الأطرش، يقول "أسسنا الجمعية منذ 25 عاماً لتكون معنية بالحفاظ على تراث فريد الأطرش وتوثيقه وتعريف الأجيال الجديدة به من خلال فعاليات مختلفة، وبالفعل نقوم بذلك على مدى السنوات، ففريد الأطرش قيمة فنية كبيرة، لكنه للأسف لا يحظى بالتقدير الذي يستحقه على رغم أنه واحد من الفنانين العرب القلائل الذين وصلوا إلى العالمية، وجرى الاحتفاء بهم في الخارج، فهو الفنان العربي الوحيد الذي سجّل اسمه في لائحة الخلود الفني في فرنسا مع بيتهوفن وشوبان، واحتفت ’يونيسكو‘ به عام 2015 لمناسبة مئوية ميلاده مع المغني الأميركي فرانك سيناترا المغني والمغنية الفرنسية إديث بياف تقديراً لفنه المتميز".

ويضيف السيد أن "منذ بداياته في عالم الموسيقى كانت له مدرسة خاصة، فقدّم جملاً لحنية لم يسبقه إليها أحد من قبل، وأدخل الآلات الغربية مع الشرقية، فهو أول من أدخل الغيتار مع الموسيقى الشرقية في أغنية ’ليالي الأنس‘، وكان هذا أمراً غير مسبوق في حينها، وكان دائماً يعرف بـ’ملك العود‘ وهو لقب حصل عليه في تركيا عام 1962 عندما شارك في منافسة لاختيار أحسن عازف عود في العالم، وجاء في المركز الأول فعزفه على العود ليس له مثيل".

 

تجربة فريد الأطرش السينمائية لا تقل أهمية عن تجربته في الغناء والتلحين، فقدم تنويعات مختلفة من أفلام السينما، وعمل مع كثير من النجوم والمخرجين، وقدم أفلاماً رومانسية وكوميدية وتراجيدية، ونجح في كل القوالب على مدى مسيرته الفنية في السينما التي بدأت مطلع الأربعينيات.

ومن أشهر أفلام الأطرش مجموعة الأفلام التي قدمها مع سامية جمال، ووصلت إلى تسعة "حبيب العمر" و"عفريته هانم" و"أحبك أنت" و"ما تقولش لحد"، وقدم أيضاً مجموعة من الأفلام حققت نجاحاً كبيراً، وأصبحت من علامات السينما المصرية مع كثير من النجمات بينهن شادية ومريم فخر الدين وماجدة وفاتن حمامة. وعلى مستوى المخرجين عمل فريد الأطرش مع نخبة من أشهر مخرجي السينما، بينهم أحمد بدرخان وهنري بركات ويوسف شاهين وصلاح أبو سيف، إضافة إلى إنتاجه نحو 17 فيلماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول الفنان عادل السيد، "قدم فريد الأطرش 31 فيلماً ما بين غنائي وكوميدي واستعراضي، ويرجع إليه إدخال فن الأوبريت إلى السينما العربية، فهو أول من قدّمه وحقق فيه نجاحاً كبيراً، كما يعتبر أول من طور الـ’دويتو‘ وقدمه بطابع جديد، وحتى الآن لا تزال الناس تذكر أشهر الـ’دويتوهات‘ التي قدمها في سياق أفلامه، فما يميز فريد الأطرش أنه نجح في السينما ممثلاً بمقدار النجاح نفسه في الغناء والتلحين، وبقي نجماً من أول فيلم قدمه ’انتصار الشباب‘ عام 1941 وحتى آخر أفلامه ’نغم في حياتي‘ الذي عرض في 1975 بعد رحيله بعام، فعلى مدى 35 عاماً ظل نجماً في الغناء والسينما، وهو المطرب الوحيد الذي نجح في هذه المعادلة".

ويضيف السيد أن "فريد الأطرش ابتدع تقليد حفلة الربيع التي كان يحييها كل عام في شم النسيم على مدى سنوات طويلة، وكان يغني فيها أغنية الربيع التي لا تزال ترتبط بهذه المناسبة حتى اليوم، وهي من أشهر أغانيه وكان قدمها للمرة الأولى عام 1949".

عبدالناصر وفريد الأطرش

كان الرئيس المصري جمال عبدالناصر محباً لفريد الأطرش ومقدراً لفنه ولما قدمه إلى الموسيقى العربية، و وكرمه أكثر من مرة، من بينها منحه قلادة النيل ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى تقديراً لفنه.

ومما يعكس تقدير عبدالناصر لفريد الأطرش واقعة شهيرة تعود لعام 1955، وهو العام الذي شهد العرض الأول لفيلم "عهد الهوى"، لكن قبل افتتاح الفيلم كان فريد الأطرش مريضاً للدرجة التي تمنع حضوره العرض، مما أثار قلقه ودفعه إلى البحث عن حل لإنقاذ الموقف حتى لا تصاب الجماهير بالإحباط عندما لا تجد بطل الفيلم في انتظارهم.

