Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

هل يصب التخلي الأميركي في مصلحة أوروبا؟

خلال الأعوام الأربعة المقبلة، ستواجه الروابط التي تجمع بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اختبارات صعبة

لم تكُن العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا في مثل هذا التباعد أو الاختلاف من قبل (رويترز)

ملخص

قد يشكل تراجع التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا فرصة للقارة لتعزيز استقلالها الاستراتيجي، مما يحفز تطوير قدراتها الدفاعية وزيادة نفوذها العالمي. هذا التحول قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى تبني سياسات أكثر استقلالية في الأمن والتجارة، ويمنحه مرونة أكبر في التعامل مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا.

في فبراير (شباط) من عام 2024، نشرنا مقالة في "فورين أفيرز" نحث فيها أوروبا على الاستعداد لاحتمال تخلي الولايات المتحدة عنها. وكنّا على حق في دق ناقوس الخطر. في الحقيقة، إن إعادة انتخاب دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 جعلت احتمال أن تدير الولايات المتحدة ظهرها لأوروبا أكثر واقعية من أي وقت مضى. فبعد أربعة أعوام من الشراكة الوثيقة مع إدارة الرئيس جو بايدن في التعامل مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا وإدارة التبعية الاقتصادية للصين، يجب على أوروبا الآن أن تستعد لرئيس أميركي جديد غالباً ما يتعامل مع القارة بازدراء ويتعهد بتغليب رؤية ضيقة للمصلحة الذاتية الأميركية على التعاون مع الحلفاء. لقد أعلن ترمب عن نيته إنهاء الحرب في أوكرانيا خلال الأيام الأولى من ولايته، حتى لو كان ذلك بشروط غير مواتية لأوروبا، ويواصل تهديده بفرض رسوم جمركية على جميع واردات القارة إلى الولايات المتحدة.

لكن أوروبا لم تقف مكتوفة الأيدي مع عودة صعود ترمب. فمنذ احتلال روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم عام 2014 وبصورة خاصة منذ الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022، زاد القادة الأوروبيون على نحو كبير من الإنفاق الدفاعي لبلدانهم ودعمهم لأوكرانيا. فدول الاتحاد الأوروبي تنفق الآن مجتمعةً أكثر من اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، بعد أن كان يزيد قليلاً على واحد في المئة عندما فاز ترمب بالرئاسة أول مرة عام 2016، مع استثمار بعض الأعضاء، مثل إستونيا وبولندا، نسبة من ناتجها المحلي الإجمالي في الدفاع تفوق ما تنفقه الولايات المتحدة نفسها. ومنذ فبراير 2022، قدم الاتحاد الأوروبي دعماً لأوكرانيا يتجاوز الدعم الأميركي، إذ خصصت دوله الأعضاء وحلفاؤها لكييف ما يقارب 109 مليارات دولار من المساعدات العسكرية والمالية والإنسانية، مقارنة بـ 90 مليار دولار قدمتها الولايات المتحدة.

ولكن مع احتمال تراجع التزام الولايات المتحدة ودورها، ستحتاج أوروبا إلى التحرك بسرعة لضمان أمنها الخاص في مواجهة الهجمات الروسية الهجينة [التي تجمع بين أساليب عسكرية تقليدية وأخرى غير تقليدية، مثل الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل الإعلامي والتدخلات السياسية في الشؤون الداخلية لدول أخرى] على بنيتها التحتية ومجتمعها، فضلاً عن استمرار الحرب البرية في القارة. كما سيتعين عليها الاستعداد لحرب اقتصادية. وأطلقت المفوضية الأوروبية برنامجاً اقتصادياً طموحاً يعطي الأولوية للنمو من خلال تكامل السوق الأوروبية والابتكار وتسريع التحولات الرقمية والطاقوية وزيادة إجراءات الأمن الاقتصادي. ولكن بالنظر إلى نية ترمب فرض رسوم جمركية واسعة النطاق، من الممكن أن تواجه القارة أخطاراً اقتصادية كبيرة ناجمة عن سياسات أميركية غير متماسكة في الاقتصاد الكلي والتجارة، تزعزع الاقتصاد العالمي الذي تعتمد عليه أوروبا. وبينما تحتاج أوروبا إلى الحفاظ على انفتاحها على التجارة العالمية، لا يمكنها تحمل تداعيات الرسوم الجمركية التي يفرضها ترمب، أو تدفق الاستثمارات الصينية المفرطة في قدرات التصنيع.

