ملخص
تعتمد الصين على إستراتيجية القوة الناعمة في علاقاتها مع الدول الأفريقية، إذ توظف المساعدات والمعونات في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز حضورها.
تواجه القارة الأفريقية ظروفاً إنسانية واقتصادية سيئة على إثر الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم تنصيبه في الـ 20 من يناير (كانون الثاني) الماضي، بتجميد تمويل "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" لـ 90 يوماً، مما أدى إلى تعطيل كثير من الأنشطة الحيوية في أفريقيا، وكانت "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" التي أسسها الرئيس جون إف كينيدي عام 1961 لمواجهة النفوذ السوفياتي خلال الحرب الباردة في ذروة الصراع الأميركي - السوفياتي، أكبر مانح منفرد للمساعدات في العالم، وشملت مجالات التعليم وحقوق الإنسان والاستدامة البيئية والصحة والنمو الاقتصادي في البلدان المتضررة من النزاعات والتخلف وتعزيز المشاركة الديمقراطية والحوكمة، والاستجابة لحالات الطوارئ الإنسانية والكوارث.
وشمل قرار ترمب المساعدات الإنمائية والإنسانية الموجهة لأفريقيا مما ترك منظمات الإغاثة في حال فوضى وأحدث صدمة وقلقاً، وعلى رغم تعديل الأوامر للسماح بإعفاءات لـ "المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة" لكن لا يزال عدم اليقين يسيطر على المشهد.
وكانت الولايات المتحدة جهة مانحة رئيسة في أفريقيا حيث مولت المساعدات الإنسانية والرعاية الصحية وبرامج الأمن، وتلقت القارة حصة كبيرة من المساعدات الخارجية الأميركية مع التركيز على مواجهة التحديات الإقليمية مثل انعدام الأمن الغذائي وأزمات الصحة العامة، وبحسب ما أعلنت إدارة ترمب فإن الولايات المتحدة تنفق نحو 40 مليار دولار أميركي سنوياً على المساعدات، وترى أن الوقت قد حان لمراجعة المصالح الوطنية الأساس لأميركا وإعطائها الأولوية، وقد راوحت المساعدات الأميركية لأفريقيا وحدها ما بين 7.7 و8.3 مليار دولار سنوياً بين عامي 2012 و2022، مع تخصيص أجزاء كبيرة لتمويل مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة (الإيدز)، والمساعدات الإنسانية في دول مثل الصومال وكينيا وإثيوبيا وجنوب السودان والسودان وأوغندا، مما يجعل هذه المجموعة من الدول أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية، كما يُلاحظ أن معظم البرامج الممولة من "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" تتركز في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهناك مساعدات أخرى إلى دول أميركا اللاتينية وآسيا والمحيط الهادئ.
تاريخ حافل
لدى الولايات المتحدة تاريخ حافل بتعليق المساعدات، ولكن على مستوى دول منفردة تخضع إلى الاستجابة لمخاوف متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد أو الإرهاب، ففي السودان عُلقت المساعدات الأميركية خلال تسعينيات القرن الماضي بسبب اتهامه بدعم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان، وما بين عامي 1988 و 2001 كان السودان يتلقى نحو 48 مليون دولار من المساعدات الإنسانية سنوياً، بانخفاض عن أكثر من 216 مليون دولار قبل عام 1987، وبعد الإجراءات التي فرضها الفريق عبدالفتاح البرهان وأطاحت بالحكومة المدنية في السودان عام 2021، أوقفت الولايات المتحدة 700 مليون دولار من مساعدات التنمية، واتفقت مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على تجميد 6 مليارات دولار مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية في السودان.
وكان الصومال أيضاً من الدول التي حدث فيها خفض المساعدات بعد الكشف الدولي عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها الرئيس سياد بري مطلع التسعينيات، وفي عام 2017 خفضت الولايات المتحدة المساعدات العسكرية بسبب اتهامات بالفساد وجهتها واشنطن للجيش الصومالي عبر بيعه معدات وأغذية مخصصة للقوات التي يدربها الجيش الأميركي لمحاربة "حركة الشباب الصومالية"، مما أعاق جهود مكافحة الإرهاب.
كذلك عُلقت المساعدات الأميركية في إثيوبيا بين عامي 2020 و2021 بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم تيغراي وقضية سد النهضة الإثيوبي، وكانت مصر التي تعتمد على نهر النيل في 90 في المئة من مياهها العذبة قد عدت أن ملء إثيوبيا السد بصورة أحادية يُشكل تهديداً لإمداداتها المائية، بينما خشي السودان من حدوث اضطرابات في سدوده وأنظمة الري في البلاد، وطالب الطرفان باتفاق ملزم في شأن إطلاق المياه، ورداً على ذلك أوقفت الولايات المتحدة نحو 130 مليون دولار من المساعدات، معتبرة أن تصرفات إثيوبيا خطر على الاستقرار الإقليمي، وأدى هذا الخفض في المساعدات إلى تعطيل برامج حيوية في مجالي الصحة والأمن الغذائي مما عمق الأزمة الإنسانية في إثيوبيا.
نكسة كبيرة
ويقول الزميل الزائر في "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" كورادو كوك إن الولايات المتحدة قدمت عام 2023 ما يقارب 48 في المئة من المساعدات الخارجية للسودان، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وبالنسبة إلى جنوب السودان والصومال فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 52 في المئة، وفي إثيوبيا، أكبر متلق للمساعدات الأميركية في أفريقيا ذلك العام، وصلت النسبة إلى 60 في المئة بعد توقيع معاهدة السلام بين الحكومة الإثيوبية و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، حين اتفق الطرفان على وقف دائم للأعمال العدائية لإنهاء حرب تيغراي.
أضاف كوك أن "السودان يواجه أسوأ حال طوارئ إنسانية في عصرنا، حيث نزح ما يقارب 15 مليون شخص داخلياً وخارجياً، فيما يعاني 51 في المئة من السودانيين من انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى الكارثي، ويعاني جنوب السودان والصومال أزمات مماثلة، ففي مناطق تيغراي وأمهرا وعفر الإثيوبية التي مزقتها الحرب تلقى نحو 4 ملايين شخص مساعدات غذائية العام الماضي، وفقاً لأحدث البيانات المتاحة"، أما نسرين مالك فكتبت في تقرير لصحيفة "غارديان" أن " الوكالة الأميركية للتنمية الدولية كانت تُقدم الدعم لمطابخ الفقراء في السودان، وهي مطابخ أساس لبقاء السكان المدنيين المنعزلين، وقد أضر تجميد عمل الوكالة بشدة بهذه الجهود المُنقذة للحياة وكذلك بجهود المرافق التي تمولها الولايات المتحدة لرعاية الأطفال الذين يعانون سوء التغذية، ففي العاصمة الخرطوم وحدها أُغلق ثلثا مطابخ الفقراء خلال الأسبوع الأول بعد تعليق المساعدات".
يذكر أن هذه المطابخ بدأت مع الاحتجاجات التي اندلعت لإسقاط الرئيس السوداني عمر البشير وأثناء اعتصام المحتجين في ميدان القيادة العامة للقوات المسلحة، وبعد اندلاع الحرب نشط عملها أيضاً بمجموعات من الناشطين السياسيين والاجتماعيين لتلبية حاجات الأحياء المختلفة وحالات الطوارئ، ووصفت المسؤولة السابقة في "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" أندريا تريسي التي أنشأت صندوق "تحالف المساعدة المتبادلة في السودان" لجمع التبرعات الخاصة بغرف الطوارئ هناك تجميد المساعدات الأميركية بأنه "نكسة كبيرة".
عواقب وخيمة
وبالنسبة إلى منطقة القرن الأفريقي فقالت الباحثة في "شبكة القرن الأفريقي للتنمية" ناتاليا تسامالاشفيلي إن "التوقف في التمويل قد يسفر عن عواقب وخيمة على الأمن الغذائي وأنظمة الرعاية الصحية وجهود مكافحة الإرهاب، ولطالما لعبت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية دوراً حاسماً في تقديم المساعدات المنقذة للحياة ودعم تطوير البنية التحتية وتحقيق الاستقرار في المناطق المعرضة للصراعات، ومع غموض تدفقات المساعدات تكافح الحكومات والمنظمات الإنسانية والجهات الفاعلة الإقليمية جاهدة لسد الفجوات"، مضيفة أن "منطقة القرن الأفريقي لا تزال المستفيد الأكبر من المساعدات الأمنية الأميركية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إذ تلقت الصومال 219.5 مليون دولار، أي ما يقارب نصف إجمال 446.5 مليون دولار المخصصة للسلام والأمن خلال السنة المالية 2022، كما تتلقى دول أخرى في المنطقة مثل كينيا وجنوب السودان مبالغ أعلى بكثير مقارنة بكثير من الدول الأفريقية الأخرى".
وأكدت الباحثة أن هذا الاعتماد الكبير على المساعدات الأميركية "يعزز اعتماد المنطقة على التمويل الخارجي لجهود مكافحة الإرهاب والأمن وتحقيق الاستقرار، وبالتالي فمن المرجح أن يكون للتجميد المفاجئ للمساعدات تداعيات وخيمة، إذ يضعف قوات الأمن الوطنية ويعطل العمليات الجارية ضد الجماعات المسلحة ويفاقم عدم الاستقرار الإقليمي".
وحذر مهتمون من أن انعدام الأمن الغذائي قد يتفاقم خلال الفترة المقبلة في القرن الأفريقي بسبب ما تشهده المنطقة من دورات جفاف وفيضانات متزايدة بسبب تغير المناخ، إضافة إلى تزايد موجات النزوح من مناطق النزاعات في السودان وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية، حيث تؤثر هذه التوترات في مجتمعات اللجوء والنزوح المتداخلة مع مجتمعات الدول المضيفة، خصوصاً إذا كان هناك صراع على أي نشاط اقتصادي مثل الزراعة والرعي أو الموارد الطبيعية، ومن المتوقع أن يُسفر تجميد المساعدات الأميركية عن آثار كارثية على الجهود الإنسانية مع تداعيات سلبية على الأمن والاستقرار الاقتصادي في جميع أنحاء العالم وستكون أفريقيا الأكثر تضرراً، وفي حين يؤمل في أن تُستأنف بعض البرامج بعد مراجعة مدتها 90 يوماً، فإن البرامج التي لا تتوافق مع أولويات إدارة ترمب قد تواجه خطر إغلاق أكبر.
الصحة على المحك
تعد البرامج التي تركز على المساواة بين الجنسين وتنظيم الأسرة ومبادرات التنوع والمساواة والشمول عرضة للخطر بصورة خاصة، وكمثال على ذلك فإنه في جنوب أفريقيا تلقى نحو 40 مشروعاً صحياً ممولاً من "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" خطابات إنهاء في الـ 26 من فبراير (شباط) الماضي مما أدى إلى إلغاء هذه المشاريع، كما أدى توقف التمويل إلى إغلاق كثير من العيادات وانخفاض كبير في الخدمات مثل فحص "الإيدز" والرعاية والعلاج، وعن ذلك قالت المديرة التنفيذية لـ "المركز الأفريقي لأبحاث السكان والصحة" كاثرين كيوبوتونغي إن "خروج الولايات المتحدة من 'منظمة الصحة العالمية' وتجميد تمويل 'الوكالة الأميركية للتنمية الدولية' المُعلن عنه خطوتان مدمرتان وستخلفان آثاراً وخيمة على صحة ملايين الأشخاص في أفريقيا"، مضيفة أن "المساعدات الإنمائية الأميركية كانت تُستخدم لإدارة برامج صحية واسعة النطاق داخل القارة، وستكون أكبر خسارة لأفريقيا تحت مظلة 'الوكالة الأميركية للتنمية الدولية' هي تمويل 'برنامج بيبفار' المُستخدم في البرامج المتعلقة بفيروس الإيدز، بما في ذلك الوقاية والفحص والعلاج، فمن خلاله استثمرت الحكومة الأميركية أكثر من 110 مليارات دولار أميركي في الاستجابة العالمية لفيروس الإيدز".
وأوضحت كيوبوتونغي أنه "من دون حشد الأموال بسرعة لسد الفجوة التي خلفها الانسحاب الأميركي فإن التأثير في صحة ملايين الأفارقة سيكون على المحك، والفشل في منع الإصابات الجديدة وخطر ظهور مقاومة الأدوية بسبب انقطاع العلاج ستكون لهما عواقب بعيدة المدى".
من جانبه أوضح مدير "برنامج مجموعة السياسات الإنسانية" بمنظمة الإغاثة الدولية فريدي كارفر أن "تجميد تمويل الحكومة الأميركية في المنطقة على المدى القصير كان تأثيره في مجتمعات المنطقة شديداً، ولكن على المدى الطويل يُرجح أن يجبر القطاع على إجراء تغييرات جذرية وسريعة"، مورداً أن "حجم تحدي النزوح في هذه المنطقة، وهو تحد يتزايد عاماً بعد عام، كبير لدرجة أنه لا يمكننا إحداث تأثير حقيقي، فالمنظمة لا تملك الموارد ولا القدرة على إيجاد حلول، وسيؤدي سحب المساعدات الأميركية إلى تقليص الدعم المقدم إلى مخيمات اللاجئين تبعاً لتقليص المدخلات الإنسانية للمجتمعات المحلية، إضافة إلى انهيار الاقتصادات في أجزاء المنطقة مما يحدث أزمة حماية هائلة وربما اضطرابات كبيرة".
قوة الصين الناعمة
يطرح تجميد المساعدات الأميركية وما خلّفه من تداعيات قاسية، ولا سيما في أفريقيا، تساؤلات جوهرية حول إن كانت الولايات المتحدة على استعداد للتخلي عن نهجها في تعزيز قوتها الناعمة عالمياً، وهو المسار الذي شهد تباطؤاً ملحوظاً خلال إدارتي ترمب، وبما أن المساعدات تعد حاجزاً إستراتيجياً أمام تنامي نفوذ قوى دولية مثل الصين وروسيا اللتين تكثفان حضورهما في أفريقيا، فإن الصين بخاصة تبدو المرشحة الأبرز لملء هذا الفراغ مما يعيد تشكيل موازين التأثير في القارة السمراء بأن تحل محل الولايات المتحدة في هذا المجال، كما فعلت في مجالات أخرى، فقد نجحت بكين في توظيف أدوات القوة الناعمة بمهارة بعد أن قدمت نفسها لأفريقيا كنموذج اقتصادي مرن، كما عززت شراكاتها الاقتصادية من خلال التجارة والاستثمار في مشاريع البنية التحتية والمؤسسات الاجتماعية مع الامتناع من فرض شروط سياسية أو إلزام الدول المتلقية بإصلاحات اقتصادية محددة.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن الصين تعتمد على إستراتيجية القوة الناعمة في علاقاتها مع الدول الأفريقية، حيث توظف المساعدات والمعونات في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز حضورها، ومن أبرز مجالات التعاون القطاع الصحي الذي تمثل فيه نموذجاً لما يُعرف بـ "دبلوماسية الصحة"، عبر إنشاء شبكات تعاون بين الأطباء الصينيين والمؤسسات الصحية الأفريقية، وتسهيل تبادل الفرق الطبية وتوفير الأجهزة الطبية مجاناً، والمشاركة في برامج مشتركة لمكافحة أمراض مثل الملاريا والإيدز.
وأوضح الكاتب الأميركي ديفيد شامباو في مقالة له عن "أنماط القوة الناعمة الصينية" نشرتها مجلة "فورين أفيرز"، أن "بكين تدعم مشاريعها في القوة الناعمة بتمويلات ضخمة، فالدبلوماسية التنموية الصينية ليست سوى جزء من إستراتيجية أوسع لتعزيز القوة الناعمة تشمل الاستثمار في وسائل الإعلام والنشر والتعليم والفنون والرياضة، وعلى رغم الغموض المحيط بحجم إنفاق بكين على هذه المجالات فإن التقديرات تشير إلى أن موازنة الدعاية الخارجية الصينية عام 2014 تقارب 10 مليارات دولار سنوياً، في حين أن واشنطن لم تنفق على الدبلوماسية العامة في العام ذاته سوى 666 مليون دولار".