ملخص
أكدت الحكومة الفرنسية أن نحو 110 مليارات يورو ستكون مخصصة للمشاريع الوطنية، معتبرة أن هذا المبلغ يعد استثماراً غير مسبوق، إذ ستسهم الاستثمارات الخاصة بنحو 109 مليارات يورو في تطوير الشركات والبنى التحتية الرقمية داخل فرنسا، بما يعزز التقدم في قطاع الذكاء الاصطناعي.
على مدى يومي الـ10 والـ11 من فبراير (شباط) الجاري تحولت العاصمة الفرنسية باريس إلى مركز عالمي للنقاش حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، من خلال استضافتها قمة "العمل في مجال الذكاء الاصطناعي"، إذ شهدت القمة حضوراً لافتاً من رؤساء دول وحكومات، وقادة منظمات دولية، وممثلين عن شركات كبرى وناشئة، إضافة إلى أكاديميين وباحثين وفنانين وممثلين عن المجتمع المدني من جميع أنحاء العالم.
مثلت القمة فرصة استثنائية لمناقشة تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل والمجتمع، واستكشاف كيفية وضع أسس دولية تضمن الاستفادة القصوى من هذه التكنولوجيا لتلبية حاجات الأفراد والمجتمعات.
لم تكن القمة الأولى من نوعها، إذ جاءت استكمالاً للقمم البارزة السابقة مثل "بلتشلي بارك" (نوفمبر "تشرين الثاني" 2023) و"سيول" (مايو "أيار" 2024)، ومن ثم استعرضت التقدم المحرز بفضل اللجنة القيادية التي تضم ممثلين عن 30 دولة ومنظمة دولية، مما يعزز التعاون الدولي في تحديد معالم مستقبل الذكاء الاصطناعي.
من خلال هذا الحدث تسعى فرنسا إلى تعزيز مكانتها كوجهة محورية على خريطة الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على قدرتها على التأثير في تطوير هذه التكنولوجيا في المستقبل. دبلوماسياً، تأمل باريس في التأكيد أن تلك التكنولوجيا ليست حصراً في الولايات المتحدة أو الصين فقط، بل إن لها أيضاً دوراً محورياً كدولة أوروبية وشريك دولي في هذا المجال، وفقاً لمصادر من الإليزيه.
"ميسترال أي آي" لاعب رئيس
خلال اليوم الأول من قمة الذكاء الاصطناعي، برز اسم "ميسترال أي آي" كأحد الأسماء البارزة التي أثارت الاهتمام بفضل نجاحاتها المتواصلة. ومع التقدم الكبير الذي تحققه هذه الشركة الناشئة بات من الواضح أنها أصبحت لاعباً رئيساً في هذا القطاع، وحققت مكانة مرموقة بين أبرز الشركات في المجال.
أعلنت "ميسترال" بناء مركز بيانات خاص بها، مما سيمكنها من تقليل اعتمادها على مزودي الخدمات الخارجيين، بخاصة الأميركيون، ويعكس هذا القرار تفكيراً بعيد المدى في مواجهة الأخطار الجيوسياسية المرتبطة بالسياسات الدولية والرسوم الجمركية، وهو جزء من إستراتيجيتها لتطوير حلول مستقلة وآمنة.
وأعلن رئيس الشركة، أرتور مينش، قبل افتتاح القمة أن المركز سيخصص له استثمار كبير بـ"مليارات اليوروهات"، وسيُنشأ في منطقة إيسون بجنوب باريس، وأضاف مينش "اخترنا فرنسا نظراً إلى جودة مزيج الطاقة لديها من جهة انبعاثات الكربون"، وفقاً لوكالة "الصحافة الفرنسية".
إضافة إلى إنجازاتها التكنولوجية البارزة، تمكنت "ميسترال" من إبرام شراكات إستراتيجية مع عدد من الشركات الكبرى، مثل "فيوليا" لتحليل المواقع الصناعية و"فرانس ترافاي" لدعم الباحثين عن عمل و"سيسكو" لتحسين العروض التجارية.
استثمارات ضخمة ومستقبل واعد
في سياق القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده "في قلب السباق" نحو التفوق في هذا المجال، مشيراً إلى أن فرنسا تمتلك جميع المقومات اللازمة لتحقيق النجاح، بدءاً من المواهب المميزة إلى البيئة الريادية المتكاملة، وأوضح قائلاً "نحن مستعدون للتطور ولدينا جميع الأدوات لتحقيق تقدم كبير".
من جهته، شدد وزير الاقتصاد الفرنسي إريك لومبارد على أهمية "تبسيط" الإجراءات اللازمة لنجاح مشاريع الذكاء الاصطناعي في البلاد، وأكد أن فرنسا تحظى بـ"مكانة مرموقة" في هذا القطاع، وأن توفير "بيئة اقتصادية مستقرة وقادرة على التنافس" يعد أساساً لدعم نمو الشركات، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدي دوراً رئيساً في الحفاظ على استقرار الموازنة الوطنية.
على الصعيد الأوروبي، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عن خطة ضخمة لاستثمار 200 مليار يورو في الذكاء الاصطناعي، معتبرةً أن "السباق بدأ للتو"، وأوضحت أن هذه الاستثمارات تهدف إلى تعزيز قدرة أوروبا على التنافس أمام المشاريع العملاقة التي تنفذها الولايات المتحدة والصين. وشددت على ضرورة ضمان "ذكاء اصطناعي آمن" من خلال إنشاء قواعد تنظيمية موحدة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
أثناء القمة، نفى الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أي آي" سام ألتمان، الإشاعات التي تحدثت عن بيع شركته، مؤكداً أنها "ليست للبيع". جاءت تصريحاته بعد تقارير إعلامية عن محاولات إيلون ماسك شراء الشركة المالكة تقنية "تشات جي بي تي" مقابل 100 مليار دولار.
وفي سياق متصل، حذرت شركة "سيمنز" من ضرورة ألا تفوت أوروبا "هذه الثورة التكنولوجية الجديدة". وأكدت رئيسة الشركة دوريس بيركهوفر، أهمية أن تكون أوروبا حريصة على استغلال هذه الفرصة التاريخية في ظل التقدم السريع لهذا المجال.
الذكاء الاصطناعي والابتكار والمسؤولية العالمية
أكدت قمة الذكاء الاصطناعي ضرورة وضع أسس علمية راسخة لإدارة هذه التكنولوجيا، بما يضمن استدامتها ويدعم التقدم الجماعي والمصلحة العامة، وحُددت ثلاثة أهداف رئيسة يجب على المجتمع الدولي السعي إلى تحقيقها:
أولاً، توسيع استخدام الذكاء الاصطناعي مع ضمان استقلاليته وأمنه وموثوقيته، ثانياً، تعزيز الابتكار من خلال تطوير تقنيات أبسط وأقل كلفة، مع مراعاة القضايا البيئية، وأخيراً، تأكيد أهمية وجود حوكمة شاملة من خلال تنظيم فعال يوازن بين الابتكار والتنظيم لضمان استخدامه بصورة مسؤولة تخدم المصلحة العامة.
استعرضت القمة مجموعة من القطاعات التي يوشك الذكاء الاصطناعي على إحداث تحول جذري فيها، ومن بينها قطاع الصحة، إذ سُلط الضوء على دوره في تحسين التشخيصات، وأتمتة المهمات الإدارية، وخصخصة العلاجات بما يتناسب مع حاجات المرضى، كذلك أُعلن عن إعداد خريطة طريق لتطبيق هذه التقنية في المجال الصحي.
وفي قطاع الصناعة استُعرضت الفرص التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لتحسين العمليات الإنتاجية، وتقليل الكلف، وزيادة الكفاءة التشغيلية عبر الصيانة التنبُّئية وتحسين سلاسل التوريد، كذلك ناقش المشاركون في القمة استخدام التكنولوجيا الجديدة لتعزيز الأمن السيبراني، من خلال اكتشاف التهديدات الإلكترونية في الوقت الفعلي.
