في عنفوان عقدها الثامن، تجتذب ابنة "البئر السابعة" رهانات الأسواق العالمية وآمال السعوديين، إذ تستعد "أرامكو" لخطف الرقم القياسي لأكبر عملية اكتتاب بالعالم، مستعيدة بتقييمها النهائي في السوق المالية عملية تحريرها من امتياز التنقيب، وتحوّلها في الثمانينيات الميلادية إلى ملكية الحكومة السعودية، لتغدو عملاق الطاقة الذي روى "عطش الدنيا" من الزيت الثمين ومشتقاته الفريدة، ولا يزال "ثابتاً ويزيد".
ينبوع النفط السعودي
لكن الأشواط التي قطعتها الشركة السعودية لتصبح هكذا، لم تكن وليدة الصدفة، فهي سليلة الاكتشافات التي أرست دعائم الازدهار في السعودية وأمان سوق الطاقة العالمية، منذ اكتشفت البئر رقم 7، التي أطلق عليها لقب "بئر الخير"، لتتدفق من ورائها ينابيع الآبار الأخرى في بقيق ورأس الخير وخريص والشيبة وأخواتها حتى اليوم.
وسجّلت اللحظة التاريخية الأولى في الرابع من مارس (آذار) من عام 1938، حين أخرجت "بئر الخير" أثقالها، وأنتجت بمعدل 1585 برميلاً في اليوم، بعد ست سنوات من توقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن البترول وإنتاجه بين الحكومة السعودية وشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال) الأميركية، وأنشئت شركة تابعة لها سُميت بكاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني (كاسوك) لإدارة هذه الاتفاقية.
البئر التي كانت فاتحة الذهب الأسود حفَّزت على استكشافات متسارعة، أعادت في وقت وجيز كتابة أبجدية الأرقام القياسية في عالم النفط. وتطلبت عمليات الشركة ونموها تحويل اسمها إلى شركة الزيت العربية الأميركية "أرامكو" عام 1944، فاستطاعت عام 1949 بلوغ إنتاج 500 ألف برميل يومياً.
بداية التحرير
وبعد أن كانت الشركة تُدار من نيويورك جرت إعادتها إلى الظهران شرق السعودية عام 1952، ونقلها بجوار "البئر السابعة"، ما أدى إلى توسع نطاق "أرامكو" في قطاع التوزيع، فجرى مد خطوط الأنابيب "التاب لاين" من المنطقة الشرقية إلى مختلف الموانئ المتعطشة النفط.
وفي مطلع السبعينيات، اشترت الحكومة السعودية حصة قدرها 25% في أرامكو، وزادت هذه الحصة لتصل إلى 60% في العام التالي، كما أدت بدخول الثمانينيات الميلادية إلى استحواذ الحكومة السعودية على شركة أرامكو بأكملها.
عرش منتجي النفط
وعقب ثمانية أعوام، أرست السعودية دعائم شركة الزيت العربية السعودية، التي ستعرف بـ"أرامكو السعودية" رسمياً، ليقوم على رأس إدارتها أول سعودي في عام 1984، هو المهندس علي بن إبراهيم النعيمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتابعت خطوات "أرامكو" لقيادة التحوّل الضخم من شركة منتجة النفط إلى شركة بترول متكاملة، وامتد طموحها إلى كبريات مصافي تكرير النفط الخام وتسويقه عالمياً.
وواصلت الشركة تثبيت مكانتها عالمياً حتى انتزعت رقماً صعباً بإدارتها 336.2 مليار برميل من النفط المكافئ من احتياطيات السعودية المثبتة، وفق البيانات الرسمية للشركة.
هذا إلى جانب احتياطيات غاز تبلغ 324.4 تريليون قدم مكعبة، في وقت تتربع فيه أرامكو على عرش عمالقة منتجي النفط بقدرة إنتاجية تبلغ نحو 12 مليون برميل يومياً، هو الأكبر عالمياً لسنوات عدة، وإلى اليوم هو الأول بين أعضاء منظمة "أوبك".
كما تعد الشركة أهم مورد موثوق للطاقة المستدامة على مستوى العالم، فيما يبلغ طاقم عملها أكثر من 70 ألف موظف في المصافي والناقلات ومراكز الأبحاث التي تمتلكها الشركة في أنحاء العالم.
استهداف الشركة يحشد الأنصار
وكانت قيمة أرامكو العالمية والمحلية هي التي أدت إلى الاستنفار بعد استهداف حقليها في بقيق وخريص سبتمبر (أيلول) بصواريخ وطائرات مسيرة من جانب إيران التي نفت علاقتها بالهجوم، في الوقت الذي تبناه المتمردون الحوثيون. في حين لم يصدق أحد روايتهم، وحمّلت معظم دول العالم طهران المسؤولية، ما دفعها إلى التراجع والبحث عن حلول دبلوماسية لتخفيف التوتر في الخليج.
لكن الهجوم مثلما كشف نيات منفذيه العدوانية، أظهر للعالم قيمة الشركة ومهنيتها، إذ سارعت إلى تدارك النقص الذي نجم عن التخريب الذي تعرض له معمل بقيق، وتعاملت مع الأزمة بشفافية وقدرة فائقة، أبهرت العالم، الذي جاء الصحافيون من كل أنحائه ليوثقوا خطوات الشركة في معالجة الأضرار بثقة واطمئنان.
الاكتتاب حديث المجالس
لكل ذلك، كان إعلان ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قبل بضع سنين أن بلاده ستطرح جزءاً من أسهم أرامكو للاكتتاب العام، خبراً أثار الضجة في السعودية والعالم حول: لماذا ومتى وكيف وأين
ولما جاءت ساعة الحقيقة، وأعلن رئيس مجلس إدارة أرامكو، ياسر الرميان، في مؤتمر صحافي، إدراج الشركة في سوق المال السعودية "تداول"، اتجه الجميع إلى البحث عن طرق الاستفادة من الاكتتاب والوصول إلى تفاصيله وتتبع موعد بث نشرة الإصدار وبداية الاكتتاب وتداول الأسهم، حتى غدت القصة حديث المجالس، والمكاتب والأسر. كل يسأل كيف يستثمر الاكتتاب بأفضل السبل؟
ومن الاقتراض وحتى بيع الأصول الشخصية، يحاول مواطنون سعوديون جمع الأموال اللازمة للاستثمار في أسهم الشركة بعد عزمها بيع جزء من أسهمها في السوق المحلية.
وبعد سنوات من التأجيل، أكّدت أرامكو الأحد أنّها تنوي بيع عدد لم تحدّده من الأسهم في سوق المال المحلية في الرياض، واصفة الحدث بالعلامة الفارقة في تاريخ الشركة التي تضخ وحدها نحو 10% من نفط العالم.
استثمار طويل الأمد أم قصير
ويبدو الحماس واضحاً لدى المستثمرين الذين يحاولون امتلاك جزء من أكثر شركة تحقيقاً للأرباح على مستوى العالم. ويؤكد إبراهيم أحمد، وهو محلل في قطاع الطاقة السعودي، يفكر في استثمار مدخراته في عملية الاكتتاب لوكالة "أ.ف.ب"، أن "البعض بدأ ببيع أسهمه الأخرى تحضيراً لشراء (أسهم) أرامكو".
وأضاف "الناس يعتبرونه استثماراً صحيحاً. ولكن أنا مدرك أن هذا استثمار طويل الأمد. وليس بطاقة يانصيب".
ورأى رجل الأعمال بدر محمد الراجحي أن الفرصة في اكتتاب أرامكو تكمن في سعر السهم الذي لم يتضح حتى الآن، "لكنه سيبقى أقوى سهم بالعالم لأكبر شركة بالعالم"، مشيراً إلى مرتكزات قوة الاكتتاب من خلال كون الدولة دعمت الأفراد بربح متوقع أكثر من 10% عند الاحتفاظ بالسهم طوال 6 أشهر، معتبراً أن سهم أرامكو استثمار طويل الأجل وليس للمضاربة، ويتوقع له نمواً مقبلاً، خصوصاً إذا زادت من استثماراتها في مصافيها الخارجية كما تؤكد خطتها الاستراتيجية.
وفيما طرح المواطن يحيى إبراهيم السلمي تصويتا لمتابعيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي متسائلاً عن نسبة نياتهم في الاستثمار من مدخراتهم في اكتتاب أرامكو، واصل المتخصص في إدارة الأعمال فهد الحويماني شرح دور مدير التوازن في اكتتاب أرامكو، الذي يقوم بالحد من هبوط سعر السهم خلال 30 يوماً بعد الطرح، ويتم ذلك لأن مدير التوازن له الحق ببيع أسهم إضافية أثناء الاكتتاب، بمقدار 15% من عدد الأسهم المطروحة، ولكن عليه إما دفع قيمة هذه الأسهم الإضافية لأرامكو خلال 30 يوماً، أو سحبها من السوق.
وتابع الدكتور عبد الوهاب أبو داهش تقييم بعض البنوك العالمية لشركة أرامكو، التي بلغت أكثر من 2 تريليون دولار، معتبراً أن "الاستثمار في أرامكو حتمي لمديري المحافظ ومحترفي سوق الأسهم من باب التنويع وتوزيع المخاطر وقياس الأداء"، مشيراً إلى أن "أي سهم عرضة للتذبذب وهذا طبيعي، كما أن السهم مرتبط بأسعار النفط وتوزيع الأرباح والضريبة، وبالتالي سيكون أسهل سهم تتابعه، فإذا ارتفعت أسعار النفط فارتفاع السهم وارد".
وذهب الخبير الاقتصادي أحمد الشهري إلى أن شراء أسهم أرامكو والاحتفاظ بها لفترات طويلة كنوع من الاستثمارات المدرة للدخل وتنمية الثروة على المدى الطويل هو الصحيح، مضيفاً أن هذه وظيفة الأسواق المالية لمن يفهم كيف تعمل أسواق الأسهم، ويؤكد على أن اكتتاب أرامكو مناسب لمن يبحث عن عمل وقد يدر عليه أرباحاً سنوية، لأنه سهم استثماري استراتيجي يرتبط بأقوى شركة سعودية على الإطلاق، مقترحاً أن يقوم كل مستثمر بتخصيص بعض الأسهم كأوقاف، سواء من أرامكو أو غيرها من الشركات التي تدر أرباحاً.