 

تحكي الكاتبة المصرية سناء البيسي هذه الواقعة في كتابها "سيرة الحبايب"، وتقول "سند فريد ظهره وكتب سطرين موجهين لمن؟ لجمال عبدالناصر ذات نفسه ’سيدي الرئيس من عادتي أن أحضر ليلة العرض الأول لأفلامي، لكني في هذه المرة مريض، لذا أرجو أن تحضر عهد الهوى بدلاً مني وأن تحيي الجماهير نيابة عني‘، وكان التوقيع فريد الأطرش".

وتستكمل أن "الجميع تعجبوا من جرأة فريد، لكن أتت ليلة العرض واشتد الزحام أمام سينما ديانا وحضر نجوم الفيلم يوسف وهبي ومريم فخر الدين وعبدالسلام النابلسي وإيمان، وفجأة حدث هرج ومرج ودبت حركة غير عادية في شارع عماد الدين، وبدأت الموتوسيكلات البخارية ترسل أزيزها ليتبعها رطل من السيارات الرسمية السوداء وأمام السينما توقف الموكب ومن باب السيارة هبط الرئيس جمال عبدالناصر وبصحبته المشير عبدالحكيم عامر بالملابس المدنية ليصافحا الجميع ويجلسا في مقصورة فريد حتى نهاية العرض".

الرحيل المفاجئ لأسمهان

صدمات وفواجع عدة عاشها فريد الأطرش، إلا أن أقواها بالنسبة إليه كان رحيل شقيقته الصغرى أسمهان التي على رغم قصر مشوارها الفني الذي لم يمتد إلا لأعوام معدودة، فإن أثرها وبصمتها لا يزالان قائمين على رغم مرور 80 عاماً على رحيلها، فكانت تملك صوتاً ملائكياً.

ومع بداية دخول فريد الأطرش مجال الفن، سمع كبار الفنانين من أمثال زكريا أحمد وداوود حسني ومحمد القصبجي صوت شقيقته آمال التي أطلقوا عليها لاحقاً اسم أسمهان، فتحمّسوا لها، ورأوا أن صوتها لا بد من أن يخرج للجمهور، لكن شقيقها فؤاد كان معترضاً بفعل التقاليد العائلية، وبضغط من الأسرة رضخ في النهاية فغنت من ألحان فريد الأطرش "نويت أداري آلامي" و"عليك صلاة الله وسلامه" و"رجعت لك حبيبي" فحققت نجاحاً طاغياً.

 

كتب فريد الأطرش في مذكراته عن أسمهان، "لقد كانت أغلى من الحياة بالنسبة لي، كانت لصيقة بي أكثر من روحي، كانت تشعر بي عن بعد، وكنت أشعر بها حتى لو كانت في بيروت وأنا في القاهرة، كانت أحلامنا واحدة وآمالنا مشتركة، وكانت تفهمني وتقدر فني وتحترم تفكيري لدرجة لا يمكن تصوّرها، ومما زاد من التصاقنا أننا كنا نهوي الشيء نفسه الموسيقى والغناء، ولذلك بدأنا الطريق معاً ودخلنا المحراب الفني وأيدينا في أيدي بعضنا، ثم فجأة أفلتت من أول الطريق وضاعت إلى الأبد".

ويوضح بعد رحيلها "من هنا كانت عظمة الحزن الذي غلّف حياتي كلها، وربما كان هذا هو السبب في طابع الألم الذي يعتصر معظم ألحاني ويغلف موسيقاي، وربما كانت هناك أسباب أخرى من الصدمات المتتالية التي واجهتني خلال الطريق الطويل، لكن آمال (أسمهان) كانت أقواها وأحزنها".

على رغم غنائه للحب على مدى عشرات الأعوام ودخوله في أكثر من قصة حب لم تكتمل، فإنه ظل وحيداً ولم يتزوج أو ينجب، إنما سخّر كل حياته لفنه، وأشار في مذكراته إلى هذا الأمر، قائلاً "أعتقد بأن الفنان لم يخلق للزواج، لكنه يتزوج فنه، وهو ينجب ألحاناً وأغنيات وأفلاماً".

كان العود رفيقه الدائم منذ حداثة سنه وكتب عنه في مذكراته، "منذ احتضنت العود ورحت أعزف عليه، وأنا أحس في قرارة نفسي بإحساس مختلف، وكأنني ولدت في اللحظة ذاتها التي حركت فيها الأوتار، هل هو لهب الفن كان يسري في عروقي إلى أن اهتديت إليه؟ أم أنها تأثيرات أمي التي أودعت في ما تعرفه من غناء وعزف؟".

تعرض قلب فريد الأطرش لأزمات صحية متوالية على فترات متتابعة، كان آخرها الأزمة الصحية التي أدت إلى رحيله في ديسمبر (كانون الأول) عام 1974 عن عمر 57 سنة، وعلى رغم رحيله في بيروت فإنه أوصى بأن يدفن في القاهرة إلى جوار أخته أسمهان وأيضاً لارتباطه الشديد بمصر، فكان دائماً يردد أبي سوري وأمي لبنانية وأنا مصري. وتنفيذاً لوصيته نقل الجثمان إلى مصر ليوارى الثرى في مدافن العائلة بمنطقة البساتين التي لا تزال قائمة حتى اليوم ويحيي فيها محبوه ذكراه. 

اقرأ المزيد

المزيد من فنون