في خضم ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، أصدر أعلى مرجع قضائي لبناني سلسلة من الأحكام بحق المتهمين بتفجير مسجدَيْ التقوى والسلام في مدينة طرابلس. هذه الأحكام وإن طال انتظارها، إلاّ أنّها تشكّل إنصافاً معنوياً لعائلات 53 قتيلاً ومئات الجرحى الذين سقطوا بعمليات إرهابية اتُّهم النظام السوري وأتباعه بالتخطيط لها وتنفيذها.
الذاكرة الجماعية الطرابلسية
حجزت جريمة تفجير مسجدَيْ التقوى والسلام، في 23 أغسطس (آب) 2013، مكانة لها في الذاكرة الجمعية الطرابلسية. فهي محطة مرحلية في إطار الصراع بين هذه المدينة الشمالية والنظام السوري. كما أنها انتقام من موقف تجرّأ أهل طرابلس على اتخاذه، عندما أعلنوا الانتصار للبنانيتهم على حساب الخضوع لنفوذ الشقيقة الأقرب، التي ارتكبت سلسلة مجازر بحق الطرابلسيين أثناء الحرب الأهلية، كما أخفت قسراً كثيرين من معارضيها.
وجاء القرار القضائي الاتهامي عام 2014، ليؤكد صحة الشكوك. فالمشتبه فيهم يشكّلون مجموعة مرتبطة بالنظام السوري، إذ قُسّمت المهام بين مخطط في سوريا، هو الضابط محمد علي علي وفريقه الأمني، ومنفذ لبناني هو يوسف عبد الرحمن دياب، تولّى مهمة الضغط على الزناد. وبعد خمس سنوات من الإجراءات القضائية، أصدر المجلس العدلي حكمه، فحكم بالإعدام وجاهياً على الفاعل يوسف دياب، وغيابياً على عناصر الفريق السوري المخطط والمسهّل: النقيب في الجيش السوري محمد علي علي، إضافةً إلى مساعدَيْه مصطفى عيروني وناصر جوبان.
كما خُفّفت الأحكام بحق بعض المتهمين بسبب تأديتهم أدواراً مكملة أو تم تفسير الشك لصالحهم. فحُكم على الشيخ أحمد الغريب (المسؤول الإعلامي في حركة التوحيد) بالسجن عشر سنوات، وسنة واحدة واستبدالها بغرامة قيمتها مليون ليرة لبنانية على الشيخ هاشم منقارة، الذي كان يشغل موقعاً قيادياً في حركة التوحيد الإسلامية. كما حكم المجلس العدلي على مصطفى حوري بالسجن 15 سنة، مع إعفائه من تنفيذ العقوبة بسبب تبليغه بوجود نوايا لتنفيذ جريمة في لبنان، وعدوله عن المشاركة فيها.
وتشير المحامية سليمة أديب، وكيلة المدعين، إلى أن أحكام المجلس العدلي نهائية ولا مجال لمراجعتها بأي طريقة من طرق النقض أو غيرها، مضيفةً أنه يُفترض تنفيذ هذه القرارات من حيث المبدأ، لكنها تلمح إلى أنه "في دولة مثل لبنان، لا يمكننا معرفة مآل القرارات"، لأنها تحتاج إلى مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية. وتلفت أديب إلى أنه يفترض بالدولة اللبنانية توقيف الضباط السوريين المتورطين والبدء بمحاكمتهم مباشرة عند دخولهم إليها بواسطة أي من المنافذ الشرعية.
من يعوّض على المتضررين؟
يعتبر قريب أحد الضحايا أن القرار يشكّل تعويضاً معنوياً. فبعد ست سنوات من الانتظار قال القضاء كلمته، وسمّى بوضوح الفاعلين.
وإلى جانب هذا الأمر، تضمّن قرار المجلس العدلي شقاً آخر، هو الشق المدني المتصل بالتعويضات، متيحاً إمكانية فتح المحاكمة بدعاوى الحق الشخصي لتحديد "الدية" والتعويض على أهالي القتلى والمتضررين من التفجيرين الإرهابيين. وتأمل عائلات القتلى في أن تؤدي القرارات القضائية إلى ردع المجرمين ومنعهم من تكرار هذه الأفعال المشينة. فهي قبل أن تسفر عن ضحايا مدنيين، استهدفت النسيج الاجتماعي الطرابلسي وسعت إلى خلق الفتنة ورفع حدة الخطاب المذهبي والمناطقي لصالح سياسات المحاور الإقليمية.
الدفاع "القرار خضع للتسييس"
في المقابل، يستغرب محامي الدفاع أنطوان نعمة العقوبة التي أنزلها القضاء بحق موكّله الشيخ أحمد الغريب، ويضعها في إطار المظلومية، فهو مسؤول في حركة حليفة لسوريا، وبالتالي كان طبيعياً أن يتوجه إلى سوريا بصورة دورية للقاء مسؤولي الأجهزة الأمنية.
ويذكر أنه قبل ثلاثة أيام من المحاكمة، تقدّم بلائحة طلب فيها عرض المضبوطات وإبراز التسجيلات الصوتية للتحقيقات لدى شعبة المعلومات التي يستند إليها القرار الاتهامي، إلاّ أنّ المجلس لم يستجب لطلبه.
ويعتبر نعمة أنّ ذلك يخالف مبدأ "الشفوية" الذي يجب احترامه في المحاكمات لمناقشة الأدلة الثبوتية. كما أن المجلس لم يوافق على طلب فصل ملف الغريب عن ملف المنفذ يوسف دياب الذي فجّر السيارة ضمن شبكة حيّان رمضان، فبرأي نعمة لا يوجد تلازم بين الملفين، لأن القانون لا يحاكم على الأفعال التمهيدية إنما على الأفعال التنفيذية، ولا يدخل فيها التخطيط والنوايا إلاّ في جرم المؤامرة.
ويدعي نعمة أن "أصوات القضاة ارتفعت خلال جلسة المداولة السرية"، ليشير إلى أن هناك تغييراً ما قد طرأ على قرار المجلس العدلي. ويختصر موقفه بالقول إنها "لطخة عار على جبين المجلس العدلي، إنه حكم كتبته يد السياسة، ووقّعه القضاة".
في المقابل، ترفض أديب كلام الدفاع لأن القاضي جوزيف سماحة مشهود له بالكفاءة والنزاهة، والمحاكمة التزمت الأصول القانونية، قائلةً "توقّعنا أن تكون الأحكام أكثر شدة، ولكننا قبلنا بها لأنها قرار قضائي".