تحبس الأوساط السياسية والإعلامية اللبنانية أنفاسها انتظاراً للساعات التي تفصل لبنان عن اختيار رئيس الحكومة المكلف تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة، الذي يفترض أن تختاره الأكثرية النيابية في الاستشارات النيابية الملزمة التي سيجريها رئيس الجمهورية ميشال عون، وفق ما ينص عليه الدستور.
لكن اللبنانيين ليسوا وحدهم الذين ينتظرون ما ستؤول إليه هذه الاستشارات لمعرفة اسم الرئيس المكلف، لأن المجتمع الدولي أيضاً يرصد بدقة هويته التي باتت محصورة بين خيارين، وفق مواقف أكثرية القوى السياسية: إما يعود زعيم "تيار المستقبل" رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري إلى الرئاسة الثالثة، وإما تُسند المهمة إلى شخصية يزكيها الحريري ويقبل بها سائر الفرقاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع أن الحريري اشترط أن تكون الحكومة من اختصاصيين كي يقبل بالمهمة، وبالتالي إذا وقع الخيار عليه فإن هذا سيكون مؤشراً إلى نوعية الحكومة العتيدة، وإذا وقع الخيار على غيره فمعنى ذلك أن هناك نوعية مختلفة للحكومة، وقد تكون مختلطة بين الاختصاصيين والسياسيين بهذا القدر أو ذاك.
لكن، مصادر معظم الكتل النيابية أبلغت "اندبندنت عربية" أن ترشيح الحريري لم يقترن مع التوافق معه على صيغة الحكومة العتيدة التي كرر في الأيام الماضية موقفه القائل إنه "يفضلها من اختصاصيين من دون وزراء سياسيين".
لقاء غير إيجابي
وفي وقت يسعى الحريري إلى استكشاف مدى إمكانية توليه المهمة في مشاورات مع القوى السياسية عبر اتصالاته المباشرة أو عبر موفديه، إذ زار مستشاره الوزير السابق الدكتور غطاس خوري رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع ظهر السبت 14 ديسمبر (كانون الأول)، فإن الحسم النهائي للموقف معلقٌ إلى مساء الأحد، حيث يعقد أكثر من تكتل وكتلة نيابية اجتماعات لاتخاذ القرار.
ويجتمع ليل الأحد تكتل "الجمهورية القوية" برئاسة جعجع، كما تجتمع كتلة "اللقاء الديموقراطي" وقيادة "الحزب التقدمي الاشتراكي" برئاسة النائب السابق وليد جنبلاط والنائب تيمور جنبلاط لإعلان قرارهما. كما ينتظر أن تجتمع كتلة "الوفاء للمقاومة" (كتلة نواب "حزب الله") على أن تعلن موقفها الاثنين في الاستشارات.
وقالت مصادر واسعة الاطلاع لـ"اندبندنت عربية" إن الحريري أوفد الدكتور خوري للقاء الرئيس عون قبل ثلاثة أيام، أي قبيل إعلان رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير جبران باسيل أن "تكتل لبنان القوي" لن يشارك في حكومة برئاسة الحريري.
وأوضحت أن اللقاء "لم يكن إيجابياً" على خلفية إصرار الحريري على استبعاد تمثيل القوى السياسية، بينما يركز رئيس الجمهورية على حكومة تكنوسياسية، ويبدي امتعاضاً من استبعاد الوزير باسيل وتياره عن صيغة الحريري، مقابل عودته هو إلى الرئاسة الثالثة.
وأبلغت مصادر سياسية بارزة "اندبندنت عربية" بأن مشاورات الساعات الماضية "أعادت خيار تكليف الحريري إلى الواجهة"، من دون أن تلغي خيار تسميته من يقترح تكليفه بدلاً منه، وهما الخياران اللذان طرحهما الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله في كلمته مساء الجمعة، مستبعداً صيغة حكومة "اللون الواحد"، أي من تحالف قوى "8 آذار" مع "التيار الحر" والرئيس عون التي كان رغب بها الأخير.
جديد خطاب نصر الله
ولفت مصدر وزاري إلى أن خطاب نصر الله تميز بثلاث نقاط بارزة كالآتي: أولاً أنه حرص على نفي ما نُسب إلى مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء مرتضى قرباني بأن "في حال ارتكبت إسرائيل أصغر خطأ تجاه إيران سنسوي تل أبيب بالتراب انطلاقاً من لبنان"، واعتبر أن النص الأساسي لتصريح قرباني "لم يأت على ذكر لبنان".
وأوضح المصدر أن نصر الله ذهب في نفيه ذلك إلى حد التراجع عن تهديدات كان أطلقها في الأشهر الماضية عن أن "حزب الله" وقوى "الممانعة" لن تقف مكتوفة الأيدي في حال أي اعتداء أميركي على إيران، مشيراً إلى أن المنطقة برمتها ستشتعل، وقال إن إيران بنفسها هي التي سترد.
وقال المصدر، إن موقف نصر الله هذا هو لطمأنة الشارع المسيحي الموالي للرئيس عون في ظل تراجع التأييد للعهد مع انطلاقة الانتفاضة ضد السلطة السياسية، واتهامه بأنه يقحم لبنان في محور إيران، ما اضطر وزير الدفاع إلياس بوصعب للرد على ما نسب إلى قرباني.
ثانياً: نصر الله ترك الباب مفتوحاً أمام تسمية الحريري لرئاسة الحكومة حين اعتبره واحداً من احتمالين ثانيهما تسمية من يزكيه، عندما طالب زعيم "تيار المستقبل" بأن "يحلحل" شروطه بعض الشيء، قاصداً أن يتخلى عن رفضه تمثيل القوى السياسية.
فالأمين العام لـ"حزب الله" دعا إلى حكومة "شراكة وطنية"، لكنه كان واضحاً في خلافه مع "التيار الحر" حول رفضه خيار حكومة اللون الواحد، كما أن نصر الله يخالف "التيار" وعون في شأن رفضهما عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، من دون أن يعني ذلك أنه حسم أمر تسمية الأخير في الاستشارات.
ثالثاً: أنه تعاطى مع الحراك الشعبي بليونة أكثر، بعدما كان وجّه سابقاً انتقادات إلى تحركات هذا الحراك، فأقرّ بوجوب أن يستمر المحتجون بالضغط على الحكومة لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية ومراقبتها.
إصرار جعجع على الاختصاصيين... وكلام شينكر
لكن، العودة إلى تغليب خيار الحريري جاءت على خلفية إنجاز التكليف ثم الاتفاق على صيغة تأليف الحكومة لاحقاً، كما أعلن نصر الله، هذا فضلاً عن أنه حتى من سيسمّون الحريري من الفرقاء الآخرين المؤيدين له لم يتلقوا منه أي تصور حولها.
وهذا ما دفع بجعجع إلى القول "لا أعرف مما هي خائفة اليوم الكتل السياسية في مجلس النواب التي لا تزال تصر على حكومة تكنوسياسية؟ وأريد أن أذكر أيضاً بأن أي حكومة يمكن أن يطرح مجلس النواب الثقة فيها في أي وقت".
وأوضح رئيس حزب القوات، أن "المجتمع الدولي يكثّف من مطالبته بالإسراع بتشكيل حكومة، ولكن ليس أي حكومة، فإذا ذهبنا إلى تأليف حكومة تكنوسياسية فيها من أصل 24 وزيراً ثلاثة أو أربعة أوجه سياسية فعندها كان الله يحب المحسنين"، ويذهب جعجع في إصراره على الاختصاصيين إلى حد رفض "الإتيان بحكومة كسابقاتها مع بعض التجميل عبر التطعيم ببعض الاختصاصيين".
ويلاقي كلامه ما سبق أن قاله مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر في حديث لجريدة "النهار" عن أنه "لن تكون الحكومة التي تريدها الأحزاب الرئيسية في البلاد، لن تكون هناك أي مساعدات مالية من المجتمع الدولي إلّا إذا تألفت حكومة ملتزمة الإصلاح".
سيناريو تكليف الحريري
لكن، الاستناد إلى مواصفات الموقف الدولي من الحكومة المقبلة لا يبدو أنه يلقى صدى لدى القوى الأخرى، ما جعل جعجع يقول "يجب أن لا يعتبر أحد أن المسألة انتهت، بمجرد أن يتم تكليف رئيس عتيد الاثنين، إن كان الرئيس الحريري أو غيره، سيتم تأليف الحكومة. قطعاً لا".
ويؤشر كلام جعجع إلى ما تتداوله أوساط سياسية متعددة عن سيناريوهات لما يمكن أن يحدث الاثنين، وأوضحت هذه الأوساط لـ"اندبندنت عربية" أن الأصوات المفترضة لتسمية الحريري في حسابات الأمس كانت كالآتي: كتلة "المستقبل" (19 صوتاً)، وكتلة "التنمية والتحرير" (17 صوتاً)، وكتلة "اللقاء الديموقراطي" (تسعة أصوات)، وكتلة "الوسط المستقل" (أربعة أصوات)، وكتلة "الجمهورية القوية" أي حزب "القوات" وحلفاءه (15 صوتاً) ومجموعها 64 صوتاً أي نصف أعضاء البرلمان، يضاف إلى هؤلاء النواب نائبان أو ثلاثة من المستقلين، ما يجعل الحصيلة 66 إلى 67 نائباً، على افتراض أن يحسم حزب "القوات" موقفه مساء الأحد.
كما تفترض هذه الأوساط أن لا تصوّت كتلة "الوفاء للمقاومة" أي "حزب الله" (13 صوتاً) للحريري تضامناً مع "التيار الحر"، إذا بقي مع الرئيس عون على رفض المشاركة في الحكومة.
وإذا سلكت الأمور في اتجاه تكليف الحريري، فإن المحيطين بالأخير يتوقعون أن لا يطول الوقت حتى يتقدم بالصيغة التي يراها مناسبة لحكومة الاختصاصيين قبل آخر الشهر الحالي، فإذا رفضها عون ولم يوقّع مرسومها تطول الأزمة، فإما يعتذر الحريري أو يبقى مكلفاً، مع اضطراره لتفعيل تصريف الأعمال في الحكومة المستقيلة، وهذا السيناريو يؤخّر الحلول للأزمة المالية الاقتصادية المستفحلة، لكن مداولات الساعات المقبلة، لا سيما مع الثنائي الشيعي أي "حزب الله" وحركة "أمل"، تحدد صحة هذا السيناريو.