Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وليام هوغارث يغزو بيوت لندن بلوحات شكسبيرية

"أوبرا القروش الثلاثة" تستبق بريخت بقرنين ولشخصية فالستاف حصة الأسد لوحات وملصقات

لوحة مقتبسة من أحد اعمال شكسبير المسرحية بريشة ويليام هوغارث (موسوعة الفن الكلاسيكي)

ملخص

كان الرسام الإنجليزي ويليام هوغارث واحداً من أبرز الفنانين في عصره، لكنه لم يكتف برسم المشاهد الطبيعية الريفية أو المدينية، ولا برسم البورتريهات لكبار القوم، بل تجاوز ذلك لرسم عيوب المجتمع اللندني وغير اللندني، في لوحات سرعان ما تتحول إلى مستنسخات تعلق في البيوت والمتاجر

من ناحية مبدئية عجز السير جون فالستاف عن أن تكون له مسرحية خاصة به في المتن الشكسبيري، غير أنه تمكن مع ذلك من أن يحضر بصورة متفاوتة في ما لا يقل عن أربع مسرحيات من أعمال شاعر الإنجليز وكاتبهم الأكبر. كما أن فن الأوبرا سوف يخصه بواحدة من أعظم أعمال فيردي في هذا المجال، ناهيك بأن عملاق السينما الأميركية والشكسبيري الأكبر في الفن السابع لن يتوانى عن أن يجعل لشخصيته دور البطولة في واحد من أكثر أفلامه جمالاً وعمقاً. وبهذا عوض المبدعون على ذلك النصاب المرح والسكير، ما حرمه منه الكاتب الكبير الذي منحه على أية حال مكانة لا بأس بها في مسرحه. ولأن الشيء بالشيء يذكر، لا بد أن نستعيد هنا ما اشتكى منه الرسام الإنجليزي ويليام هوغارث، في مقالة نشرها في أحد الأعداد المبكرة لمجلة "أقنعة وأوبرا" ويتعلق بما أسماه "الحصة الضئيلة التي كانت للكاتب المسرحي الإنجليزي الكبير من اهتمامات المؤرخين والنقاد في أيامنا (خلال الربع الثاني من القرن الثامن عشر، أي الحقبة التي نشط فيها ذلك الرسام الكبير في رسم لوحات مقتبسة من أشهر مسرحيات زمنه) بحيث أن مجمل تلك الاهتمامات لم تتعد مصيراً جعلها مجرد وريقات ممزقة وباهتة الألوان". ومن هنا، كما يبدو، أخذ هوغارث على عاتقه تعويض السلف المبدع عن ذلك المصير وتحديداً من خلال لوحة زيتية رسمها مصوراً فيها مشهداً أساسياً من مشاهد مسرحية "هنري الرابع – الجزء الثاني" الشكسبيرية، وهو بالتحديد المشهد الذي عقدت فيه البطولة للسير جون فالستاف نفسه. وبذلك عوض الرسام على شكسبير كما على فالستاف، عبر لوحة واحدة قد لا يكون من المبالغة القول إنها وصلت في شهرتها إلى نفس المستوى الذي وصلت فيه وفي تلك البلاد نفسها، مجموعة لا بأس بها من مستنسخات للوحات من هوغارث نفسه تصور مشاهد من مسرحية "أوبرا البائسين" لجون غاي!

وحدة في عالم الفنون

حسناً، هنا لن نلوم القارئ إن هو صرخ وقد اختلطت عليه الأمور "كفى! ما هذا الخلط كله. لقد راكمتم الألغاز بحيث بدا الأمر كلعبة الكلمات المتقاطعة فما دخل فالستاف وشكسبير بالبائسين وهوغارث وجون غاي... إلى آخره؟". ونريح القارئ هنا فوراً شارحين ما نقول: كان ويليام هوغارث واحداً من أبرز الفنانين الإنجليز في مضمار الرسم خلال تلك المرحلة التاريخية، لكنه لم يكتف برسم المشاهد الطبيعية الريفية أو المدينية، ولا برسم البورتريهات لكبار القوم، بل تجاوز ذلك لرسم عيوب المجتمع اللندني وغير اللندني، في لوحات سرعان ما تتحول إلى مستنسخات تعلق في البيوت والمتاجر. ويعتمد على اقتباس مشاهد من عشرات المسرحيات، الاجتماعية بخاصة، التي تقدمها المسارح اللندنية ليجد فيها خير ممارسة لفنه الهزلي البديع. ولما كانت مسرحية "أوبرا البائسين" (أو الحثالة) من أشهر ما قدمته المسارح اللندنية في تلك الحقبة، أقدم على رسم عدد كبير من مشاهدها في لوحات تحولت إلى مستنسخات عاشت حياتها في مئات البيوت والمتاجر وما إلى ذلك، بحيث أنه هو نفسه وقف متسائلاً ذات لحظة لماذا لم تحظ مسرحيات شكسبير بحصة تستحقها من ذلك الفن. وهكذا، إذ توقف فترة عن رسم مشاهد مسرحية جون غاي - التي سوف تكون في القرن العشرين، في اقتباس لبرتولد بريخت واحدة من أعظم أعمال هذا الأخير بعنوان "أوبرا القروش الثلاثة" بالطبع -. وهكذا إذ انتقل هوغارث من الاحتجاج والتمني إلى التنفيذ، ولدت بريشته وألوانه تلك اللوحة المعنونة "فالستاف يفحص مجنديه" التي رسمها بألوان زيتية في عام 1730 بين إنجازه في عام 1728 وعام 1832 لوحتين متشابهتي الأسلوب والموضوع مقتبستين عن المشهد نفسه من مسرحية جون غاي.

تراتبية فنية

ولعل ما يجدر بنا التنبيه إليه هنا هو أن للوحات الثلاث المذكورة نفس المقاييس المتواضعة (وتتراوح بين 50 سم ارتفاعاً 60 سم عرضاً) ما يكشف بأن قيمة شكسبير في ذلك الحين لم تكن لتزيد كثيراً عن قيمة جون غاي. فسيد المسرح الإنجليزي الذي كان قرن ونيف قد مضى على رحيله، كان عليه أن ينتظر زمناً طويلاً قبل أن يستعيد مكانته، وربما كان مصيباً ذلك المؤرخ للحياة الثقافية البريطانية الذي عزا إلى هوغارث تحديداً، بل حتى إلى لوحة فالستاف التي نتحدث عنها هنا، الفضل في تحديد الخطوة الأولى لاستعادة شكسبير مكانته لدى الجمهور اللندني ولكن لا يمكننا الجزم بهذا على أية حال. لكننا في المقابل قادرون على التحدث عن القيمة الكبرى لهذه اللوحة نفسها والتي، من دون أن تكون من الانتهازية بحيث تستفيد من مكانة واحدة من شخصيات شكسبير الكبرى والأكثر شهرة لتقديمها مرسومة ومستنسخة ما يضمن لها نجاحاً كبيراً يعتمد على مكانة الشخصية، آثرت أو آثر  رسامها، الالتفات إلى تلك الشخصية الشكسبيرية التي لم تتعد أبداً كونها شخصية ثانوية في المتن الشكسبيري. ولا ريب أن هذه الحقيقة تعمل لصالح هوغارث، الذي من الواضح أنه إنما رسم هذا المشهد المسرحي العظيم، ضمن إطار معركته النضالية التي كان يخوضها ضد الموبقات التي كان يلمس تزايد انتشارها في المجتمع اللندني. ولعل اللحظة باتت هنا مناسبة للتوقف عند هذا الجانب من فن ذلك المبدع. فهو فن كان جوهره النضال ضد الفساد المستشري في البلد في زمن كان فيه سقوط القيم الأخلاقية حديث الناس ومدار سخريتهم. وكان هوغارث جاهزاً في كل لحظة لالتقاط تلك السخرية محولاً إياها إلى لوحات تسهم عبر انتشارها بخاصة في مستنسخات يشتغل عليها بنفسه، إلى سلاح ماض يتجاوز في أهميته وتحديداً في إلحاحه معلقاً في البيوت وفي غير البيوت في توعية الناس إلى ما يحدث من حولهم!، يتجاوز كل ما يمكن أن تفعله وتحرض عليه بقية الفنون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مجتمع يتآكل

والحال أن المعركة الرئيسية لدى هوغارث كانت ضد الفساد والنفاق الاجتماعي، ونحن لو تأملنا جيداً هذه اللوحة التي اخترناها لنتحدث عنها هنا وتتمحور تحديداً من حول السير جون فالستاف، سيطالعنا ذلك الجانب من شخصية هذا الأخير. الجانب الذي احتاج شكسبير نفسه إلى وضع الشخصية في أربع مسرحيات كي يقدمه على حقيقته لمتفرجي مسرحياته. فما الذي يصوره لنا هذا المشهد المأخوذ من الفصل الثالث من "هنري الرابع" في جزئها الثاني؟ ببساطة المشهد الذي ينهمك فيه السير جون فالستاف في اختيار الشبان الذين سيتألف منهم جيشه "الجرار" الذي سيخوض به الدونكيشوتية. وهؤلاء الشبان لم يكونوا يعرفون كنه تلك الحروب معتقدينها حروباً حقيقية قد يقتلون فيها. ومن هنا نرى بعضهم يحاول الإفلات ولا سيما من طريق الرشوة حيث يرينا مركز اللوحة فالستاف وهو يتناول بكفه اليسرى المبلغ المتفق عليه من جنديين آثرا النفاد بجلدهما مقابل مبلغ يدفع للقائد، فيما هذا الأخير يشير بيده اليمنى إلى جندي معلناً تجنيده لأنه، لبؤسه وفقره لا يمكنه أن يدفع. من الواضح أن هوغارث لا يحاول أن يزعم عبر هذا المشهد أنه مشهد حقيقي يجري في قاعة تجنيد رسمية، بل إنه جعل الديكور المسرحي واضحاً في مسرحيته والشخوص واضحين في مشاركتهم في لعبة لا تدعي أية واقعية. غير أن الديكور والشخوص ليسوا هنا سوى تلك الأقنعة، بل حتى المتاريس التي اختبأ الفنان خلفها كي يقول ما عنده وهو على يقين من أن مشاهدي اللوحة، حتى وإن كانوا لا يعرفون شيئاً عن المسرحية سيكونون قادرين على التقاط ما يريد أن يقوله لهم ما يفعل فعله في حياة اجتماعية جعل هوغارث من فنه الخاص وسيلته للمشاركة في تنظيفها من المثالب والعيوب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة