"أنا آسفة يا أمي، فرحلتي إلى الخارج لم تُكلل بالنجاح. أحبّك كثيراً!"، يرجح أن هذه كلمات فام ثي ترا إبنة الـ 26 عاماً الأخيرة في رسالة نصية وجهتها الى أهلها وهي على حافة الموت برفقة 38 شخصاً في شاحنة مبرّدة عُثر عليها في مقاطعة "إيسيكس" الأسبوع الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يمكن تصوّر رعب الموت البطيء الذي عانته تلك الأرواح المفقودة داخل الشاحنة. فقد عُثر على الضحايا محاصرين في ظلام دامس، الضوء الوحيد فيه كان مصدره هاتف الشابة فام ثي ترا التي استخدمت اللحظات الأخيرة من حياتها للاعتذار من والديها على فشلها في الوصول إلى المملكة المتحدة.
والطابع الخفي للاتّجار بالبشر يحتّم مهمة تحديد حجم التبعات المرتبطة به. وتستشهد المنظمة الخيرية "ستوب ذي ترافيك" (أوقفوا الاتّجار) التي تتخذ من كينينغتون مقراً لها، بتقرير لـ "منظمة العمل الدولية" يتحدّث عن وجود أكثر من 40 مليون ضحية للاتّجار بالبشر في أنحاء العالم. أما سن الشابة فام ثي ترا، 26 عاماً، فهو متوسط أعمار ضحايا هذه التجارة، كما حدده موقع يُعنى بالهجرات حول العالم هو "مايغريشن داتا بورتال" Migration Data Portal، الذي أشار إلى أن نصف عدد ضحايا الاتّجار بالبشر تتفاوت أعمارهم بما بين 18 عاماً و34.
وفي المملكة المتحدة، تقود "الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة" NCA، الحرب على العبودية المعاصرة والاتّجار بالبشر، وهما مترابطان ارتباطاً وثيقاً. وأظهر نظام التبليغ التابع للوكالة أن ما بين أكتوبر (تشرين الأول) وديسمبر (كانون الأول) من العام 2018، كانت 84 دولة مصدر الضحايا المحتملين للاتّجار بالبشر، وشكّل مواطنون من ألبانيا وفيتنام النسبة الأكبر من هؤلاء.
وفي الأعوام القليلة الأخيرة، شهدنا مراراً قصصاً وصوراً مقلقة للغاية للاجئين الذين لقوا حتفهم أثناء رحلاتهم إلى ما يحسبون أنه ملاذ آمن في أوروبا والمملكة المتحدة، وشهدنا لقطات مؤلمة لآباءٍ وأمهات يهرعون إلى أطفالهم الغرقى. وأخيراً، أدى الحادث الذي تُوفي فيه 39 لاجئاً في الجزء الخلفي من شاحنة حاوية مبرّدة، إلى صدمة عارمة في البلاد. وكذلك عُثر في الآونة الأخيرة، على 12 مهاجراً من أصل سوري وسوداني على قيد الحياة داخل شاحنة مبرّدة في بلجيكا.
حتى المواطنين المناهضين للهجرة، خفّفوا من مواقفهم المتشددة أمام هذه القضية الإنسانية، ولم يتمكنوا من إخفاء تأثرهم بالمعاناة المستمرة للأسر التي تريد ببساطة التمتع بالحريات نفسها التي نعيشها ونأخذها على أنها معطاة.
ودفع اليأس والعنف والظروف المعيشية التي لا تُطاق في مساقط الرأس بالمتّجرين إلى استغلال كثير من طالبي اللجوء، ليقعوا بعدها فريسة تحت سيطرة العصابات الإجرامية، في ظل وعود بمستقبل أكثر إشراقاً وأماناً في المملكة المتحدة. لا يمكننا نكران أننا كأمّة نلقي باللوم جزئياً على الأزمات التي يفر منها هؤلاء الناس. وفيما يلوم بعض الناس الحكومات الغربية على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يحمّل آخرون المسؤولية إلى إغلاق الطرق القانونية أمام طالبي اللجوء، ما يفتح المجال أمام المتّجرين بالبشر للتدخل واغتنام الفرص.
ثمة في الواقع موضوعان منفصلان: الأول، يتمثل في وجوب معالجة مشكلة المجرمين الذين يستفيدون من محنة الأبرياء ويعرّضون حياتهم للخطر. أما الثاني، فيتعلق بضرورة الحؤول دون إجبار الذين يبلغون برّ الأمان على العمل بالسّخرة للبقاء على قيد الحياة.
وقد كشفت أخيراً منظمة "حق اللاجئ في أوروبا" Refugee Right Europe التي تدافع عن اللاجئين أمام المؤسسات الحكومية، أن نساء وفتياتٍ أجبرن على ممارسة أعمال جنسية لقاء العبور إلى المملكة المتحدة. فتشديد الأمن على الحدود المترافق مع وحشية الشرطة وأوقات الانتظار الطويلة للبتّ في اللجوء والظروف المعيشية غير الآمنة في فرنسا، كلها تدفع بطالبي اللجوء إلى القيام بأعمال يائسة لعبور القناة والوقوع فريسة إجرام المتّجرين بهم.
وكان انشغال الحكومة البريطانية بمسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي كبيرا، إلى درجة أنها طغت على قضايا ملحّة أخرى كتلك التي سبق ذكرها أعلاه، ما أدى إلى نشوء وضع يحتّم التعاطي مع الأزمة لدى حدوثها فقط بدلاً من التركيز على بذل الجهود لاتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لها.
في الوقت الراهن، تخضع المملكة المتحدة لـ "ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي." وتتناول المادة الخامسة منه مسألة حظر العبودية والإكراه على العمل، وتحظر "الاتّجار بالبشر أواحتجاز أي فرد أو استعباده أو استخدامه عنوة عنه أو إلزامه بأداء سخرة أو أي عمل قسري". لكن حال مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، فإن هذا الميثاق سيتوقف تطبيقه في ظل القانون البريطاني. ومع ذلك، ستحتفظ المملكة المتحدة بالإطار المنصوص عليه في "الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان،" لكن هل هذا يكفي؟
وعلى الرغم من هذه التدابير، تفاقمت المشكلة على نحو كبير منذ العام 2015. ومن غير الواضح ما إذا كانت ستستمر في التدهور إذا ما غادرنا الاتحاد الأوروبي. وفيما الدول الأعضاء في الاتحاد ملزمة بتطبيق مبدأ حرية تنقل الأفراد، يعد مؤيّدو الانسحاب البريطاني بأن يقلص بريكست من الهجرة غير المرغوب فيها. ومع ذلك، فإن هذا قد يعني أن المزيد من الناس سيواصلون البحث عن طرق غير قانونية للدخول إلى المملكة المتحدة مع احتمال وقوع مزيد من الخسائر في الأرواح.
© The Independent