Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جواب دركهايم المبكر: لهذه الأسباب ينتحر الإنسان

قدم في كتابه قراءة فلسفية عن العلاقة بين الإنسان ومصيره وهم الفرد وهموم المجتمع

عالم الاجتماع الفرنسي إميل دركهايم (الموسوعة البريطانية)

ملخص

يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي إميل دركهايم أنه ليست للانتحار في شكل عام علاقة بالأبعاد النفسية التي هي ذات بعد فردي... لأن الانتحار مسألة اجتماعية - جماعية، ترتبط بالواقع العام للشعوب والجماعات وربما الأمم أيضاً

هناك سؤال محير يشغل الناس، أو في الأقل يشغل المطلعين على أحوال العالم من الناس، في شكل دائم: لماذا يشير معظم الإحصاءات التي تنشر بين الحين والآخر، إلى أن سكان البلدان الإسكندنافية لديهم دائماً أعلى نسبة انتحار في العالم؟ في مجال محاولة الإجابة عن هذا السؤال تتنوع الفرضيات. ولكن بات نادراً أن يذكر أحد، في أيامنا هذه، اسم كاتب ومؤلفه، شغلهما هذا الموضوع في شكل مبكر. الكاتب هو عالم الاجتماع الفرنسي إميل دركهايم، والكتاب له عنوان شديد الفصاحة وموجز هو "الانتحار". كتاب دركهايم هذا صدر في عام 1897، ليثير نقاشات واسعة وليرفض من جانب كثر من علماء الاجتماع، وربما من العامة أيضاً، لا سيما منهم أولئك الذين كانوا يستعدون - في ذلك الحين - وبقوة، لاستقبال علم جديد كان يتكون في ذلك الوقت بالذات، هو علم التحليل النفسي، ذلك أن ما يذهب إليه دركهايم في كتابه، بدا متناقضاً إلى حد كبير مع ما يمكن أن يقوله ذلك العلم الجديد عن الانتحار.

مسألة اجتماعية

بالنسبة إلى دركهايم، ليست للانتحار في شكل عام علاقة بالأبعاد النفسية التي هي ذات بعد فردي... لأن الانتحار مسألة اجتماعية - جماعية، ترتبط بالواقع العام للشعوب والجماعات وربما الأمم أيضاً. ومن هنا كان الأساس بالنسبة إلى دركهايم العمل انطلاقاً من الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية، والطلوع منها بما يجب من استنتاجات. والحقيقة أن المآخذ الأساس التي أخذها زملاء دركهايم عليه، نبعت من هنا، فمن ناحية لم تكن فنون الإحصاء قد تطورت في شكل يجعلها موثوقة. ومن ناحية ثانية لم يكن دركهايم نفسه، كما أشاروا، من الذين يغادرون مكاتبهم ليشتغلوا ميدانياً. فمن أين كان في إمكانه أن يستقي قدراً من المعلومات يكفي للوصول إلى نتائج راسخة؟ طبعاً كان هذان المأخذان صحيحين، غير أن هذا لم يفت في عضد دركهايم نفسه، ولا في عضد تلامذته من بعده... إذ إن هؤلاء، إذ أخذوا على عاتقهم استكمال عمل المعلم، قالوا إن المبدأ الذي اتبعه كان صحيحاً. والمشكلة في بعض التفاصيل. أما المبدأ فهو ذاك الذي يمكننا أن نتوقف عنده، من دون إنكار، في كل مرة تشير فيها الإحصاءات، حتى في أيامنا هذه، إلى الواقع الذي رصده دركهايم: ثمة شعوب تنتحر أكثر من شعوب، ولو كان مظهر الانتحار مسألة فردية، بل إن الإحصاءات تقول ما هو أكثر من هذا: تقول إن الكاثوليك أقل انتحاراً من البروتستانت، والمتزوجين أقل انتحاراً من العازبين، والنساء من الرجال، والفلاحين أقل انتحاراً من سكان المدن. والمسألة بالنسبة إلى دركهايم والرائين رأيه واضحة: فإذا كانت الإحصاءات في كل زمان ومكان، تقول لنا هذا الشيء نفسه، أفلا يحق لنا أن نستنتج بأن الحقيقة تقول إن الانتحار مسألة اجتماعية، وليست مسألة فردية في نهاية الأمر؟

ذلكم، هو طبعاً، السؤال الجوهري الذي وضع دركهايم كتابه الشهير هذا، ليحاول الإجابة عنه. وهو، في طول الكتاب وعرضه، يورد كل ما في وسعه من تأكيدات وتحليلات ولكن دائماً، من منطلق واثق مما يقول. وواثق حتى من الحلول التي يقترحها، والتي كان من شأنها، في رأيه، أن تخفف من نسب الانتحار. وهي، كما التحليل، حلول ذات سمات سوسيولوجية خالصة، بل إنها تنتمي، في جزء كبير منها إلى سوسيولوجية العمل وتوزيع العمل وما إلى ذلك.

دور المجتمع

في كتابه يحدد دركهايم بوضوح: "إن نسبة الانتحار في مجتمع ما تتناسب طرداً مع درجة انتظام الأفراد في المجتمع الديني، في المجتمع المنزلي أو العائلي، في المجتمع السياسي أو مجتمع الأمة في شكل عام". ولتفسير كلامه اليقيني هذا يلاحظ المؤلف أن الفرد خاضع عادة لهيمنة واقع أخلاقي يتجاوزه: هو الواقع الجماعي. ويواصل دركهايم هنا شرحه "إننا حين نجد أن لدى كل شعب معدل انتحار خاصاً به، وأن هذا المعدل يكون ثابتاً حتى أكثر من ثبات نسبة الوفيات السنوية لديه، وأن هذا المعدل يبدو مستجيباً لقوانين محددة، قد يمكن لبعضها أن يعبر عنه في شكل رقمي - أي إحصائي - سندرك من فورنا أن هذه الدول ومؤسساتها الاجتماعية هي القوى الحقيقية، الحية والفاعلة، عبر الطريقة التي بها تحدد مسلك الأفراد نمط عيشهم، مما يشهد بسرعة على أن الأمور لا ترتبط أبداً بالفرد، ولا بالحقائق المحددة والمقاومة من أمثال تلك التي يعالجها عالم النفس أو عالم الطبيعة". ومن البديهي لدركهايم، إذ يؤكد هذا، أن يستمر انطلاقاً من هنا من استنتاجه بأن الانتحار إنما ينتج من أسباب اجتماعية. حسناً، بالنسبة إليه ثمة دوافع فردية وخاصة، لكنها لا تكون أكثر من "ذرائع" و"مناسبات" لفعل الانتحار، ولا تكون أسباباً له. فهل لنا أن نستنتج، يقول غير الواثقين بنظرية دركهايم هذه، بأن الذين ينتحرون، إنما يدفعون إلى الموت من جانب قوى لا يفقهون طبيعتها، وأن الدوافع التي يتذرعون بها للقيام بفعلتهم وتبريرها، لا علاقة لها بقرارهم؟ والحقيقة أن هذا السؤال الاعتراضي يبدو لنا اليوم، كما كان يبدو وفي زمن دركهايم للمعترضين عليه، محقاً. ومع هذا، إذا كان دركهايم قد وصل إلى هذا المستوى من الاستنتاج، فما هذا إلا لأنه كان يرى أن ثمة هوة واسعة بين القوى الجماعية الكبيرة الفاعلة، و"الذرائع" و"المناسبات". وهذا ما يجعله يختصر الأمور بالإعلان أن العوامل الاجتماعية هي وحدها ما يشكل السببية العامة للانتحار. وهذا ما جعل المعترضين على نظريته كثراً... والأهدأ منهم هم الذين قالوا إن استنتاجه متسرع لا أكثر... مشيرين إلى أن مشكلته كمنت في أنه إنما استخلص "العبر" من معطيات قديمة. وأنه تجاهل في شكل خاص أبحاثاً حديثة - في ذلك الحين - دلت على وجود مرض سمي "السيكلوتيميا" هو عبارة عن تأرجح للمصاب به بين فترات تثير حماسه وجزله، وفترات أخرى تثير لديه كآبة مفرطة، وكان أطباء كثر قد بدأوا يرون في هذا المرض، أو في هذه "الحالة المرضية" على أي حال، سبباً أساساً من الأسباب الدافعة إلى الانتحار. بالنسبة إلى خصوم دركهايم كان من الواضح أنه "لا يعرف شيئاً عن هذا المرض" هو الذي كان غارقاً في "الأبعاد الاجتماعية إلى درجة لا تطاق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استكمال العمل

خلال العقود التي تلت صدور كتاب دركهايم هذا، ثم رحيل صاحبه، لم يفت تلامذته أن يستكملوا عمله، في إضافة أبعاد وعناصر جديدة إليه، ولكن من دون التخلي عن المبدأ الأساس - كما قلنا - أي كون العامل الاجتماعي يلعب دوراً أساساً في "معظم" حالات الانتحار، وإلا لكان من المنطقي، في رأيهم، رمي كل الإحصاءات جانباً. ومن نافل القول أن تطور فن الإحصاء - مع وصوله دائماً إلى نتائج مشابهة - وضع كثيراً من الماء في طاحونة مكملي عمل دركهايم، أكثر مما وضع في طاحونة منكري أفكاره. وفي الأحوال كلها يبقى أن دركهايم كان، من أوائل المفكرين الاجتماعيين الذين حاولوا الإحاطة بممارسة مثل الانتحار وخلق علم متكامل من حولها... بل إن دركهايم اقترح حلولاً، لا تمنع الانتحار نفسه بالطبع، لكنها تخفف من معدلاته، وهي دائماً حلول اجتماعية، تقوم أساساً على نوع من المركزية وإعادة تقسيم العمل وإعادة توزيع جغرافية العمل، وهو ما كان - على أي حال - قد بدأ يدرسه بتفصيل كبير في كتابه الأساس، الذي كان نشره قد سبق نشر "الانتحار" بعامين: "قواعد المنهج الاجتماعي" (1895).

عاش إميل دركهايم بين عامي 1858 و1917، وهو فرنسي النشأة أوروبي التوجه في أفكاره وعلمه، وينظر إليه عادة على أنه كان من أوائل المفكرين الذين سعوا إلى تحويل علم الاجتماع إلى علم تطبيقي... من خلال دراسات عامة له، ولكن كذلك، وخصوصاً، من خلال دراساته المعمقة في الجريمة كعلم (كما في "تقسيم العمل الاجتماعي" 1893) و"الانتحار"، والسحر (كما في "الأشكال الأساس للحياة الدينية" 1912). وهو أسس في عام 1898، مجلة "الحولية الاجتماعية" التي كانت رائدة في مجالها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة