ليس عبثاً أن تُدرِج منظمة اليونيسكو للتراث الورد الشامي وتضعه على لائحة التراث العالمي، فلهذه الوردة حظوة في قلوب الدمشقيين كما ياسمينها الأبيض، إلاّ أنّ لهذه الوردة الشامية مزايا جعلتها تتربع هذا العام على رأس قائمة التراث الثقافي غير المادي.
سعادة "المراح"
حدثٌ دفع السوريين إلى إشادة نصب تذكاري للوردة الشامية وسط عاصمتهم، وذلك بعدما أعلنت اللجنة الحكومية لحماية التراث الثقافي غير المادي وخلال اجتماعها الـ14 المنعقد في بوغوتا العاصمة الكولومبية، تصنيف الوردة والممارسات والحرف التراثية المرتبطة بها ضمن قائمة التراث غير المادي.
وارتبط اسم الوردة بعاصمة الياسمين، لكن أكثر البلدات التي برعت في زراعة هذه الوردة والتصقت بها كانت قرية يطلق عليها "المراح"، الواقعة في ريف دمشق في منطقة تُسمى النبك.
حال سعادة عامرة يعيشها أهل قرية "المراح بعد هذا المكسب العالمي بتسجيل وردتهم"، إذ يرى المزارع أحمد عبد الرحمن من أهالي القرية ويعمل في الزراعة، أن ما أكسب قريته هذه الشهرة مدى الاستفادة من إنتاج العطر الذي لا يُقدَّر بثمن.
مصدر رزق
في العادة، يقطف المزارعون أزرار الورود ويشترك أهالي القرية في زراعة وقطاف الزهر الوردي اللون، ليستخرجوا منه العطر والمواد الغذائية والتجميلية وحتى الطبية.
من جهته، يعدّد عبد الرحمن أيضاً الاستخدامات المرتبطة بالزهرة ومنها تحويل الورد إلى شراب أو شاي ومشروبات الزهورات أيضاً، حتى تحولت هذه الوردة وإنتاجها السنوي بعد زراعتها ورعايتها وتكاثرها في أراضي القرية، إلى مصدر رزق لعائلات وسكان البلدة الذين يسعون إلى تطويرها بعدما توقفت الزراعة خلال الحرب.
وتراجعت هذه الزراعة بعدما هجرها رجال القرية فيما واظبت النساء ولسنوات عدّة، على قطف الورود مع مردودٍ قليل. الحال تغيرت بعد إعادة زراعة عشرات الهكتارات وبعدما لاقت مساعدةً من منظمة "الأمانة السورية" المدعومة حكومياً، وأكد المزارعون أنهم باتوا يتعاملون مع الصيدليات والمراكز الطبية والمعامل، الراغبة في الحصول على هذه الورود، خصوصاً المجففة منها، لما لها من خصائص وفوائد لا تُعدّ ولا تُحصى.
قطاف الزهر
وبطبيعة الحال، لم تكتسب تلك الوردة شهرتها بشكل عبثي ولم تنشر شذاها في الآفاق الدولية وصولاً إلى اليونسكو، من دون سواعد المزارعين وما يرافق مواسم القطاف من طقوس وأناشيد تصدح مع كل إشراقة شمس إلى حين غروبها.
وفي غضون ذلك، تسعى الهيئات الزراعية إلى العمل على إنتاج هذه الزهرة والاهتمام بها، بمؤازرة بعض المزارعين الساعين لتطوير الزراعة. وفي هذا السياق، يبدي رئيس جمعية "المراح" لإحياء وتطوير الوردة الشامية مدين بيطار، تفاؤلاً في يوم إعلان اليونيسكو، ملوّحاً "بمساعٍ جدّيّة من قبل المعنيين لإقامة خزانات مياه، استعداداً لسنوات الجفاف".
جمعية تطوير زراعة الوردة بالمشاركة مع منظمة الأمانة السورية للتنمية ومقرها دمشق، تسعى إلى زيادة دعم هذه الزراعة والحرف المرتبطة بها، عبر رفع المردود الاقتصادي لها وتقديم أجهزة تقطير لاستخراج ماء الورد.
المردود الاقتصادي
وبحسب المهندس الزراعي هيثم بنود، فإن ميزة هذه الزهرة تعود إلى طبيعة الأرض التي تناسب هذه الشجيرة والاهتمام بها، وقال "لقد عانت مراحل جفاف خلال السنوات الماضية، على الرغم من أنها نبتة بعلية وتروى بما يُسمى بالريات التكميلية، ويصل متوسط الإنتاج إلى 30 طناً سنوياً".
وأمام المردود الاقتصادي المتزايد، يسعى المزارعون إلى زيادة الإنتاج وتوسيع زراعتهم. فسعر الكيلو الواحد يتراوح بحسب النوعية، بين ألفي ليرة سورية وستة آلاف منها، أي ما يعادل ستة دولارات أميركية، بينما سعر الزيت المستخرج من الوردة يقدر بأكثر من 30 ألف ليرة، أي ما يعادل 40 دولاراً (غراماً من الذهب). هذه الأرقام تتراوح بحسب الطلب والعرض وجودة المادة المنتجة.
فطور بطعم الورد
وللورد مذاقه الخاص لدى أهالي مدينة حلب عاصمة الشمال، حيث لا تخلُ البيوت من مربى الورد.
ومع حلول موسم الورود، وبعد أن تتوافد المركبات المحملة بالزهور الوردية وتغرق الأسواق برائحة العطر، يتقاطر المشترون لاقتناء الزهور وصناعة أطباق حلوة المذاق، تزين موائد الفطور الصباحية.
وبين كل تلك الأطباق، يفضل السوريون في حلب أن يقترن طبق مربى الورد مع أطباق الجبنة، فتستذكر معها إحدى السيدات في حلب، رائحة الورد الذي يعبق في البيت بعد شراء زوجها أكياساً كبيرة منها، فتقول أم أحمد "نصنع كميات كثيرة وأصنافاً من الورود، منها الشراب والمربى ونضعها في أوعية زجاجية، بحيث نستخدمها طوال السنة".
ومهما تنوعت مهارات الأيدي الصانعة لأطباق المربى، يبقى الأسلوب واحداً، إذ تضيف ربات البيوت والنسوة بعد غسله وتعصيره وتنشيفه من الماء، السكر وحمض الليمون. ومن دمشق إلى حلب، يأمل السوريون في ألاّ تترك رائحة الزهور بيوتهم المثقلة بجراح الحروب والمآسي والأوضاع الاقتصادية الصعبة، ويستمرون بتحويل زهرتهم إلى مشروبات وأطباق شهية.