ملخص
يواجه الحزب الجمهوري، بفضل نفوذ حركة "ماغا" وسياسة ترمب، اتهامات بالتقارب مع روسيا، خصوصاً بعد المشادة مع زيلينسكي، مما يعكس تحولاً جذرياً في مواقفه من العداء السابق للكرملين إلى تبني مواقف تتماشى مع أجندة بوتين في السياسة الدولية.
مثّل هجوم دونالد ترمب على الرئيس الأوكراني في المكتب البيضاوي الشهر الماضي ما بدا أنه إعادة اصطفاف علنية لأميركا وتحديداً ابتعادها عن أوروبا وتقربها من روسيا بطريقة لم تكن لتخطر على بال كثيرين خلال سنوات الحرب الباردة.
فالحزب الجمهوري الذي تسيطر عليه حركة "ماغا" المؤيدة لترمب والتي ترفع شعار "أميركا أولاً" كان يعتبر الاتحاد السوفياتي السابق في مرحلة من المراحل خلال عهد رونالد ريغان "إمبراطورية الشر" ويتطلع لانهياره.
أما اليوم، فالحزب نفسه متهم بترديد خطاب فلاديمير بوتين فيما يرفض البعض حتى الإقرار بأن موسكو هي التي بدأت الحرب باجتياح جارتها.
وفي هذا الإطار، أطلق السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي على البيت الأبيض لقب "ذراع الكرملين"، في خطوة تعكس هذا التحول المفاجئ بعد أسابيع قليلة من بدء الولاية الرئاسية الثانية لقطب العقارات الفاخرة.
وعقب ما حدث مع زيلينسكي، قال ميرفي لبرنامج "حال الأمة" State of the Union الذي يُعرض على قناة "سي أن أن"، "كل يوم، تسمع من أفواه مستشار الأمن القومي ورئيس الولايات المتحدة، وكل أعضاء فريق أمنه القومي، حججاً يروجها الكرملين".
لربما الإشارة الأكثر فداحة هي تقييم الناطق الخاص باسم بوتين نفسه، دميتري بيسكوف، للوضع، إذ قال وهو يبتسم على شاشة التلفزيون الرسمي "إن الإدارة الجديدة تغير بسرعة كل أساسات السياسة الخارجية. وفي هذا توافق كبير مع رؤيتنا للأمور".
إن أعدنا النظر في الأحداث، نجد أن المشادة مع زيلينسكي التي تلاها مسارعة البيت الأبيض لإيقاف جميع المساعدات الأميركية لأوكرانيا والمطالبة باعتذار علني مقابل مفاوضات السلام بشروط ترمب، مثّلت الذروة وليست تطوراً مفاجئاً.
فلطالما احتفى هذا الرئيس بالزعماء الاستبداديين مثل بوتين والصيني شي جينبينغ والمجري فيكتور أوربان والكوري الشمالي كيم جونغ أون، معتبراً أنهم "أقوياء" و"أذكياء" ومقراً بمشاركتهم الميل نحو السلطة وتشابه مقاربتهم للعلاقات الدولية على أساس المنفعة المتبادلة. لكن الزعيم الروسي هو أكثر الشخصيات التي أرخت بظلها الثقيل على مشروع ترمب السياسي.
ولطالما كان رأي أمثال ستيف بانون، الذي شغل في وقت من الأوقات منصب كبير مخططي الاستراتيجيات في إدارة ترمب وأثر بشكل كبير في تفكير حركة "ماغا" حتى يومنا هذا، أن روسيا بوتين ليست دولة فاسدة وقمعية تديرها عصابات تسعى إلى إضعاف المؤسسات الديمقراطية، بل دولة بيضاء ومسيحية ومحافظة تعترض على القيم الاجتماعية التقدمية التي يناصرها الليبراليون في أوروبا الغربية وأميركا الديمقراطية.
وهو شيء صرح به بانون منذ وقت بعيد عام 2014 حين قال لجمهوره إن بوتين قد يكون "حاكماً لصاً" و"إمبريالياً" بالفعل، لكن "التقليديين" أمثاله "يؤمنون [بأنه] يدافع عن المؤسسات التقليدية على الأقل وأنه يحاول فعل ذلك في قالب من القومية- وأعتقد أن الناس يريدون أن يروا سيادة في دولتهم، ولا سيما في بعض البلدان. وأنهم ينشدون القومية في بلادهم".
لا شك في أن بوتين تنبه إلى هذا الكلام وتحرك باتجاه مغازلة اليمين الأميركي، فرحب، على سبيل المثال، بزيارة وفد من الرابطة الوطنية الأميركية للأسلحة.
وكان النفوذ الروسي على الساحة الدولية موضوعاً مهيمناً على السباق الرئاسي عام 2016 بين ترمب وهيلاري كلينتون- بعد سنتين من بداية توغل بوتين في أوكرانيا- حين اتُهم الكرملين بمحاولة التأثير على عناصر جمهوريين من أجل إعادة انتخاب ترمب، ونُشر "ملف ستيل" [نسبة إلى ناشره كريستوفر ستيل وهو يتعلق بالتعاون المزعوم بين روسيا وترمب خلال حملته الرئاسية عام 2016] سيئ الذكر الذي زعم وجود "كومبرومات" Kompromat [تعبير روسي يعني "معلومات مسيئة" عن شخص أو كيان ما، يمكن استخدامها للدعاية السلبية أو الابتزاز] متعلق بالمرشح.
وقد تفاقمت هذه الشكوك بعد فترة وجيزة من دخول ترمب البيت الأبيض، حين ظهر أن نجله دونالد ترمب جونيور وصهره جاريد كوشنر ومدير حملته الانتخابية بول مانافورت شاركوا في اجتماع عُقد داخل برج ترمب في يونيو (حزيران) 2016 مع محامية روسية عرضت عليهم إعطاءهم "معلومات مسيئة" عن كلينتون.
وقد عُين المستشار الخاص لمكتب التحقيقات الفيدرالي، روبرت مولر، للتحقيق في علاقات الحملة الانتخابية المزعومة بموسكو، فوضع في نهاية المطاف تقريراً لم يصل إلى حد المطالبة صراحة بتوجيه الاتهام للرئيس لكنه لم يبرئه كذلك، وهي محنة استحضرها ترمب خلال توبيخه لزيلينسكي.
وقال بغضب "دعني أخبرك، بوتين مرّ بجحيم كبير معي – لقد مررنا بتحقيق زائف عندما استخدموه في قضية روسيا، روسيا، روسيا، روسيا"، مضيفاً "[بوتين] اضطر إلى تحمل ذلك. وقد تحمله. ولم ننتهِ بحرب. وقد تحمله. لقد اتُهم بكل تلك الأمور. ولم يكن له أي علاقة بها".
في يوليو (حزيران) 2017، بعد شهر من بداية تحقيق مولر، لحظ جيمس كيرتشك من مؤسسة بروكينغز ما كشفه استطلاع آراء أجرته شركة "مورنينغ كونسلت" Morning Consult عن أن 49 في المئة من الجمهوريين يرون موسكو حليفاً.
واتهم كيرتشك الحزب بزعامة ترمب، بأنه يتحول "إلى شريك" لبوتين "برضاه"، معرباً عن اشمئزازه من رفض الحزب الظاهري للتفكير في السبب الذي قد يجذب الكرملين إلى هذا الحد لزعيمهم القابل للتأثر.
وجاء أبلغ حدث عبر عن هذا الرأي عندما التقى ترمب ببوتين في قمة هلسنكي في يوليو (تموز) 2018، ونجح الرئيس الروسي في إقناع نظيره بأنه لم يتدخل أبداً في الانتخابات ما دفع بالقائد العام إلى الانحياز علناً إلى العنصر السابق في الاستخبارات السوفياتية ومعارضة وكالات استخباراته الخاصة.
مثل جورج بوش الابن قبله، نظر ترمب في عيني بوتين ورأى رجلاً اعتقد أنه يمكنه التعامل معه.
ولعب زيلينسكي أيضاً دوراً مهماً، وإن كان غير مقصود، في الولاية الأولى لترمب. فقد أدت شكوى مُبلّغ عن المخالفات إلى إشعال شرارة أول مساءلة للرئيس الأميركي، بعدما كشف عن تقديمه لزيلينسكي عرضاً يقوم على المقايضة، حيث طلب منه فتح تحقيق لإزعاج جو بايدن وابنه هانتر بايدن بشأن أنشطتهما في أوكرانيا، وإلا فسيتم حجب شحنة مساعدات عسكرية بقيمة 400 مليون دولار كانت قد أُقرت من قبل الكونغرس.
وفيما أصر الرئيس على براءته، لكن من الجلي أنه لم ينسَ الدور الذي لعبه زيلينسكي في الموضوع، ولا غفر له، تماماً كما لم تتخط حركة "ماغا" هوسها بنظريات المؤامرة المتعلقة بهانتر.
ربما بدأ تماهي ترمب شخصياً مع بوتين، الذي نشأ من إعجاب ونقمة على حد سواء، بين عامي 2016 و2019 لكن حب الجمهوريين لروسيا سبق فترة وصوله إلى سدة الرئاسة، وقد استمر في غيابه كذلك، ونما مع اندلاع الحرب حين كان ترمب منعزلاً في مارالاغو بعد خسارته انتخابات 2020 والأحداث المعيبة يوم السادس من يناير (تشرين الثاني) [اقتحام مبنى الكابيتول].
في عام 2022، غردت عضو الحزب الديمقراطي سابقاً تولسي غابارد التي أصبحت مديرة الاستخبارات الوطنية في ظل ترمب اليوم، قائلةً إن النزاع لم يكن لينشب لو "اعترف بايدن والناتو ببساطة بهواجس روسيا الأمنية المشروعة"، فيما عبر نائب الرئيس المستقبلي جي دي فانس عن لامبالاته باحتمال هزيمة كييف، وسافر تاكر كارلسون لإجراء مقابلة شخصية مع بوتين فيما كالت النائب الشعبوية عن ولاية جورجيا، مارجوري تايلور غرين، المديح لنظامه بسبب "حمايته الدين المسيحي".
بعد إخراج آخر المعارضين لحكم ترمب من الحزب الجمهوري، أمثال ليز تشيني وميت رومني وآدم كينزينغر، أصبح الحزب في قبضة حركة "ماغا" بالكامل ولم يبق فيه أي عضو يمكنه مساءلة الاتجاه المؤيد لروسيا.
أما في حالة توبيخ ترمب لزيلينسكي، الحليف الديمقراطي الذي عادة ما يُحتفى به باعتباره بطلاً، فقد صفق أمثال لورين بوبيرت وتيد كروز وتيم بيرشيت وليندساي غراهام للرئيس، تماماً كما فعل الخبراء اللطفاء على محطة "فوكس نيوز" وسط غياب أي صوت معارض من الجانب الجمهوري.
كذلك كتب أليكسي باير في مجلة "ذا غلوباليست" The Globalist العام الماضي منتقداً مزاعم التوجه الوطني لحركة "ماغا" "في الحقيقة ترفض ’ماغا‘ أميركا المعاصرة. وتكره تنوعها واحترام حقوق الأقليات وتسامحها وتحن إلى ماضٍ مبهم المعالم".
© The Independent