عشية ولاية ترمب الثانية، لم تكُن العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا في مثل هذا التباعد أو الاختلاف من قبل. ومع ذلك، فإن تراجع الدور الأميركي سيمنح أوروبا فرصة لكي تقف على قدميها وتُظهر للعالم أن بإمكانها أن تكون حليفاً جديراً بالثقة في الأماكن حيث يبدأ النفوذ الأميركي بالانحسار، كما سيجبر أوروبا على تقديم حجة جديدة وأقوى للولايات المتحدة مفادها بأن واشنطن لديها مصالح مشتركة مع الحلفاء الغربيين الآخرين. لذا يجب على أوروبا أن توضح بصورة لا لبس فيها لإدارة ترمب أن التخلي عن الحلفاء سيؤدي في الواقع إلى إضعاف الولايات المتحدة من خلال تشجيع خصومها وزيادة جرأتهم. 

دفاع عن النفس

إن الأولوية الأهم للحكومات الأوروبية هي حماية قارتها. ويعتمد نظام الأمن ​​الأوروبي على كبح الطموحات الإمبريالية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ففي اليوم الذي أعيد فيه انتخاب ترمب، أعلن ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، أن "أهداف العملية العسكرية الخاصة [في أوكرانيا] لا تزال على حالها وستتحقق"، في رد مباشر على تعهد ترمب خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب على الفور. وأشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى استعداده للقبول بوقف إطلاق نار يشمل تنازلاً عن بعض الأراضي مقابل ضمانات أمنية موثوقة، مثل انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ودعم دفاعها. ومع ذلك، قال كيث كيلوغ، المبعوث الأميركي الخاص الجديد إلى أوكرانيا وروسيا، إن الولايات المتحدة يجب أن تدفع أوكرانيا إلى طاولة المفاوضات من خلال وقف تسليم الأسلحة، وأشار إلى أن وقف إطلاق النار قد يكون قيد البحث إذا وافقت أوكرانيا على احتلال روسي فعلي طويل الأجل في شرق البلاد. وعلى رغم رغبة زيلينسكي في الحصول على عضوية في حلف شمال الأطلسي واستمرار المساعدات العسكرية الأميركية لضمان استقلال بقية البلاد وسيادتها، فإن الولايات المتحدة وروسيا لا تبدوان مستعدتين حالياً للموافقة على مثل هذه الشروط.

ويجب على الحكومات الأوروبية أن توضح أنها لن تدعم أي جهود أميركية ترغم أوكرانيا على قبول وقف إطلاق نار مبني على حسابات ترمب التي تخدم مصلحته السياسية الشخصية. ويتعين على تلك الحكومات أن تلتزم تزويد أوكرانيا بالمعدات العسكرية التي تحتاج إليها لوقف تقدم روسيا المستمر في أرض المعركة ومنع التوصل إلى وقف لإطلاق النار بشروط ربما تقوض إرادة أوكرانيا ومصالحها وتفشل في ضمان الأمن المستدام في أوروبا وتزيد من جرأة روسيا. وتعتقد شخصيات بارزة في إدارة ترمب المقبلة بأن اتفاق السلام هو وسيلة لتقليص شحنات الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا من أجل الاحتفاظ بها لصراع محتمل مع الصين. ولكن بالنظر إلى أن معدل إنتاج روسيا للذخائر وأنظمة الأسلحة الرئيسة يتجاوز حالياً معدل الإنتاج في الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعتين، فإن توقيع اتفاق ضعيف لوقف إطلاق النار سيتيح لروسيا بناء قدراتها بسرعة ومواصلة تحقيق طموحاتها الإمبريالية وتهديد الدول الأوروبية.

