ملخص
تشكل العادات السودانية المتمثلة في الزي والأعراس والمآتم جزءاً أساسياً من حياة الفرد، ففي حفلات الزفاف لا تزال النساء يحرصن على مراسم "الجرتق" و"قطع الرحط" ووضع الحناء، إلى جانب الغناء على أنغام "الدلوكة" (آلة إيقاع شعبي)، حتى في دول النزوح مثل مصر وتشاد والسعودية وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان، أما في بيوت العزاء، فلا تزال هناك طقوس معينة تمارس، مثل تقديم القهوة والشاي بطريقة تقليدية، وترديد الأذكار الجماعية.
نزاعات وحروب أجبرت الملايين من السودانيين على النزوح واللجوء، تاركين وراءهم إرثهم الثقافي والفني والأدبي، وعاداتهم وتقاليدهم التي لم تكن وليدة اللحظة، بل تحكي قصة سنوات طويلة من الحضارة.
تركت حرب 15 أبريل (نيسان) 2023 السودانيين أمام تحد كبير يتمثل في الحفاظ على العادات والتقاليد التي تشكل هوية المجتمع السوداني، وعلى رغم قسوة التهجير حمل جزء كبير منهم هذا الإرث على أكتافهم إلى بلاد المهجر، بينما قرر آخرون التخلي عنه.
تشكل العادات السودانية المتمثلة في الزي والأعراس والمآتم جزءاً أساسياً من حياة الفرد، ففي حفلات الزفاف لا تزال النساء يحرصن على مراسم "الجرتق" و"قطع الرحط" ووضع الحناء، إلى جانب الغناء على أنغام "الدلوكة" (آلة إيقاع شعبي)، حتى في دول النزوح مثل مصر وتشاد والسعودية وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان.
أما في بيوت العزاء، فلا تزال هناك طقوس معينة تمارس، مثل تقديم القهوة والشاي بطريقة تقليدية، وترديد الأذكار الجماعية.
روابط اجتماعية
في هذا الصدد، يقول الباحث الأكاديمي في الموسيقى والتراث، الأمير النور إبراهيم، لـ"اندبندنت عربية" إن "التراث يعتبر من أهم منتجات الفكر الإنساني التي تسهم في ترسيخ وتقوية الروابط المجتمعية وتوحيد وجدان الأمة، فالتراث والعادات والثقافة مفردات ذات قيمة كبيرة، تسهم في كشف مجاهل النفس الإنسانية، وإشعال روح التسامح والترابط المجتمعي".
وتابع قوله "يجب علينا الاهتمام بقيم التراث والثقافة والعادات سواء كانت مادية أو شفهية أو طبيعية، من خلال صونها وحفظها وتطويرها، ورفع مستوى الوعي العام بمختلف القضايا الاجتماعية والثقافية، واستخدام الفنون والموسيقى لتحقيق هذه الأهداف، لأن التراث يسهم في بناء الوطن، ويلعب دوراً كبيراً في تحقيق السلام".
ويضيف إبراهيم "عندما يهاجر الفرد من موطنه إلى مكان آخر، يترك وراءه أشياء كثيرة، بخاصة تلك التي ورثها عن الآباء والأجداد، مثل الأواني وأدوات الزينة والفخار، وكذلك الحلي والأزياء والتماثيل، وهذه أشياء لا يستطيع الإنسان حملها أثناء الهجرة، حتى التراث المعنوي مثل القصص والأحاجي والأغاني الشعبية، يكون معرضاً للنسيان في ظل النزوح والتهجير، فعلى سبيل المثال، لا يستطيع إنسان دارفور حمل ’النقارة‘ (وهي آلة موسيقية) أثناء نزوحه، مما يمنعه من ممارسة رقصاته الشعبية، وهذا يؤدي إلى اندثار هذا التراث والعادات، كما أن ممارسة العادات التراثية تحتاج إلى توافر الأمن والسلام والاستقرار وهي أمور لا تتوافر إلا في المناطق الأصلية".
وأوضح "لقد أثرت الحرب في العادات والتقاليد، فعلى سبيل المثال، حدث انكماش في الكرم السوداني بسبب ضيق ذات اليد وتأثر الناس بالظروف الصعبة، مما أدى إلى تراجع ممارسة الكرم الذي اشتهر به السودانيون".
ويبين إبراهيم "من وسائل الحفاظ على التراث إقامة المهرجانات والفعاليات والمنتديات، وكذلك المعارض والمحاضرات وورش العمل، إضافة إلى متابعة المنظمات التي تحمي هذا التراث، سواء كان مادياً محسوساً مثل المتاحف والمعابد والقصور والمباني، أو منقولاً مثل القطع الأثرية واللوحات الفنية، أو شفهياً مثل القصص والأغاني الشعبية".
ودعا المتحدث إلى صون التراث ومعالجته، وتقديم الدعم النفسي للأطفال المتأثرين بالحرب، ورتق النسيج الاجتماعي، والمحافظة على الفرق الشعبية مثل فرق "الكمبلة" و"النقارة"، ومن الضروري إحداث تحول في الفنون، بحيث "يظهر فن وطني نضالي ملحمي يؤسس لمرحلة جديدة ويدعو إلى السلام والتعايش السلمي، بحيث تشكل الفنون خطاباً جمعياً يقود إلى الوحدة"، وفق قوله.
صون التراث
ويرى الباحث الأكاديمي أنه "لا بد من صون التراث ونقله إلى الأجيال القادمة، حيث يمكن أن تشكل الثقافة والفنون مخرجاً من هذه الأزمة، لأن الفن لغة سامية تفهمها الشعوب جميعاً، كما أن للتراث دوراً كبيراً في قضايا التنمية ونشر الوعي في المجتمع، ويمكن تحقيق ذلك من خلال ورش العمل الفنية المفتوحة في الأحياء الشعبية بالمدن الكبيرة، مما يشجع الناس على المشاركة في الأنشطة الفنية والاجتماعية، كما يجب أن يكون لكل فنان ومثقف دور وطني تجاه قضايا مجتمعه، وينبغي للدولة أن تدعم المنظمات المجتمعية التي تعنى بالحفاظ على التراث".
واستطرد المتحدث أن السودانيين لا يزالون يمارسون عادات كثيرة حتى في المهجر، مثل "الختان الفرعوني" و"الجرتق" و"السماية"، وكذلك الحنة و"قطع الرحط" والغناء على أنغام "الدلوكة" المرتبطة بالأفراح، لافتاً إلى أن هذه العادات تعد جزءاً أصيلاً من التراث الشعبي، وقد ظهرت منذ القرن الـ16 مع قيام مملكة الفونج.
وختم إبراهيم بالقول إن السودانيين لا يزالون متمسكين بالأكلات الشعبية مثل "ملاح الويكاب" و"البليلة" و"الدبة" وكذلك السمسم و"التركين" و"الموليتا"، إلى جانب المشروبات التقليدية مثل "مديدة الدخن" و"عصير القنقليز" و"العرديب"، أما على صعيد المنازل، فلا يزال استخدام "العنقريب" و"البروش" وأدوات الزراعة المختلفة شائعاً، كما أن الرقصات التقليدية لا تزال تمارس، مثل رقصة "المردوم" في كردفان، و"النقارة" في دارفور، و"الهوسيب" في شرق السودان، والقفز لأعلى في بعض المناطق.
بساطة وتنوع
في حين يوضح الباحث في التراث وتاريخ السودان، عباس أحمد الحاج بأنه "على رغم تأثير الهجرة والنزوح على المجتمعات، إلا أن السودانيين يملكون ثقافة قوية تجعلهم أقل تأثراً بالمجتمعات التي ينتقلون إليها، بل من المتوقع أن يؤثروا على هذه المجتمعات، فالإرث السوداني عظيم جداً ومقبول لدى كل الشعوب، لما يتميز به من بساطة وعمق وتنوع، كما أن الشعب السوداني ليس سريع التأثر بالثقافات الجديدة، وحتى إن تأثر، فسيظل التأثير محدوداً".
ويضيف الحاج "كل من زار السودان أعجب به، حتى في الثقافة والفنون والرقص، حيث يؤثر السودانيون في الشعوب الأخرى، ونرى مظاهر التأثير في المجتمع المصري وفي السعودية والإمارات وعمان وحتى في أميركا، لذلك لا يوجد خوف على التراث السوداني بل سيظل محفوظاً".
طقوس الأفراح
ومع النزوح الكثيف للسودانيين إلى دول الجوار بخاصة مصر انتشرت محلات المأكولات الشعبية وبيع الأزياء السودانية وغيرها من التراثيات الشعبية، وتقول المواطنة السودانية نسرين مرزوق أورتشي "تنتشر هنا في القاهرة المنتجات السودانية بكثرة، لكن المشكلة أن الأسعار مرتفعة، وعلى رغم ذلك فإن الطلب عليها كبير لأنها مرغوبة ومرتبطة بالوجدان والمشاعر، ويلحظ أيضاً إقبال بعض المصريين على تلك المنتجات مثل الحناء السودانية وأدوات الزينة النسائية".
ويعتبر طقس "الجرتق" الذي يقام في الأفراح، من أكثر العادات السودانية شهرةً وانتشاراً، ولا تزال الأعراس المقامة خارج السودان متمسكة بهذا الطقس، فضلاً عن عادة رقص العروس، التي تعد من الطقوس القديمة المتجددة وتحظى برواج كبير بين الأجيال الجديدة.
وبحسب المواطنة أسمهان عيسى كان "الجرتق" في الماضي جزءاً أساسياً من مراسم الزواج، حيث نحضر الصحن وهو ممتلئ بالعطور والمحلب والصندل، ويرتدي العريس والعروس الثياب الحمراء والحريرية طلباً للبركة والحماية.
وتوضح عيسى أنه على رغم تمسك الأجيال الجديدة بهذه الطقوس حتى الآن، لكن بشكل عام أصبح مرتبطاً بالمظهر الاجتماعي والاستعراض، بعيداً من التفاصيل الأخرى، حتى رقص العروس أصبح يعبر عن الثراء، لكن استمراره أفضل من اندثاره حتى وإن كان دافعه الاستعراض فقط.