ملخص
يتحلى الطيار السوري الططري بالشجاعة والصبر والحكمة، كيف لا وهو صاحب أطول مدة اعتقال، وهو من قال "لا" لأوامر عسكرية بقصف المدن والمدنيين، ليس هذا وحسب، بل حرض الطيارين من أصدقاء مقربين له على معارضة قصف الناس الأبرياء، وفضل اللجوء إلى الأردن على إلحاق الأذى بأهل بلده.
يطلق عليه عميد الأسرى السياسيين في سوريا، وصاحب أطول مدة اعتقال خلال حقبة حكم نظام الأسد، إنه الطيار السوري العميد رغيد ططري الذي أطلق سراحه من المعتقل عشية سقوط رئيس النظام السابق بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي.
يتحلى الطيار السوري الططري بالشجاعة والصبر والحكمة، كيف لا وهو صاحب أطول مدة اعتقال، وهو من قال "لا" لأوامر عسكرية بقصف المدن والمدنيين، ليس هذا وحسب، بل حرض الطيارين من أصدقاء مقربين له على معارضة قصف الناس الأبرياء، وفضل اللجوء إلى الأردن على إلحاق الأذى بأهل بلده.
جماعة "الإخوان المسلمين"
ولد في العاصمة دمشق عام 1955 وبات طياراً في سلاح الجو السوري، بعد التحاقه بالقوات الجوية في عمر العشرينيات، ومع تدرجه بالرتب العسكرية اندلعت أحداث جماعة "الإخوان المسلمين"، وانتفضت المدن السورية، ومنها مدينة حماة في وجه النظام، فقابلهم حافظ الأسد (حكم بين عام 1970 حتى عام 2000) بالنار والبارود.
وعلى إثرها تعرضت المدينة الواقعة وسط البلاد إلى مجازر مروعة استخدم فيها الأسد وشقيقه رفعت الذي كان يقود آنذاك ما يسمى "سرايا الدفاع" الذراع الأمنية والعسكرية الأكثر بطشاً للنظام آنذاك، أشد أنواع الأسلحة فتكاً، ومن ثم امتدت يده إلى الطائرات، ووصل به الأمر إلى حدود إعطاء أوامر بقصف المدن لإفشال التمرد والعصيان المدني في وجه النظام الحاكم.
في الأثناء كان الطيار الططري برتبة رائد بالقوات الجوية، وأعلن عصيانه الأوامر، وحرض رفاقه الطيارين بالأمر نفسه أيضاً.
توسع المعارك في المدن السورية
يروي عميد المعتقلين السوريين الططري لـ"اندبندنت عربية" تفاصيل ما شهده في تلك الفترة التي سبقت اعتقاله، ومناداته الحثيثة لجميع رفاقه من الطيارين بعدم ضرب المدن، ومعارضة تنفيذ مهام قصف مناطق مأهولة بالسكان، وفي حال رفض الأمر ليس لديه ولدى رفاقه إلا اللجوء إلى دول حدودية مثل (الأردن أو العراق)، خصوصاً في ظل وجود سوابق مثل الطيارين محمود ياسين وأحمد ترمانيني اللذين التجآ إلى العراق، كل على حدة، بحسب قوله، رفضاً لأوامر من القيادة العسكرية بقصف "تل الزعتر" (جبل لبنان) حينما دخل الجيش السوري إلى لبنان.
في غضون ذلك، توسعت المعارك في المدن السورية، وكان أقساها في مدينة حماة لأنها "آخر المعارك، فاقتحموها بالدبابات والطيران، والوحدات الخاصة. كانوا من أجل القضاء على مقاتل ضدهم، يهدمون بناء كاملاً فوق رؤوس أصحابه بالمدفعية والدبابات، طبعاً أهل حماة عانوا كثيراً، واستشهد كثر".
يضيف الطيار الططري راوياً، من أحد المقاهي الشعبية في حي الروضة الدمشقي، قصصاً عن مجريات معركة حماة "يعتقلون الشباب ويضعون وجوههم إلى الحائط ويطلقون عليهم النار بصورة جماعية، ويضعون قسماً منهم بالمعسكرات المسيجة بالأسلاك الشائكة". هناك عساكر رفضوا إطاعة الأوامر، فأصدر بحقهم حكم الإعدام الميداني، ليسوا فقط من الطيارين بل من القوات البرية، لكن عدداً قليلاً جداً عصا الأوامر لأن الذي يفعل ذلك سينتهي".
ملاحقة من قبل المخابرات الجوية
واعتقل الططري عام 1981 بعد ملاحقة من قبل المخابرات الجوية، ولم يكن في ذلك الوقت للمخابرات الجوية فرع خارج البلاد، ولهذا تولت للمخابرات الخارجية متابعته، والتحقيق معه خارج سوريا ليحال في ما بعد إلى أمن الدولة أي "المخابرات العامة"، وظل في معتقلاتها حتى الشهر الأول من عام 1985 بعدها انتقل إلى سجن المزة العسكري وكثر من السوريين لا يعرفون هذا السجن الأقرب إلى محكمة ميدانية.
ويسرد الططري رحلته بين الأقبية والسجون والمعتقلات السياسية من مكان إلى آخر حتى حكمت عليه المحكمة، وبقي فترة سنة ونصف السنة بسجن المزة، ثم انتقل إلى معتقل تدمر وبقي فيه من عام 1985 إلى عام 2001، قرابة 15 عاماً، ومن معتقل تدمر إلى سجن صيدنايا من عام 2001 إلى عام 2011.
عميد المعتقلين السوريين
ويتابع عميد المعتقلين السوريين "في المحكمة الميدانية، انتزعوا بصمة يدي على ورقة فيها اعتراف لم أقرأ ما جاء فيه، ولم يسمحوا لي بقراءة ما تضمنه، وذلك في عام 1986، حتى عرفت ما جاء به بعد 30 سنة، وكان إفشاء معلومات ووثائق مؤتمن عليها بسبب غير مشروع، وبدأت أطالبهم من طريق المحامي ما هي الدولة وما هي الأدلة التي لديهم؟ من دون رد".
ويروي الطيار رغيد الططري الفترات الصعبة في المعتقلات، ولعل أشهر وسائل التعذيب كانت ما قبل التصفية، وأكثرها عنفاً هي التقطيع بالفأس، إذ شاهد في غرفة التحقيق فأساً حديدية جديدة، علم لاحقاً أن المحققين قطعوا بواسطتها أصابع أحد السجناء، ويؤكد هذه الحادثة شهود ذكر أسماءهم.
"وهناك وسيلة تعذيب أخرى، بوضع البيضة المسلوقة الحارة تحت إبط السجين، وما يرافق ذلك من حرق شديد"، وغيرها من وسائل التعذيب.
أصعب فترة تعذيب
ويرى الطيار الططري أن أصعب فترة تعذيب كانت في معتقل تدمر "إن التعذيب مرفوض كفكر، وإذا تجاوزنا، ولا أقول أؤيد، أنه في فترة التحقيق يريدون أن يمارسوا التعذيب لينتزعوا المعلومات، لكن في معتقل تدمر كانت الغاية التعذيب والتصفية الجسدية، والذي لا يموت تجده غير متوازن، كثر يعتقدون أن الناس الذين يتكلمون عن التعذيب يبالغون، لا، إنهم لا يبالغون"، ويتابع "لقد مررت بمختلف أنواع التعذيب، ومكثت شهرين بالمستشفى حتى أتجاوز فترة الموت، وبقيت أكثر من سنة حتى شفيت، إحدى مرات التعذيب كنت معلقاً على جدار، وكانت لدي مشكلة أثناء التعذيب أنني لا أصرخ طوال فترة التعذيب رغم الألم، ومهما كان التعذيب قاسياً لا يغمى علي، وكانت هذه مشكلة بالنسبة إليّ إذ يعدون الأمر تحدياً بالنسبة إليهم".
العودة إلى الحياة التي تغيرت كثيراً
ويحاول الطيار الططري العودة إلى الحياة التي تغيرت عليه كثيراً، في المعتقل كان يتابع الأخبار، وكان مع كل خبر عن صدور عفو عام، خلال عقود حكم عائلة الأسد، كان لا يتفاءل ويقول للسجناء "لن يطلقوا سراحنا. وإن أطلقوه سنعود، نريد الحرية الأبدية". واستشعر الططري من معتقله الأخير في سجن طرطوس، غرب سوريا، ومن خلال متابعته الأخبار أن الحرية قادمة حينما بدأت تتساقط المدن السورية الواحدة تلو الأخرى إلى أن فتح باب السجن وعاد الطيار الططري ليلتحق، كطائر حر، في فضاء سوريا الجديدة.