في القطاع المالي رُكز على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة الخدمات المالية، من خلال الكشف الفوري عن الاحتيال وتحليل سلوك العملاء لتقديم خدمات مخصصة، وإضافة إلى ذلك، ناقشت القمة كيفية إحداث تحول في الصناعات الثقافية والإبداعية، من خلال تمكين إنشاء الأعمال الفنية وتأليف الموسيقى وكتابة السيناريوهات، ومع ذلك فإن هذه التغيرات تطرح تحديات أخلاقية مرتبطة بحقوق الملكية الفكرية، مما يستدعي إيجاد توازن بين حماية المبدعين وتعزيز الابتكار.
تأمين السيادة التكنولوجية
خلال اليومين اللذين شهدا فعاليات القمة أُعلن عن عدد من التطورات البارزة في مجال الذكاء الاصطناعي على المستوى الأوروبي، البداية كانت مع الكشف عن إنشاء تحالف أوروبي لتعزيز السيادة في هذا المجال، وذلك في إطار مبادرة "أبطال الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي". يضم التحالف 60 شركة رائدة مثل "إيرباص" و"سبوتيفاي" و"ميسترال" و"لوريال"، بهدف تعزيز استقلالية القارة الأوروبية في هذا المجال الإستراتيجي.
كما سُلط الضوء على أهمية تعزيز الرقابة التشريعية على الذكاء الاصطناعي، بإطلاق المعهد العام "إنسيا" الذي يهدف إلى مراقبة تأثيرات التكنولوجيا الجديدة في الأمن والسلامة البيئية على مستوى العالم، إضافة إلى ذلك، شُكل تحالف جديد من أجل تطوير الذكاء الاصطناعي المستدام بمشاركة الشركات التكنولوجية الكبرى.
وفي خطوة لافتة، وُقع إعلان "أخلاقي" من قبل كل من فرنسا والصين والهند، يدعو إلى الاستخدام المسؤول والمستدام لتقنيات الذكاء الاصطناعي، مع تأكيد ضرورة ضمان أن يكون هذا المجال مفتوحاً وشفافاً لمصلحة الإنسانية.
وفي السياق نفسه، أعلن قصر الإليزيه عن خطط استثمارية ضخمة في قطاع الذكاء الاصطناعي، إذ من المتوقع أن تتجاوز قيمة الاستثمارات في الأعوام المقبلة 300 مليار يورو، بهدف بناء مراكز بيانات حديثة وتعزيز الابتكار في تقنيات الذكاء الاصطناعي "المفتوح" والشامل.
وأكدت الحكومة الفرنسية أن نحو 110 مليارات يورو ستكون مخصصة للمشاريع الوطنية، معتبرة أن هذا المبلغ يعد استثماراً غير مسبوق، إذ ستسهم الاستثمارات الخاصة بنحو 109 مليارات يورو في تطوير الشركات والبنى التحتية الرقمية داخل فرنسا، بما يعزز التقدم في قطاع الذكاء الاصطناعي.
وتشارك دولة الإمارات العربية المتحدة بمبلغ يصل إلى 50 مليار يورو في مشروع استثماري طموح، يتمثل في إنشاء "حرم جامعي" مخصص للذكاء الاصطناعي، سيصبح الأكبر من نوعه في أوروبا ويشمل المشروع إنشاء مركز ضخم للبيانات بطاقة تصل إلى واحد غيغاواط.
وصرح الإليزيه بأن 35 موقعاً "جاهزاً للاستخدام" بمساحة إجمال تصل إلى 1200 هكتار، ستتصل بشبكة طاقية عالية القدرة، لتلبية الحاجات المتزايدة للطاقة في هذا القطاع المتنامي، على أن تُفعل ابتداءً من عام 2027.
60 دولة توقع اتفاقاً وسط غياب الولايات المتحدة وبريطانيا
اختتمت قمة الذكاء الاصطناعي بتوقيع نحو 60 دولة على بيان دولي مشترك، شدد على ضرورة ضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي مفتوحاً وشاملاً وشفافاً، مع التزام الأطر الدولية والمبادئ الأخلاقية في تطبيقاته، وقد ضمت قائمة الموقعين الصين، على رغم الجدل الذي أثارته منصة "ديب سيك" الصينية، المتهمة بممارسة الرقابة على القضايا الجيوسياسية.
وعلى رغم التوقيع الواسع من الدول غابت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عن التوقيع على الاتفاق، وهو ما لم يكن مفاجئاً لكثر، في خطوة أثارت الجدل انسحب نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، بعد إلقائه كلمته في القمة، متجاهلاً مداخلة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي دعت إلى تقليل القيود التنظيمية لدعم الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفي تصريح له، قال فانس "نعتقد أن التحيز الأيديولوجي ليس له مكان في الذكاء الاصطناعي"، منتقداً التدابير التي اتخذها مصممو الأنظمة للحد من التحيزات العنصرية والجنسية التي قد تظهر في هذه التكنولوجيا.
من جانبها، لم تقدم المملكة المتحدة تفسيراً رسمياً لغيابها عن التوقيع، لكن الحكومة البريطانية أكدت أنها ستوقع فقط على الاتفاقات التي تتماشى مع مصالحها الوطنية، وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر "لن نتوقع أن نلتزم مبادرات لا نراها في مصلحتنا الوطنية، صحيح أننا لم نتوصل إلى اتفاق في شأن جميع بنود الإعلان، لكننا سنواصل العمل مع فرنسا في مجالات أخرى".
تحديات وآفاق عالمية
تعد قمة باريس للذكاء الاصطناعي محطة حاسمة في إعادة رسم مستقبل هذا المجال، إذ تركز النقاشات على التوازن بين التقدم التكنولوجي ومتطلبات حماية البيئة والمجتمع، مع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي، يبرز القلق من تأثيره السلبي في البيئة، بخاصة مع متطلبات الطاقة العالية المرتبطة بالبنى التحتية الرقمية، في هذا السياق، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تبني "الذكاء الاصطناعي الأخضر"، وهو توجه يهدف إلى دمج التكنولوجيا مع الاستدامة البيئية.
من ناحية أخرى، يظهر غياب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عن التوقيع على البيان الختامي للقمة موقفاً مختلفاً يتسم برفض القيود التنظيمية الصارمة، في المقابل تسعى دول مثل الصين وفرنسا والهند إلى وضع إطار تنظيمي يضمن الاستدامة البيئية والأخلاقيات، مما يعكس اختلافات واضحة في الرؤية العالمية في شأن الذكاء الاصطناعي، هذه الانقسامات قد تؤدي إلى بيئات تنظيمية متنوعة تؤثر في الابتكار وتطوير التقنيات في المستقبل.
مع اختتام القمة، أعلن رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، عن استضافة بلاده النسخة المقبلة، مما يعكس طموح الهند الكبير في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ تعمل على تحقيق "الاستقلالية التكنولوجية" وتعزيز مكانتها كداعم رئيس للابتكار العالمي، بخاصة في ظل وجود أكثر من 200 شركة ناشئة في هذا القطاع، من المتوقع أن تكون القمة المقبلة نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من التعاون الدولي وتعميق القدرات التكنولوجية للهند.
أوروبا: خطوة نحو الريادة
لم تكن قمة باريس مجرد حدث تقني، بل كانت بمثابة إعلان قوي عن عزيمة أوروبا في تثبيت مكانتها كقوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال استثمارات ضخمة ومشاريع إستراتيجية، تسعى فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى فرض أنفسهم ككتلة ثالثة إلى جانب الولايات المتحدة والصين. وعلى رغم الانقسامات الواضحة التي برزت في القمة، مثل غياب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عن التوقيع، فإن أوروبا تستمر في السعي إلى قيادة هذه الثورة التكنولوجية بصورة "أخلاقية" و"ديمقراطية".
السباق نحو ريادة الذكاء الاصطناعي بات أكثر تنافسية من أي وقت مضى، ولا تملك أوروبا رفاهية الوقت، فالتحالفات الجديدة والإستراتيجيات الطموحة قد تضع القارة العجوز في موقع متقدم، لكن التحديات الاقتصادية والبيئية والتشريعية تظل قائمة، مما يتطلب تعاوناً عالمياً لضمان أن الذكاء الاصطناعي سيكون في خدمة البشرية وليس تهديداً لها.