Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهوى والهوية يحكمان بحث المصريين في مصير سوريا

"من دمشق هنا القاهرة" تحولت من رمز وشعار أيام غارات العدوان الثلاثي عام 1956 إلى عبارة تحمل أسئلة وتوجسات واصطفافات واستقطابات

قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع يلقي كلمة أمام المصلين في الجامع الأموي بدمشق (أ ف ب)

ملخص

اليوم وأمس وأول من أمس، يشكو الفقراء فقرهم إلى الله وحين يظهر من يظنون أنه "مندوب الله" أو من يمثل دين الله على الأرض في سدة الحكم يعتقدون أنه حتماً سينصرهم ويغنيهم، لا سيما في الدول التي يتجمع فيها ثالوث الفقر والدين والخلاص

في الزاوية غير المرخصة بالمركز التجاري الصغير، أخذ الإمام غير المرخص له بالإمامة وصاحب محل العطارة يدعو بعلو الصوت في منتصف الصلاة "اللهم انصر أهلنا في غزة كما نصرت أهلنا في سوريا على الطواغيت والمجرمين، اللهم انصر أهلنا في غزة على الصهاينة المحتلين كما نصرت أهلنا في سوريا على أعداء الله، اللهم اكتب لبلاد المسلمين نصرة كنصرة أهل سوريا الحبيبة".

صاح المصلون وجميعهم من عمال محال البقالة والمنظفات والمفروشات والخضراوات والحدادة والنجارة والسباكة، إضافة إلى كوكبة من "الطيارين" (عمال الدليفري) بعلو الصوت "آمين يا رب العالمين".

المصلون المنتمون إلى القاعدة الشعبية من العمال البسطاء يمثلون فئة عريضة في مصر. إنها الفئة التي تعاني العوز أضعافاً وضغوط الحياة جبالاً، والفقر المتعدد سبعة أبعاد بالتمام والكمال. يتعاطفون كثيراً مع غزة وأهلها لأسباب إنسانية وأخلاقية، لأن أهل غزة مسلمون مثلهم. وتمددت موجة التعاطف الشعبي خلال الأيام الأخيرة لتشمل أهل سوريا أيضاً، لكنه تعاطف الفرح المتهلل المبتهج.

"الشيخ"، وفي أقوال أخرى "الشاب السني" (مسمى شعبي مصري لمن يطلق لحيته من باب التدين)، وفي ثالثة "الراجل بتاع ربنا" (عبارة تطلق على من تظهر عليه علامات التدين) الذي أسقط نظام الأسد في سوريا يدغدغ مشاعر بعض من البسطاء المصريين.

هؤلاء لا تستوقفهم كثيراً خلفية زعيم "هيئة تحرير الشام" وقائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) أو انتماءاته السابقة لتنظيم القاعدة أو "داعش" أو "جبهة النصرة"، وجميعها كان مصنفاً إرهابياً. ومعظمهم لا يعنيه هذه الانتماءات أو يشغله فك لغز السقوط السريع للأسد والصعود الأسرع للشرع، أو يستوقفه التفكير في مآل الأقليات غير السنية في سوريا. وبين هذه الغالبية من يرى في الشرع مخلِّص المظلومين ومنقذ المقهورين ومنصف المستضعفين. لماذا؟ لأنه "راجل بتاع ربنا".

متلازمة "الراجل بتاع ربنا"

متلازمة "الراجل بتاع ربنا" مخلص الفقراء لا تنتهي. ويتذكر المصريون مواصفات الرئيس المبتغى بعد أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، التي عبر عنها البسطاء في حينها بجملة تكررت كثيراً. "نحلم برئيس يراعي ربنا فينا". العبارة دالة، ومواصفات "من يراعي ربنا" توليفة من الإيمان والتدين واتباع الشريعة التي تقوم على العدل والمساواة. لذلك حين ظهر مرشح جماعة "الإخوان المسلمين"، "الجماعة بتاعة ربنا" عام 2012 أيدته قاعدة من البسطاء، وذلك لارتباط شعبي شرطي بين التدين والحكم بالعدل، وهو الحكم الذي سيخرجهم من دائرة الفقر حتماً "لأن الدين عدل، ولأن التدين مفتاح الفرج".

قبل نحو 12 عاماً، وتحديداً وقت التصويت على تعديل الدستور الذي عرف في ما بعد بالدستور الإخواني، نشرت هذه السطور في صحيفة مصرية يومية. "خرج أهالي قرية ’كوم إسفحت‘ في أسيوط للتصويت على الدستور بـ’نعم‘، وقال عبدالباسط إنه قال ’نعم‘ وذلك لأن القرية كلها ميولها إسلامية، ونعرف قيمة الرجل المخلص محمد مرسي الذي جاء ليقضي على الفساد الذي تسبب في بطالة شباب القرية. وقالت فايقة التي ترتدي النقاب إنها اختارت دائرة الريس مرسي الزرقاء ’نعم‘ لأن أبناءها الثلاثة عاطلون عن العمل ولم يتعلموا، وإنها تريد أن يكون الريس مرسي فوق الكل. أما فتحي فقال إنه صوت بـ’نعم‘، وعلى رغم عدم معرفته بمواد الدستور فإنه على يقين بأن ’الرئيس مرسي راجل طيب، وبتاع ربنا‘، وكل ما يطلبه منه هو خفض أسعار الأسمدة الزراعية بعد ما ارتفعت أسعارها بصورة ساعدت على زيادة انتشار نسبة الفقر، وهو ما يؤدي إلى صعوبة الحصول على خدمات الصحة والسكن والتعليم والغذاء".

الفقر متعدد الأبعاد

نحو 21 في المئة من المصريين يعانون في الأقل بعدين من أبعاد التعليم والصحة والسكن والخدمات والعمل والحماية الاجتماعية والأمن الغذائي. وبحسب منظمة "يونيسيف"، يطاول الفقر المتعدد خُمس المصريين تقريباً وترتفع النسبة إلى 29 في المئة من السكان داخل المناطق الريفية. اليوم، وأمس، وأول من أمس يشكو الفقراء فقرهم إلى الله، وحين يظهر من يظنون أنه "مندوب الله" أو من يمثل دين الله على الأرض في سدة الحكم، يعتقدون أنه حتماً سينصرهم ويغنيهم.

ما جرى في سوريا ونجاح خطة إسقاط نظام الأسد عبر دعم مقاتلي وقادة "هيئة تحرير الشام"، "جبهة النصرة" سابقاً، مع خلفياتهم الإسلامية الجهادية، أعاد تصدير صورة "المنقذ المتدين" الذي يمكنه الدعم الإلهي وبركة السماء من "فتح" البلاد والتخلص من الطغاة بفضل الله وكتابه الحكيم ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

يضاف إلى ما سبق أرشيف وأرضية وخلفية دينية شعبوية بالغة الثراء تتمثل في ارتباط الدين والتدين بالخلاص من الضغوط والمشكلات، إن لم يكن بالدعاء والرضا والقبول بالابتلاء، فبانتظار الفتح المبين والخلاص الأكيد.

نجم التدين الشعبوي

هذه الأرضية لا تقتصر فقط على جماعات الإسلام السياسي وأحزابه التي نشأت في مصر وعلى رأسها "الإخوان المسلمين"، وشهدت انتشاراً سرياً ومطاردات أمنية وبزوغ لنجمها وخفوت له وتضييق عليها، لكن تشمل أيضاً بزوغ نجم التدين الشعبوي الغارق في التشدد والمنغمس في التطرف، الذي يجد في أثير العنكبوت مجالاً بالغ الخصوبة.

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية نبيل عبدالفتاح يشير في ورقة عنوانها "التدين الشعبوي الرقمي والفعلي والحالة الدينية في مصر وتونس"، إلى أن الحياة الدينية الرقمية التي تهيمن على حياة الملايين وأن أصل المقولات الدينية التي تطرحها بعض الجموع الغفيرة من العاديين باتت تسود الحياة الرقمية بكثافة، ومعها السائد من المفاهيم والتصورات الدينية الشعبية أو آراء بعض المشايخ الرسميين، أو الدعاة ومن أطلق عليهم الدكتور طه حسين دعاة الطرق، أو بعض آراء السلفيين وجماعة ’الإخوان‘. وانتقلت هذه التصورات الدينية الشعبية من الحياة الدينية الشعبية الفعلية إلى الحياة الرقمية، وتُوظف على مدار الساعة".

ويشير عبدالفتاح إلى أن لجوء "الدعاة الرقميين" إلى الواقع اليومي ووقائعه وتفصيلاته وتحويله إلى مجال الجدل الديني ومدى شرعيته الدينية، يشكل إحدى أدوات تديين المجالين العام والخاص، وهو عمل سياسي بامتياز. ويضيف أن بعضاً منهم دأب على توظيف تديين الوقائع والأحداث اليومية، ونقل الاحتقانات الاجتماعية إلى المجال الديني.

ويرى عبدالفتاح أن تكتيك تديين الساحة الرقمية والاعتماد على قدرتها على امتصاص الصدمات السياسية وربما الاقتصادية والاجتماعية، يغفل أن تديين الحياة الرقمية ومن ثم الفعلية يسمح للجماعات الدينية بالتمدد قاعدياً، لا سيما في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على نحو يؤدي إلى اللجوء إلى الدين ملاذاً للبحث عن توازن نفسي واجتماعي ما في الحياة، وبخاصة للفئات المعسورة والأكثر فقراً في الأرياف وقيعان وهوامش المدن المريفة.

ثالوث الدين والفقر والخلاص

ثالوث الدين والفقر والخلاص يطل برأسه هذه الآونة بين الفئات المهروسة اقتصادياً، التي تتعامل مع ما جرى في سوريا باعتباره ترجمة فعلية للخلاص على أيدي "الناس بتوع ربنا".

انتهاء حلول الأرض وانتظار حلول السماء تشرحه دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت عنوان "رحلة التحول إلى التطرف في أفريقيا: مسارات التجنيد وفك الارتباط". توليفة من الأسباب الاجتماعية والسيكولوجية والتعليمية تدفع بعضاً للانضمام أو الإعجاب بالتنظيمات المتطرفة.

الفقر والحياة على هامش المجتمع يدفعان إلى السير في دروب التطرف والعنف والتمرد. والتهميش والحرمان من الحقوق الاجتماعية، وعدم فهم النصوص الدينية فهماً صحيحاً، وتدني المستوى التعليمي، وسوء الأحوال الاقتصادية، من أهم العوامل التي تستفيد منها التنظيمات والجماعات والهيئات والجمعيات المتطرفة أو التي تستخدم أداة الدين لاستقطاب مزيد من الأعضاء والمتعاطفين الذين يكتسبون قناعة بأن التعلق بالدين والمتدينين هو الحل.

الفيديوهات والمقاطع المصورة لقادة الإدارة الجديدة في سوريا، والمصحوبة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأهازيج دينية، والمخلوطة بكلمات مثل "فتح الشام" و"انتصار الجهاد" و"عزة المقاومة" و"الشيخ الفاتح" و"الفاتح الشرع" و"القائد الفاتح" وغيرها تجد طريقها إلى بعض، لا سيما من البسطاء في مصر من بوابة "راجل بتاع ربنا" الكلاسيكية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سوريا وكلاسيكيات "الكنبة"

يصعب حصر اهتمام الشارع المصري الواضح والمكثف الذي لا يفتر بما يجري داخل سوريا في كلاسيكيات بعينها، أو طبقات دون غيرها. وأعضاء "حزب الكنبة" أو "الكنبويون" غارقون كذلك في متابعة الشأن السوري. إنه غرق المتابعة والمشاركة والمجادلة واتخاذ المواقف، وعلى رغم أن كل ما سبق يجري من على "الكنبة" فإنه ملحوظ ومحسوس ومؤثر.

"حزب الكنبة" وكما يتضح من اسمه هو حزب الغالبية دون منازع، لكن دون ترخيص أو تسجيل في لجنة شؤون الأحزاب أو مقر، باستثناء كل كنبة في كل بيت. وهذا الحزب الذي تحرك للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث عام 2013، حين تسلم مقاليد قيادة موجة الغضب الشعبي ضد جماعة "الإخوان المسلمين" وقرر أن يغير مسار البلاد وينقذ مصير العباد، عاد أدراجه إلى كنباته بعد سقوط الجماعة. واليوم، الحزب مستنفر وأعضاؤه في حال ترقب. ويمكن القول إن الغالبية العظمى من "الكنبويين" ما زالوا على عهدهم الرافض الخلطة السرية، المازجة للدين بالدولة بالسياسة بالحكم باحتكار تفاصيل الحياة اليومية للمصريين. وحتى أولئك الذين خفت تأييدهم للسياسات الحالية في مصر لم تصل بهم الحال إلى الارتماء في أحضان دغدغة المشاعر الدينية عبر الدق على الأوجاع الاقتصادية، وهي الدغدغة التي أيقظتها الأحداث الأخيرة في سوريا.

تجدر الإشارة إلى أن بعضاً من أهل الكنبة على درجة من طيبة القلب وحنان المشاعر ما جعله ينقل دفة قلق صعود جماعة جهادية إلى الحكم في سوريا من القلق والتخوف إلى الفرحة والغبطة، وذلك لمجرد أن "أم أنس" الجارة في الطابق الرابع سعيدة بما جرى، أو أن "أبو أنس" أقام حفلاً ابتهاجاً بسقوط الأسد واحتفاء بالجولاني ووزع الحلوى السورية، وهو ما يعني بالضرورة الفطرية والحكمة الشعبية أن أهل سوريا أدرى بشعابها وصالحها ومستقبلها.

"الكنبويون" متأهبون متوجسون من صعود الإسلاميين الجهاديين في سوريا. ومعظمهم حائر أو متشكك أو كلاهما في حجم الدعم الدولي للإدارة السورية الجديدة، التي كانت وربما ما زالت مصنفة كهيئة وأفراد تحت بند الإرهاب. فئة من "الكنبويين" لا تخفي زمجرتها من تقارير صحافية وإعلامية غربية تقول إنها تفسر أو تحلل أو تتساءل عن أسباب قلق السلطة المصرية مما يجري في سوريا.

الهسهس الديني

سبب الزمجرة هو أن القلق، إن صح، لا يقتصر على السلطة لكن مكمنه ومصدره وأغلبه يكمن في المصريين الذين يسمون أنفسهم بـ"الناجين من الهسهس الديني"، أو أولئك الذين نجوا من موجة تديين السبعينيات وما تبعها من موجات نشر نسخ متطرفة ومتشددة من التفسيرات الدينية التي انتشرت في أرجاء البلاد.

لا توجد أرقام أو إحصاءات عن النسب المئوية أو أعداد المتخوفين في مصر من خطر امتداد الإسلام السياسي مجدداً، بعد ما أمدته الإدارة السورية الجديدة ذات الأصول والمرجعيات الجهادية بقبلة الحياة.

نعرات إقليمية

الملاحظ أن الوضع في سوريا والأحداث المفاجئة المتلاحقة وردود الفعل الغربية المرحبة وعودة نعرات إقليمية عدة للظهور بعد فترة خفوت، منها رغبة في الخلافة أو اشتهاء للقيادة أو نزعة للزعامة وغيرها، أسهم في عودة بعض المصريين ممن تضاءل تأييدهم لنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال الأعوام القليلة الماضية، سواء اعتراضاً على سياسات أو تألماً من اقتصاد أو رغبة في مزيد من الحريات، وذلك لحين إشعار آخر.

إعادة ترتيب الأولويات يحدث لا إرادياً في أذهان كثر، لا سيما خلال أوقات الأزمات. فئة من المصريين دأبت أو تدربت أو تعلمت وضع همومها الاقتصادية ومشكلاتها المعيشية ومطالبها الحياتية جانباً ما أن تستشعر أخطاراً أمنية أو مصيرية في الطريق.

الربيع والإخوان

حدث ذلك عام 2011 وقت أحداث ما يسمى "الربيع العربي" وعام 2012 عقب فوز مرشح جماعة "الإخوان المسلمين" محمد مرسي في انتخابات الرئاسة، وتوالت عمليات الاستشعار وتغيير الأولويات طوال العقد ونصف العقد الماضيين، وصولاً إلى عملية "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما تلاها من آثار وتهديدات لأمن مصر واستقرارها، وحالياً الأوضاع الجديدة في سوريا.

كل ما سبق لا يعني أن تأييد الإدارة الجديدة في سوريا والشعور بالسعادة والنصر لوصول جماعة إسلام سياسي جهادي إلى سدة الحكم يقتصر على البسطاء من غير الملمين تاريخ الجماعات الدينية السياسية، أو غير المهتمين بالبحث عن كيفية عودة فصائل مسلحة في سوريا فجأة إلى الحياة ووصولها إلى السلطة خلال أيام.

