ملخص
قبل أيام هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن عملية برية خامسة في حال لم يتم حل موضوع "التنظيمات التي تهدد الأمن القومي التركي"، كما اتُهمت تركيا بالمشاركة بعملية "ردع العدوان" التي أسقطت النظام السوري، إلا أن أنقرة نفت مشاركتها في هذه العملية.
تعد تركيا، الجارة الشمالية لسوريا، صاحبة أطول حدود برية مع سوريا، ويبلغ طولها 909 كيلومترات. ومنذ تأسيس "حزب العمال الكردستاني" في ثمانينيات القرن المنصرم، ودعم النظام السوري السابق للحزب شهدت العلاقات السورية- التركية توترات متكررة وصلت حدتها عام 1998 عندما هدد الجيش التركي في ذلك الوقت باقتحام سوريا. وبعد وساطات عربية ومصرية تم احتواء التوتر وتوقيع "اتفاقية أضنة" الشهيرة التي تنص على أن يتوقف النظام السوري عن دعم "حزب العمال الكردستاني" وطرده من الأراضي السورية، وبموجب الاتفاقية يُسمح للجيش التركي بالدخول إلى عمق خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية في حال تعرض الأمن القومي التركي للخطر.
بعد اتفاقية أضنة شهدت العلاقات السورية- التركية تحسناً غير مسبوق، وغاب أي تهديد عسكري بين البلدين، وتم توقيع شراكات استراتيجية وصلت إلى السماح لمواطني البلدين بالدخول إليها بالبطاقة الشخصية حتى من دون الحاجة إلى جواز سفر. لكن بعد 2011 تغيرت الأمور رأساً على عقب، فمنذ الأيام الأولى للانتفاضة السورية دخلت تركيا كلاعب أساسي في الملف، وأجرت حوارات مع النظام السوري بهدف احتواء المتظاهرين سلمياً والقيام بإصلاحات سياسية، وهو ما رفضه الرئيس السابق بشار الأسد. وبعد استمرار العنف قطعت تركيا كامل علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق، ودعت المجتمع الدولي لإنشاء ما يسمى "منطقة آمنة" في سوريا يُحظر فيها الطيران بهدف نزوح السوريين المعرضين للخطر إليها بدلاً من اللجوء، لكن العرض التركي لاقى رفضاً دولياً حال دون تنفيذه.
بعد ازدياد وتيرة العنف والنزاع المسلح في سوريا، سيطر تنظيم "داعش" الإرهابي على مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا، كما سيطرت "قوات سوريا الديمقراطية" وبقية الجماعات الكردية المسلحة على أغلب مناطق شمال شرقي سوريا وبعض مدن الشمال مثل عفرين ومنبج وتل رفعت.
بالنسبة لتركيا انضمت إلى القرار العالمي بتصنيف تنظيم "داعش" على قائمة التنظيمات الإرهابية، إلا أنها أضافت إليه "قوات سوريا الديمقراطية" و"وحدات حماية الشعب الكردية" المسلحة، وعدداً من التنظيمات الكردية العاملة في سوريا، وذلك بسبب علاقاتها مع "حزب العمال الكردستاني" الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة على قائمة الإرهاب.
لم تتدخل تركيا عسكرياً في سوريا حتى عام 2016، لكن بعد ذلك شنت أربع عمليات عسكرية برية واسعة النطاق، فضلاً عن عمليات قصف واستهدافات متكررة وعمليات استخباراتية خاصة خارج نطاق العمليات العسكرية الأربع، وهذه العمليات هي "درع الفرات"، و"غصن الزيتون"، و"نبع السلام"، و"درع الربيع"، وجميعها في مناطق شمال غربي وشمال شرقي سوريا.
عملية درع الفرات
في 24 أغسطس (آب) 2016، أعلنت تركيا انطلاق عملية "درع الفرات" ضد تنظيم "داعش" في ريف محافظة حلب شمال سوريا، وبحسب وكالة "الأناضول" فإن "العملية تأتي استناداً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة". وكانت العملية في البداية ضد تنظيم "داعش"، لتتوسع لاحقاً وتشمل طرد تنظيمات كردية من مناطق في شمال سوريا قرب الحدود التركية.
وتعتبر "درع الفرات" أول عملية عسكرية برية يخوضها الجيش التركي داخل الأراضي السورية، إضافة إلى أن الجيش التركي في هذه العملية يعتبر الجيش الوحيد في دول حلف "الناتو" الذي شارك في حرب برية مباشرة مع تنظيم "داعش".
إلى جانب الجيش التركي شاركت في العملية قوات من فصائل "الجيش السوري الحر"، سيطرت القوات المهاجمة في المرحلة الأولى على مدينة جرابلس بعد عامين من استيلاء تنظيم "داعش" عليها، وفي يوم 27 أغسطس (آب) تمت السيطرة على مدينة أعزاز بريف حلب، لتبدأ بعد ذلك معارك السيطرة على مدينة الباب الاستراتيجية لتطرد منها تنظيم "داعش" في 23 فبراير (شباط) 2017.
في 29 مارس (آذار) 2017، أعلنت تركيا انتهاء عملية "درع الفرات" بعد 277 يوماً من انطلاقها و"تحقيق أهدافها" المتمثلة بطرد تنظيم "داعش" من كامل ريف محافظة حلب، وقطع الطريق الواصل بين مدينتي عين العرب (كوباني) وعفرين، بوجه "قوات سوريا الديمقراطية"، فيما تمكنت قوات "درع الفرات" من السيطرة على 2055 كيلومتراً مربعاً، وكانت هذه المنطقة هي أول منطقة نفوذ تركية في سوريا.
بعد انتهاء العملية أصبحت مناطق "درع الفرات" أكثر أمناً من بقية مناطق المعارضة السورية، وذلك كون هذه المنطقة ذات نفوذ تركي، لذلك تجنب الطيران الروسي قصفها، كما انتشر الجيش التركي فيها على نطاق واسع، فيما قامت المؤسسات التركية بفتح أفرع لها في تلك المنطقة مثل مؤسسة البريد التركية، ومؤسسة الاتصالات وغيرها من الخدمات والبنية التحتية، وبقيت هذه المنطقة تحت نفوذ الجيش التركي حتى إسقاط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.
عملية "غصن الزيتون"
تعتبر "غصن الزيتون" واحدة من أوسع العمليات العسكرية البرية التركية في سوريا، وقد أثارت جدلاً كونها استهدفت المجموعات المسلحة الكردية بخلاف عملية "درع الفرات" التي كانت تركز على استهداف تنظيم "داعش". إلا أن أنقرة قالت إن "داعش" والتنظيمات الكردية المسلحة كلاهما إرهابيان ويهددان الأمن الإقليمي والأمن القومي التركي.
الهدف الرئيس من العملية كان طرد "وحدات حماية الشعب الكردية المسلحة" من مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، وسبقت العملية مطلع عام 2018 تهديدات تركية بأنها ستُطلق عملية عسكرية "ضد إرهابيي حزب العمال الكردستاني"، الأمر الذي دفع وحدات عسكرية روسية للانسحاب من مدينة عفرين تحسباً للهجوم التركي، فيما طالبت القوات الكردية من قوات النظام السوري السابق الدخول إلى مدينة عفرين، إلا أن النظام رفض المشاركة في صد الهجوم التركي، كما أن القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا لم تتحرك لمساعدة الجماعات الكردية.
صباح يوم السبت 20 يناير (كانون الثاني) 2018، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إطلاق عملية "غصن الزيتون" في ريف حلب الشمالي على أن "تستمر العملية حتى السيطرة على عفرين ومنبج ثم التوجه شرقاً إلى مواقع التنظيمات المسلحة في الحسكة والرقة". وفي اليوم ذاته بدأت العملية بقصف مدفعي تركي على مواقع "وحدات حماية الشعب" في عفرين، ثم انطلقت حملة جوية قصفت في اليوم الأول 108 أهداف عسكرية، وعلى الصعيد البري سيطر الجيش التركي مع فصائل المعارضة السورية على 12 قرية وبلدة في ريف عفرين خلال الأيام الثلاثة الأولى. وبحلول الـ30 من يناير وصلت القوات المهاجمة إلى بلدة قسطل جند في محيط عفرين، وبحسب وكالة "الأناضول" تم العثور على شبكة أنفاق ومخابئ بداخلها مذكرات مكتوبة باللغتين التركية والكردية وعدد من الوثائق السياسية وصور لزعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في يوم الثالث من فبراير 2018، خسر الجيش التركي أكبر حصيلة له من جنوده في يوم واحد حيث قُتل سبعة جنود بسبب العمليات العسكرية، الأمر الذي دفع القوات التركية للتصعيد من هجماتها باتجاه عفرين، لتتمكن قوات "غصن الزيتون" في اليوم نفسه من السيطرة على جبل دارمق الاستراتيجي، لتبدأ بذلك اقتحام منطقة راجو غرب عفرين، واستمرت المعارك في القرى والبلدات المحيطة بعفرين حتى 20 يناير. وبعد ضغوط على النظام السوري أرسل وحدات من جيشه بالاشتراك مع ميليشيات إيرانية إلى منطقتي نبل والزهراء بريف حلب وتجهزوا للانطلاق نحو عفرين، إلا أن الجيش التركي استهدفهم أثناء التجهيزات ما دفعهم للانسحاب، ثم أرسلت القوات التركية 1200 جندي من القوات الخاصة لمساندة الهجوم على عفرين، وفي الأول من مارس قال "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إن النظام السوري أرسل تعزيزات إلى عفرين فاستهدفهم الطيران التركي أثناء عبورهم ما أدى إلى مقتل 17 عنصراً منهم، لتتمكن القوات المهاجمة بعد ذلك من تطويق عفرين وحصارها. وفي 17 مارس دخلت إلى عمق مدينة عفرين من الجهة الغربية، فيما ألقت الطائرات المروحية التركية منشورات تدعو المقاتلين الأكراد للاستسلام مقابل وقف العملية. وفي اليوم التالي توغلت القوات المهاجمة داخل أحياء مدينة عفرين بعد انسحاب مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية، وبعد تمشيط المدينة أعلن الجيش التركي السيطرة على كامل عفرين لتنتهي بذلك عملية "غصن الزيتون" في 24 مارس 2018.
بعد إحكام السيطرة عليها أصبحت عفرين ثاني مناطق النفوذ التركي في سوريا، ووصلتها بمناطق "درع الفرات"، وأيضاً قدمت فيها نفس الخدمات وفتحت مراكز عدة للمؤسسات التركية، كما تم رفع العلم التركي إلى جانب علم الثورة السورية فوق المؤسسات الرسمية في المدينة.
عملية "نبع السلام"
تعتبر "نبع السلام" واحدة من أسرع وأقصر العمليات العسكرية التركية في الخارج، وتهدف لطرد قوات سوريا الديمقراطية من المنطقة الحدودية وإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً. ومع بدء خريف 2019 ازدادت التصريحات التركية التي تتحدث عن عملية عسكرية ضد "التنظيمات الإرهابية"، ومع وجود مؤشرات عن قرب هجوم تركي في شمال شرقي سوريا أمرت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فترة ولايته الأولى، القوات الأميركية بالانسحاب من بعض المناطق المهددة تركياً. وفي 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، أعلن الرئيس التركي انطلاق عملية "نبع السلام"، على أن ينفذها الجيش التركي والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وبدأت العملية بقصف مدفعي وجوي استهدف مواقع "قسد" في مناطق تل أبيض وعين عيسى ورأس العين في ريفي الرقة والحسكة. وفي اليوم نفسه بدأ الهجوم البري باتجاه مدينة تل أبيض من ثلاثة محاور، وبعد أربعة أيام من انطلاق العملية تمكنت القوات المهاجمة من الوصول إلى الطريق الدولي السريع M4 وقطعه، ووصولهم إلى عمق 32 كيلومتراً داخل الأراضي السورية.
استمرت المعارك والمواجهات حتى تمكنت القوات المهاجمة من السيطرة على مدينتي تل أبيض ورأس العين وما بينهما من القرى والبلدات. وفي 17 أكتوبر عقد الرئيس التركي اجتماعاً مع مايك بنس نائب الرئيس الأميركي، انتهى بتوقيع اتفاق ينص على وقف إطلاق النار لمدة 120 ساعة بهدف السماح لـ"قسد" بالانسحاب من منطقة آمنة بعمق 32 كيلومتراً، وبعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ انسحبت القوات الأميركية من مواقع جديدة في شمال شرقي سوريا، وبعد انتهاء اتفاقية الـ 120 ساعة التقى الرئيسان التركي والروسي في سوتشي ووقعا اتفاقاً لوقف دائم لإطلاق النار بشرط مراعاة المخاوف الأمنية التركية وتسيير دوريات مشتركة بين الجيشين التركي والروسي في المنطقة الآمنة.
وعلى غرار سلفها، أصبحت منطقة نبع السلام منطقة نفوذ جديدة لتركيا في سوريا، وقدمت فيها الخدمات ذاتها وفتحت أفرع لمؤسساتها في الداخل السوري، وفتحت الحدود أمام البضائع التركية، وأيضاً بقيت المنطقة آمنة من القصف الجوي الروسي أو قصف النظام السوري بسبب اتفاق بوتين- أردوغان.
عملية "درع الربيع"
مطلع 2020، شنت قوات النظام السوري السابق معركة بهدف السيطرة على مدينة إدلب، وشارك بالمعركة الطيران الحربي الروسي جواً، والميليشيات الإيرانية براً. ومع حلول منتصف (شباط) ازدادت وتيرة القصف ما أسفر عن نزوح مئات الآلاف خلال أيام قليلة وفق بيانات الأمم المتحدة. وليلة 27 فبراير 2020 قصف النظام السوري نقطة عسكرية للجيش التركي ما أسفر عن مقتل 33 جندياً، لتعلن تركيا بعد ساعات إطلاق عملية "درع الربيع" ضد النظام السوري والميليشيات الإيرانية، وفرضت حظراً على الطيران فوق إدلب. وعلى رغم ذلك نفذ طيران النظام طلعات جوية أسقطت تركيا جميع الطائرات التي حلقت فوق إدلب خلال الأسبوع الأخير من فبراير والأسبوع الأول من مارس.
استمرت المعارك لأيام عدة، وقالت وزارة الدفاع التركية إنها "حيدت" أكثر من 1500 عنصر من قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، وأوقفت تقدم النظام باتجاه إدلب.
وفي الخامس من مارس 2020 وقع بوتين وأردوغان اتفاقاً يقضي بوقف إطلاق النار عند حدود السيطرة الحالية، لتنتهي بذلك آخر العمليات العسكرية التركية في سوريا خلال حقبة حكم "حزب البعث".
العمليات العسكرية التركية المذكورة أعلاه، هي العمليات الرسمية البرية، لكن قبل وبعد هذه العمليات، وحتى اليوم، تشن تركيا بين الحين والآخر غارات جوية أو قصف بالطيران المسير على المواقع العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية و"حزب العمال الكردستاني". وقبل أيام هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن عملية برية خامسة في حال لم يتم حل موضوع "التنظيمات التي تهدد الأمن القومي التركي"، كما اتهمت تركيا أيضاً بالمشاركة بعملية "ردع العدوان" التي أسقطت النظام السوري، إلا أن أنقرة نفت مشاركتها في هذه العملية.