وأصبح سيناريو أوروبا من دون قوات أو أسلحة أميركية أو ضمانات أمنية لأوكرانيا احتمالاً وارداً. ولكن بقدر ما قد يكون هذا السيناريو غير مرغوب فيه، إلا أن الدول الأوروبية قادرة على إيجاد حل محلي. وفي حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فستحتاج الدول الأوروبية، في الأقل، إلى مراقبة إطاره الهش المحتمل وإنفاذه وتوفير ضمانات أمنية قوية ودعم للردع والدفاع عن أوكرانيا (وعلى نحو أوسع عن أوروبا). فمنذ عام 2016، ضاعفت الدول الأوروبية إنفاقها على مشتريات الأسلحة والمعدات العسكرية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 0.3 إلى 0.6 في المئة. ويوافق القادة السياسيون الأوروبيون من مختلف التوجهات الأيديولوجية، مثل بوريس بيستوريوس وزير الدفاع الألماني الاشتراكي الديمقراطي، وفريدريش ميرتس المرشح المحافظ لمنصب مستشار البلاد، على ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي بصورة كبيرة. وفي الواقع، إن قرار بروكسل الأخير باقتراض ما يصل إلى 50 مليار دولار من الفوائد والأرباح المستقبلية من الأصول الروسية المصادَرة التي جُمدت في الغالب في الاتحاد الأوروبي، من أجل تأمين الدعم المالي لأوكرانيا عام 2025، هو قرار يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي مستعد لتولي الدفاع عن أوكرانيا من موازنته العمومية الخاصة.

أولوية الحكومات الأوروبية هي حماية قارتها

 

لكن أوروبا بحاجة إلى زيادة إنتاجها الصناعي الدفاعي بصورة أكبر لمواجهة القيود الحالية على إمدادات الأسلحة الأميركية التي لا تزال القارة تعتمد عليها. وحتى قبل إعادة انتخاب ترمب، أصبح من الصعب الاعتماد على الولايات المتحدة في تسليم الأسلحة في الوقت المناسب. فالتأخير في إنتاج الأنظمة المصنعة في الولايات المتحدة وتسليمها، مثل طائرات "أف-35" المقاتلة وصواريخ الدفاع الجوي وأنظمة التحكم والغواصات المدرجة في "اتفاقية أوكوس" AUKUS مع أستراليا والمملكة المتحدة، باتت تمثل مشكلة في الحفاظ على قوة الردع. ومع استمرار الحرب في القارة، يجب على أوروبا أن تزيد من اكتفائها الذاتي لضمان ألا تصبح سيادة أوكرانيا رهينة أسعار الأسلحة المرتفعة أو القدرات التصنيعية غير الكافية للأنظمة المتطورة الحاسمة.

في الآونة الأخيرة، أنشأت المفوضية الأوروبية منصب "مفوض الدفاع"، المكلف تعزيز إنتاج الدول الأوروبية في المجال الدفاعي وخفض الأسعار من خلال الاستفادة من حجم السوق الأوروبية الموحدة وقوتها الشرائية. ومن أجل تحقيق ذلك، هناك حاجة إلى موازنات أكبر وأكثر موثوقية على المدى الطويل. وسيظل الجزء الأكبر من موازنة الدفاع يأتي من الموازنات الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويُذكر أن تخصيص صندوق أوروبي إضافي، في حدود مبلغ يصل الى 500 مليار دولار، سيساعد في زيادة الإنتاج الأوروبي واقتناء تقنيات حديثة مثل الأسلحة الهجومية البعيدة المدى والدفاعات الجوية والذخائر الموجهة بدقة، إضافة إلى القدرات الإستراتيجية الحيوية مثل الطائرات المسيّرة وأنظمة الاتصالات والاستطلاع الفضائي. ويمكن للتمويل المشترك الذي تقدمه مجموعة من الدول الأوروبية المتحالفة، تشمل دولاً غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل النرويج والمملكة المتحدة، أن يضمن مركزية أكبر في المشتريات العسكرية بين الدول، مما يخفض الكلف المترتبة على سوق مجزأة، ويمنع خضوع الاستثمارات لحق النقض الذي من الممكن تمارسه دول فردية مثل المجر. وسيحتاج صنّاع السياسات الأوروبيون أيضاً الى إصلاح القواعد البيئية والاجتماعية وقواعد الحوكمة التي تقيّد حالياً الاستثمار الكافي في شركات الدفاع.