موجة التدين، وفي أقوال أخرى التديين، التي يشهدها المجتمع المصري لم تستثن فئة أو طبقة. وهذه الموجة تشهد هبات وفورات بين الحين والآخر، إحدى هذه الهبات تنشط بشدة لكن بسكون شديد خلال الأعوام القليلة الماضية، وتشهد طفرة كبيرة في الأشهر الأخيرة.

تديين الشارع

عشرات البرامج التلفزيونية وآلاف الفواصل بين البرامج تقدم شرحاً لآيات وتفسير لأحاديث، وتنجيم أطباء يشرحون الأمراض في ضوء الدين ويضعون العلاج من وحي التفسير، وإصرار على بث أحاديث مشايخ رحلوا عن الدنيا وأسهموا بقدر غير قليل في زرع التطرف وترسيخ التشدد والانغلاق على أثير الشاشات الرسمية، وغض الطرف عن مكبرات الصوت بلا ضابط وعودة زوايا الصلاة غير المرخصة، وفتاوى عن النوم والتعليم والجنس والطب والمال والعمل والتنفس والعلاج والمرض والفقر والغنى والثورة الرقمية والرقية الشرعية والموسيقى، والمياه الغازية وفوائد البنوك وتخليص الذنوب وعذاب القبر والابتلاء بالفقر والبلاء بالغنى، ناهيك بتحول جزء كبير من المحتوى الرقمي ليصبح دعوياً ناشراً لأهمية النقاب وسوء عاقبة الفن والنساء وشجرة الكريسماس... والقوس يأبى أن يغلق.

يقول نبيل عبدالفتاح في بحثه عن التدين الشعبوي إن "التدين في الشارع يبدو طوعياً من بعضهم، ومحاولة أولئك لتذكير الجمهور بالدين. وبعض آخر يؤدي مهمة طُلب منه أداءها شيخه السلفي لإشاعة التدين وسط الجمهور في المركبات العامة، وهي ظاهرة اجتماعية خفتت حيناً وتعاود الظهور مجدداً في الحياة اليومية. وهذه محاولات دينية سياسية بامتياز لأنها لا تستفز ركاب الحافلات والمترو والقطارات، وأيضاً رجال الأمن، ومن ثم تبدو جزءاً من إيمان قارئ القرآن السلفي أو الإخواني أو المسلم العادي، وهدفها سياسي بامتياز، بعيداً من السياسي والتفافاً على الأمني".

ويلاحظ عبدالفتاح زيادة توظيف وقائع عادية نحو سؤال الحلال والحرام، واصفاً إياها بـ"محاولات سياسية تتغطى بالقناع الديني من أجل تسييد العقل الديني النقلي المغلق، وفرض تأويلاته الوضعية البشرية على جميع وقائع الحياة وظواهرها، ولتعبئة بعض من الجماهير العاديين لمواجهة غير مباشرة مع السلطة السياسية الحاكمة، ونتاج للتقليد التاريخي المستمر في الصراع على توظيف الديني في العمليات السياسية المضادة".

ما سرده عبدالفتاح يظهر حالياً لدى بعض من المصريين من غير البسطاء اقتصادياً أو ثقافياً أو تعليمياً الذين لا يرون غضاضة في وصول جماعة جهادية إلى السلطة في دولة ما، باعتبارها "ستحكم بشرع الله".

أسئلة استنكارية ترهيبية مثل "وما الذي تكرهونه في شرع الله؟"، أو "هل تفضلون علمانية الكفار على شرعية المسلمين؟"، أو "وما الضرر في أن يحكم المسلمين مسلمون بدين الإسلام؟" وغيرها يجري تداولها بين مرحب ومتضرر على أثير الـ"سوشيال ميديا" إلى حد كبير، وفي العلن إلى حد ما.

العلن، تحديداً الإعلام الرسمي أو القريب من الدولة عامر بمحتوى يصعب وصفه بالمنتقد أو المرحب أو المتخوف أو المتهلل أو القابل أو الرافض لما جرى في سوريا. وفي التقارير والتغطيات الإخبارية يجري الالتزام بأعلى معايير الموضوعية منزوعة النعوت خالية الميول، أما مقالات الرأي وبرامج الـ"توك شو" فعامرة بالتخوف القلق والتشكك المحسوب والتساؤل المقصود، والحذر الشديد الذي يعكس توجساً لا طمأنينة ووجلاً لا ترحيباً.

تعليمات واختيارات

خبثاء يلوحون بأن منهم من يكتب بناء على تعليمات، لكن المؤكد أن بينهم من يكتب بناء على فكر شخصي وتحليل حقيقي. وطيف الكتابة الحذرة والتعليق المتأتي والتحليل المتريث وحتى التعبير المتخوف يتسع لدرجات عدة، منه المباشر الصريح ومنه الأقل مباشرة الأكثر مواربة.

وكتب الباحث هاني نسيرة تحت عنوان "هل يبدد الشر مخاوف الكثيرين؟" قبل ساعات "هبت السكرة وجاءت الفكرة، فرح الجميع كما فرح السوريون، ونتمنى لهم كل خير، لكن تظل المخاوف داخلياً وخارجياً، بل وتزداد مع الوقت، داخلياً مع بطء الإدارة واتخاذ القرارات وتوجس كل من العلويين والدروز من المسار ورفض تسليم السلاح، وكذلك استمرار الخلاف مع ’قسد‘، وضبابية الموقف الداخلي بصورة عامة، وخارجياً مع ظهور وجوه متطرفة عنيفة مطلوبة دولياً لترسل التهديدات لبعض الدول المركزية في المنطقة، وعلى العكس مما صرح به الشرع لـ’العربية‘ وغيرها من أنه لا يسعى إلى تصدير الثورة خارج سوريا، يرسل هؤلاء تهديداتهم المصورة مما يثير الخوف ويهدد علاقات سوريا بالمنطقة ومنها مصر".

وأشار إلى أنه على رغم التخوفات والرسائل الملتبسة فإن "الفرصة أمام الشرع ومن المؤكد أننا نؤمن في حقها، لكن نؤمن بأن العزم والحزم مطلوبان بشدة في الأوقات الحرجة، وكي لا يقع الحابل بالنابل مع غواة التغيير وصياديه وفوضوييه".

ترحيب حريص

في مقابل الترحيب الحريص والأماني ولو بعيدة، كتب الإعلامي أحمد موسى على "إكس" معلقاً على تصريح الشرع بعدم وجود نية لدى سوريا لخوض حروب أو الدخول في صراعات، وأن الأراضي السورية لن تستخدم لشن هجمات على إسرائيل "كيف له أن يقول ذلك والجولان محتلة؟ ما هو دورك تجاه الأراضي السورية المحتلة؟ هذا كلام واحد منبطح". وتوقع موسى أن يزور الشرع إسرائيل قريباً.

ويبقى هناك صوت كتاب وإعلاميين محسوبين أو منتمين أو متعاطفين أو مستفيدين من تيارات الإسلام السياسي، لا سيما جماعة "الإخوان المسلمين" التي تلتزم الصمت الحذر، لكن علامات البهجة وأمارات التفاؤل لا يمكن تجاهلها.

صفحات هؤلاء والقنوات التلفزيونية والمواقع المنتمية أو المتعاطفة مع هذا التيار لا تكف عن عقد المقارنات بين مصر وسوريا، والتعبير الذي يعكس التمني باستنساخ ما جرى. وهذا النوع من المحتوى يلقى آذاناً مصغية وقلوباً منفتحة لدى بعض مؤيدي الجماعة والمستمرين في متابعة إعلامها. وفي المقابل وكما هو متوقع يؤدي المحتوى نفسه إلى مزيد من العداء للجماعة وانتقادها، والإصرار على رفض التقارب أو التصالح.

"من دمشق هنا القاهرة" تحولت من رمز وشعار بعد ما نطق بها الإعلامي السوري عبدالهادي البكار من إذاعة دمشق، وقت تعرضت مصر لغارات العدوان الثلاثي عام 1956 التي تسببت في انقطاع لخطوط الإذاعة المصرية، إلى عبارة تحمل أسئلة وتوجسات واصطفافات واستقطابات. "من دمشق هنا القاهرة، هنا مصر من سوريا"، لكن المعنى الحالي في بطن الأحداث والحوادث والمستقبل.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير