تظهر بين الحين والآخر في الإعلام العراقي ومواقع التواصل الاجتماعي بوادر أزمة شح المياه في العراق، لا سيما في فصل الصيف. إذ تلعب دول الجوار، خصوصاً تركيا وإيران، دوراً كبيراً في تعطيش العراق، فضلاً عن أسباب أخرى داخلية تتعلق بقلة السدود الخزنية وتجاوزات العشائر العراقية في الجنوب.
سد "أليسو" التركي
في يونيو (حزيران) 2018، حبس العراقيون أنفاسهم بعد إعلان تركيا نيتها ملء سد "أليسو" بالمياه، بعدما انتهت من إنشائه. فالصيف اللاهب في العراق وارتفاع درجات الحرارة، كانا كفيلين بحدوث أزمة حادة، ليس بالنسبة إلى قطاع الزراعة فحسب، بل إن الحكومة العراقية تحدثت عن قصور في تأمين المياه الصالحة للشرب في بغداد ومدن الجنوب.
آنذاك، أعلنت الحكومة التركية أنها ستؤجل عملية ملء السد شهراً واحداً، حتى يوليو (تموز)، لتفسح المجال أمام الحكومة العراقية لاتخاذ التدابير اللازمة في شأن المياه. لكن التأجيل ما زال مستمراً حتى اليوم، وفق التقارير الواردة إلى وزارة الموارد المائية العراقية.
المهندس علي هاشم، الناطق باسم وزارة الموارد المائية، أكد أن عملية تخزين المياه في سد "أليسو" لم تبدأ بعد، وأن تنسيق الجانب التركي مع العراق قبل بدء التخزين يمكن أن يقلل الأضرار. وأضاف "نأمل في أن يأخذ القرار التركي في الاعتبار ظروف العراق، وأن تبدأ العملية خلال فصل الشتاء، في سنة تكثر فيها الأمطار والثلوج، لأن هذا الإجراء من شأنه أن يخفف من وطأة الضرر الذي سيتعرض له العراق. أما في حال ملء السد في فصل الصيف، فستحدث كارثة حقيقية يصعب تداركها".
قبل حوالي عام، شهد البرلمان العراقي جلسة حامية خصصت لمناقشة أزمة المياه بحضور وزير الموارد المائية حسن الجنابي، الذي قال "إن بلاده تواجه أزمة حقيقية في شأن المياه"، مشيراً إلى أن العراقيين يحتاجون إلى التكاتف أكثر من أي وقت مضى، وعلى البرلمان والحكومة الاهتمام بهذا الملف وربطه بالسياسة الخارجية.
المشكلة الرئيسة في الأزمة ناتجة من نسبة المياه التي تغذّي نهري دجلة والفرات، اللذين يمثلان المصدر الرئيس للمياه في العراق. إذ إن 56 في المئة من واردات نهر دجلة المائية تأتي من تركيا، فيما تغذي إيران نسبة 12 في المئة من وارداته، في حين يحصل النهر على 22 في المئة من مياهه من داخل العراق. أما نهر الفرات فيحصل على 88 في المئة من مياهه من تركيا، وتسعة في المئة من سوريا وثلاثة في المئة من الأراضي العراقية.
قلة السدود الخزنية في العراق
هذه النسب تبين أن تركيا تتحكم بالنسبة الأكبر من مياه نهرَي دجلة والفرات، فيما تتحكم إيران بنسبة لا بأس بها من مياه دجلة. أما القضية الأخرى التي تتسبب بأزمة المياه في العراق، فتعود إلى قلة السدود الخزنية التي أنشئت على النهرين داخل الأراضي العراقية. فعلى سبيل المثال، السد الخزني الوحيد على نهر الفرات هو سد "حديثة"، في حين أن سدود الرمادي والفلوجة والهندية هي نواظم، أي "سدود تنظيمية"، لا تخزن المياه لكنها تنظّم مرورها.
أما السد الخزني الرئيس على نهر دجلة، فهو سد الموصل الذي سبق أن تعرض جزء منه للانهيار. ما دفع الحكومة العراقية إلى التعاقد مع شركة إيطالية لصيانة السد، الذي أنشئ على أرض شبه رميلة. أما السدود التنظيمية الموجودة على النهر وتفرعاته فهي دوكان ودربندخان والعظيم وحمرين والعمارة.
تتركز معظم المخاوف من شح المياه من سد "أليسو" في الجانب التركي، فيما تظهر الأزمة مع إيران في قطعها روافد الأنهار في الجنوب، ومنها نهر الكارون، وانتشار الألسنة الملحية في محافظة البصرة، التي تعاني شحاً كبيراً في المياه.
تواصلت "اندبندنت عربية" مع السفارتين التركية والإيرانية في بغداد للحصول على معلومات تتعلق بموقف البلدين من أزمة المياه، وإذا كان هناك نية لمساعدة العراق في تجاوز أزمته. لكن موظفي السفارة التركية رفضوا إيصالنا بالسفير، فيما أكد الناطق باسم السفارة الإيرانية أن السفير مشغول باحتفالات ذكرى الثورة الإسلامية، ولن يتفرغ قبل أسبوعين.
ووفقاً لتقرير رسمي سرّي أعدته وزارة الموارد المائية قبل أكثر من عام، وقدمته إلى البرلمان، خسر العراق 30 في المئة من كمية المياه التي كان يحصل عليها من نهرَي دجلة والفرات. وفي السنوات القليلة المقبلة، سيخسر 50 في المئة من حصته التاريخية من دون احتساب تأثيرات المناخ وأزمة الاحتباس الحراري العالمية. ويوضح التقرير أن العراق كان يحصل على 33 مليار متر مكعب سنوياً من مياه نهر الفرات، أما اليوم فيحصل على 16 مليار متر مكعب، والأمر ذاته بالنسبة إلى نهر دجلة.
اقترحت الوزارة، وفق التقرير، البدء في تنفيذ خطة إستراتيجية طويلة المدى تبدأ من عام 2018 حتى 2035، بميزانية تصل إلى 184 مليار دولار، 68 مليار دولار منها ستخصص لقطاع الري الزراعي. إذ إن 80 في المئة من المياه في العراق تذهب إلى الزراعة.
نواب في البرلمان العراقي السابق تحدثوا عن أهمية تنفيذ خطة الموارد المائية، على الرغم من المبالغ الطائلة التي تحتاج إليها. وقال رئيس لجنة الزراعة والمياه في البرلمان السابق فرات التميمي إن "مشكلة الجفاف في العراق ترجع إلى سببين. الأول، دول الجوار التي تملك منابع دجلة والفرات، خصوصاً تركيا التي تسعى إلى ملء سد "أليسو" الكبير. والثاني، التجاوزات التي تحصل على مياه النهرين في محافظات الجنوب".
وأضاف أنه "يجب ربط ملف المياه بملفات التجارة والطاقة والنفط في السياسة الخارجية للعراق. وعلى وزارة الخارجية أن تضع ملف المياه على طاولة المفاوضات باعتباره أولوية قصوى".
"بخمة" السد المؤجل
"سد بخمة" هو أحد أهم السدود الخزنية التي كان مقرراً أن تُبنى على نهر دجلة، ضمن الحدود الإدارية لمدينة أربيل في كردستان العراق. إذ تمت دراسة المشروع عام 1937، ووضعت شركة أميركية خريطته قبل 66 عاماً، أي في عام 1953، حين كان النظام الملكي حاكماً. وكان المشروع يهدف إلى تجميع مياه نهر الزاب الكبير، الذي ينبع من تركيا ويدخل ضمن حدود إقليم كردستان ليصب بعد ذلك في نهر دجلة.
في عام 1979، ومع بداية ظهور سلطة حزب البعث، أحدثت شركة يابانية تغييراً في خريطة السد. وفي عام 1986، بدأت شركتان تابعتان لتركيا ويوغسلافيا السابقة بتنفيذ المشروع حتى عام 1991، إذ أوقف بسبب حرب الخليج الثانية على الرغم من تنفيذ 34 في المئة منه.
الخلافات السياسية بين بغداد وأربيل ورفض العشائر البارزانية فقدان قرى عدة على حدود منطقة بارزان أجهضت المشروع اليوم، على الرغم من أن الإقليم وبغداد في أمس الحاجة إلى توفير المياه، في وقت تخوض دول الجوار حرب التجفيف ضد العراق.
يفخر العراقيون منذ آلاف السنين بامتلاكهم نهرَي دجلة والفرات، ولهذا سمي العراق منذ عهود غابرة "وادي الرافدين". وكان العراق حتى عقود قليلة بعيداً من مخاطر الجفاف التي ضربت دولاً ومدناً كاملة. ويتذكر البغداديون، تحديداً، موجة الفيضانات التي كانت تشهدها البلاد في كل صيف، في النصف الأول من القرن الماضي، ما أجبر السلطات آنذاك على بناء سد الثرثار حول ضواحي العاصمة لمواجهة هذه الفيضانات.
لكن الوضع اليوم يختلف كثيراً، إذ تشير تقارير رسمية إلى أن البلاد مقبلة على أزمة جفاف. وهو خطر يواجه المحافظات الجنوبية التسع، التي تتصارع مجالسها على الاستحواذ على مياه نهرَي دجلة والفرات وقطعها عن المحافظات الأخرى. كما أن الأزمة تطورت، في العام الماضي، ووصلت إلى اشتباكات مسلحة بين العشائر، فيما حصلت موجة هجرة واسعة للسكان نحو مناطق تتوافر المياه فيها.