إن تنفيذ ترمب لانسحاب أميركي سريع بحكم الأمر الواقع من الالتزامات الأمنية الأوروبية، إلى جانب مقترحات تخفيض المساعدات لأوكرانيا والتردد في شأن ضمانات حلف شمال الأطلسي الأمنية، من شأنه أن يرسل إشارة إلى حلفاء الولايات المتحدة (وأعدائها) بأن واشنطن لا يمكن الاعتماد عليها. وأخيراً، أكد مارك روته، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أن الصين وإيران وكوريا الشمالية ستدرس الطريقة التي تتعامل بها إدارة ترمب مع أوكرانيا لصياغة سياساتها الخارجية الخاصة. لكن التزامات الولايات المتحدة المتناقضة بصورة متزايدة تجاه حلفائها تخلق أيضاً فرصة لأوروبا لكي تظهر استعدادها لسد الثغرات في النظام الأمني.

شؤون مالية منفصلة؟

يبدو أن رئاسة ترمب قد تؤدي أيضاً إلى اضطراب في الاقتصاد العالمي. فالتعريفات الجمركية الأميركية المفروضة على جميع المنتجين الأجانب من المحتمل أن تقلص التجارة العالمية بصورة كبيرة وتلحق الضرر بالشركات الأوروبية. وبدأت بكين بالفعل بالاستجابة لاحتمال نشوب حرب اقتصادية من خلال خفض أسعار الفائدة وإضعاف عملتها للتعويض عن آثار التعريفات الجمركية التي اقترحها ترمب وتعزيز صادرات الصين إلى العالم. ولا يزال يتعين على أوروبا تحديد استجابتها من أجل تجنب الوقوع بين السياسات الأميركية غير المتماسكة ومناورات الصين المضادة.

ويبقى من غير الواضح ما إذا كان ترمب سيكرر الإستراتيجية التي تبناها في ولايته الأولى بفرض تعريفات جمركية انتقائية على الواردات الصينية وكذلك على الألواح الشمسية والصلب والألمنيوم من بلدان مختلفة حول العالم، أو ما إذا كان سيمضي قدماً في تنفيذ تهديداته الأخيرة بفرض تعريفات جمركية أقسى وأوسع نطاقاً. وإذا مضى قدماً في تنفيذ هذه التعريفات، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تقليص صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة بصورة حادة. وما يزيد الطين بلة أنه مع إغلاق السوق الأميركية أبوابها، ربما يعاد توجيه الصادرات الصينية إلى القارة الأوروبية، مما يهدد الإنتاج الصناعي المحلي ومجالات أخرى، ويخلق منافسة جديدة في أسواق خارجية أخرى للمنتجات الأوروبية. وعلى رغم أن المنافسة على الإنتاج الصناعي لن تشكل مشكلة في حد ذاتها للأسواق الأوروبية، فإن مزيج سياسات ترمب والاستجابة الصينية من شأنهما أن يغرقا السوق الأوروبية ويقوضا النمو لأعوام مقبلة.

ومن أجل تجنب الفوضى الاقتصادية، يتعين على المفوضية الأوروبية إعداد إستراتيجية قائمة على أربعة محاور. أولاً، عليها أن تحاول إقناع الولايات المتحدة من خلال التفاوض معها بتوسيع مشتريات الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي المسال وتقليل العقبات أمام التجارة عبر الأطلسي، بما في ذلك التعريفات الجمركية المزعجة والفروقات التنظيمية في الصناعات الحيوية مثل الصناعات الكيماوية والمنتجات الصيدلانية. ولكن في مجالات أخرى، ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يظل ثابتاً وحازماً. فقد ألمح جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي المنتخب، إلى استخدام تعريفات ترمب المقترحة كورقة ضغط للحصول على معاملة تنظيمية أكثر ملاءمة لشركات التكنولوجيا الأميركية. لكن يجب ألا تسمح أوروبا لإدارة ترمب بفرض تغييرات على رؤيتها التنظيمية لقطاع التكنولوجيا.

على أوروبا التزام دمج سوقها الموحدة التي لا تزال مجزأة للغاية

 

ثانياً، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يبتكر إستراتيجية انتقامية قابلة للتصديق لزيادة نفوذه في المفاوضات ومنع وقوع حرب تعريفات جمركية. ويمكن أن تساعد الإجراءات المضادة الموجهة بدقة، بما في ذلك الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية من الولايات المتحدة، في دفع الشركات الأميركية إلى ممارسة الضغوط على حكومتها للحدّ من التعريفات الجمركية. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعدّ قائمة بالإجراءات الانتقامية المحتملة، وأن يكون مستعداً لتنفيذها.

وثالثاً، يجب على أوروبا التزام دمج سوقها الموحدة التي لا تزال مجزأة للغاية، بخاصة في مجالات الخدمات والطاقة والتكنولوجيا وأسواق رأس المال، بهدف تعزيز الطلب المحلي وتحسين الإنتاجية. لكن أي إنعاش للاقتصاد الأوروبي ينبغي ألا يأتي على حساب الانتظام الاقتصادي في الخارج. لقد استفادت أوروبا إلى حد كبير من نظام التجارة المفتوح، ويجب أن ترفض النزعات الحمائية وتواصل توسيع مجموعتها المتنوعة من العلاقات الاقتصادية. وفي أوائل ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاق شراكة مع أحد أكبر التكتلات التجارية في العالم، السوق الجنوبية المشتركة، أو "ميركوسور" التي تضم الأرجنتين والبرازيل وبارغواي وأوروغواي. ويمهد هذا الاتفاق الطريق لتعزيز الفرص التجارية والاقتصادية فضلاً عن تعاون جيوسياسي وأمني ​​أكبر، بما في ذلك أمن سلاسل التوريد ومرونتها والمعادن الحرجة، فضلاً عن مكافحة إزالة الغابات وتغير المناخ على نحو أوسع. وينبغي لبروكسل أن تسعى إلى إبرام اتفاقات مماثلة مع كتل تجارية أخرى بما في ذلك الدول الأعضاء في "الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ". وإذا فرضت إدارة ترمب تعريفات جمركية عالمية، فيمكن للاتحاد الأوروبي العمل مع الدول المتضررة حول العالم، بما فيها الصين، لتجنب التصعيد من خلال الاتفاق على عدم فرض تعريفات على بعضها بعضاً.

اقرأ المزيد

ولكن في الوقت نفسه، يجب ألا تغفل أوروبا والولايات المتحدة عن حقيقة أنهما تتشاركان مصلحة دفع الصين إلى إعادة التوازن لاقتصادها وتقليص قدراتها التصنيعية الزائدة. وهما تسعيان أيضاً إلى تعزيز أمنهما الاقتصادي في مواجهة الأخطار السيبرانية الصينية وهيمنة بكين على سلاسل التوريد الخاصة بالمعادن الحرجة. لذلك يجب على صناع السياسات المالية والنقدية في أوروبا التواصل مع الإدارة الأميركية الجديدة من أجل مناقشة سبل التعاون لتقليل الاعتماد المفرط على الإمدادات الصينية في المجالات الحيوية للأمن القومي. كما يجب عليهما التفاوض مع الصين بصورة مشتركة للتأكيد على ضرورة تعزيز الطلب المحلي الصيني.

  الأخضر يعني التقدم

لقد تفاقمت أزمة المناخ العالمية منذ إدارة ترمب الأولى، عندما انسحبت الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ. وكمرشح في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، أكد ترمب مجدداً ازدراءه للأجندة الخضراء وأشار إلى أنه سيلغي القيود المفروضة على عمليات التنقيب عن النفط والغاز. وإذا لم تُبدِ الحكومة الأميركية الجديدة أي اهتمام بالتعاون في سياسات المناخ، فيجب على الحكومات الأوروبية مواصلة العمل على المستوى غير الفيدرالي من خلال الشراكة مع الولايات والشركات الفردية لتعزيز تطوير التقنيات الخضراء والحد من انبعاثات الكربون. وبغض النظر عن خطاب ترمب الانتخابي، من المرجح أن تتبنى الولايات الأميركية التي لديها استثمارات خضراء كبيرة، سواء كانت زرقاء [ديمقراطية] أو حمراء [جمهورية]، نهجاً عملياً، مفضلة استخدام التكنولوجيا الخضراء في القطاعات التي أصبحت فيها أقل كلفة من الوقود الأحفوري أو تلك التي باتت فيها مصادر الطاقة المتجددة أساسية لاستقرار شبكة الكهرباء، كما هي الحال في تكساس. وفي المناطق التي تولّد فيها الاستثمارات الخضراء وظائف جيدة، مثل جورجيا، حيث تسهم صناعة السيارات الكهربائية في تحريك عجلة التوظيف، من المرجح الحفاظ على التمويل، حتى لو سيطر الجمهوريون على حكومة الولاية.

ولكن يجب ألا تنسى أوروبا أن الحكومة الفيدرالية الأميركية لديها بعض المصالح المشتركة في مجال التكنولوجيا الخضراء مما يجعل الشراكة ممكنة. وإذا حاولت المفوضية الأوروبية التعاون مع الولايات المتحدة في مجال تأمين [ضمان استقرار] سلاسل التوريد الخضراء، خصوصاً لتقليل الاعتماد على المواد الخام الحيوية التي تحتكرها الصين بصورة شبه كاملة، فمن المرجح أن تكون إدارة ترمب أكثر انفتاحاً على هذه المبادرات.

القيم الأساسية

عندما انتخب ترمب عام 2016، كانت الموجة الأولى من الشعبوية الأوروبية بلغت ذروتها بالفعل. وبحلول الوقت الذي تولى منصبه، أصبح من الواضح أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي [بريكست] كان يقودها نحو كارثة اقتصادية، مما أضعف حماسة الدول الأوروبية الأخرى لفكرة الانسحاب من الاتحاد وأدى إلى تعزيز روح متجددة من الوحدة بين الدول الأعضاء الباقية. ومع ذلك، تتزامن إعادة انتخاب ترمب مع صعود جديد للشعبوية في أوروبا، مثلما يتضح من المكاسب التي حققتها الأحزاب اليمينية المتطرفة القومية في النمسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وسلوفاكيا، وأخيراً في رومانيا. ويسعى عدد من هذه الأحزاب إلى تغيير الاتحاد الأوروبي من الداخل من خلال إعادة فرض السياسات القومية في مجالات مثل الهجرة والأمن والمساهمات المالية في موازنة الاتحاد.

من حق الأوروبيين التصويت للأحزاب السياسية التي يختارونها، وبعض السياسات القومية تستحق مناقشة جادة. لكن لا بد من حماية المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية، مثل سيادة القانون ونزاهة الانتخابات التي تسعى أحزاب متمردة كثيرة في أوروبا إلى تقويضها. وإن ربط تمويل الاتحاد الأوروبي باحترام الأحزاب المهيمنة لسيادة القانون لا يكفي وحده لضمان صمود الديمقراطية. ولكن حالة بولندا التي أدى فيها هجوم حزب القانون والعدالة على النظام القضائي إلى امتناع الاتحاد الأوروبي عن صرف أموال التعافي من جائحة كورونا حتى تراجع الحكومة عن بعض أجزاء إصلاحاتها، تُظهر أنه يمكن أن يساعد في منع أو الحد من الانزلاق نحو الاستبداد.

إضافة إلى ذلك، سيتعين على الاتحاد الأوروبي تعزيز تنظيمه لوسائل التواصل الاجتماعي في سبيل منع الهجمات الهجينة التي يشنّها فاعلون خبيثون يسعون إلى التلاعب بالنقاشات والانتخابات الوطنية. ففي رومانيا، نشرت ملايين الحسابات المزيفة دعاية روسية على منصة "تيك توك" الصينية، مما جعل المحكمة الدستورية الرومانية تلغي في نهاية المطاف الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في البلاد. وكان مالك منصة "إكس"، إيلون ماسك الذي أصبح بسرعة شريكاً سياسياً لترمب، صريحاً في دعمه للأحزاب اليمينية المتطرفة في ألمانيا والمملكة المتحدة، مما أثار مخاوف من أن التلاعب المتعمد بخوارزمية "إكس" يعزز انتشار الآراء اليمينية المتطرفة. وعلى الاتحاد الأوروبي الرد على هذه القضايا من خلال سن قوانين تضمن عدم تمكن أصحاب المليارات في مجال التكنولوجيا والحكومات الأجنبية من طمس تنوع الآراء [وإسكات الأصوات المختلفة] على تلك المنصات.

قواعد جديدة للتعاون

خلال الأعوام الأربعة المقبلة، ستواجه الروابط التي تجمع بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اختبارات صعبة. وأي نهج أوروبي يقوم على محاولة الحفاظ على صيغة سابقة من العلاقات عبر الأطلسي محكوم عليه بالفشل. لكن يمكن لأوروبا والولايات المتحدة الاتفاق على الاختلاف، مع احترام الحساسيات الأساسية لبعضهما بعضاً، بخاصة في ما يتعلق بالدفاع والأمن. فالولايات المتحدة التي تعتمد النهج المعاملاتي [القائم على عقد الصفقات]، وتختار بصورة انتقائية مجالات التعاون مع أوروبا وتطالب بتنازلات في المقابل، ستظل توفر فرصاً كثيرة للتعاون المثمر.

ومع ذلك، من الممكن أن تقرر الولايات المتحدة أن تسلك طريقها الخاص. لذا، يجب على الدول الأوروبية أن تستعد لأي من السيناريوهين من خلال التركيز على تعزيز اقتصاداتها وأمنها. في الواقع، إن تعزيز نمو أوروبا وقدرتها على الصمود من خلال الاستثمار في أمن القارة ودمج الأسواق الأوروبية ودفع التحول الأخضر قدماً وحماية المعايير الديمقراطية وملء الفراغ القيادي الذي تتركه الولايات المتحدة من خلال تعزيز الشراكات مع دول العالم، خطوات يمكن اتخاذها سواء كان هناك شريك موثوق في واشنطن أو لا. فمهما حدث، ستستمر أوروبا والولايات المتحدة في تشارك مصالح متعددة. ويجب على الزعماء الأوروبيين أن يؤكدوا باستمرار على هذه الحقيقة من دون أن يغفلوا عن الفرص التي توفرها ربما مرحلة جديدة من تراجع الدور الأميركي.

 

أرانتشا غونثاليث لايا هي عميدة كلية باريس للشؤون الدولية في جامعة الدراسات السياسية "سيانس بو" (Sciences Po) ووزيرة خارجية إسبانيا السابقة.

كاميل غراند هو زميل متميز في مجال السياسات في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وأستاذ مشارك في كلية باريس للشؤون الدولية في جامعة الدراسات السياسية "سيانس بو"، وشغل منصب مساعد الأمين العام لـ"ناتو" من عام 2016 إلى عام 2022.

كاتارزينا بيسارسكا هي رئيسة منتدى وارسو للأمن ورئيسة الأكاديمية الأوروبية للدبلوماسية وأستاذة في كلية وارسو للاقتصاد.

ناتالي توتشي هي مديرة معهد الشؤون الدولية في روما وأستاذة في كلية الحوكمة العابرة للحدود في معهد الجامعة الأوروبية وزميلة في برنامج "مستقبل أوروبا" بمعهد العلوم الإنسانية في فيينا.

غونترام وولف هو أستاذ الاقتصاد في كلية سولفاي للاقتصاد بجامعة بروكسل الحرة وزميل بارز في معهد بروغل،  وشغل منصب مدير المجلس الألماني للعلاقات الخارجية من عام 2022 إلى عام 2024.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 6 يناير 2025

المزيد من آراء