إذا كان لدى إدارة الرئيس دونالد ترمب بقية من الآمال حتى الآن بشأن تمكّن أوكرانيا من فتح تحقيق حول شركة "بوريسما" وبايدن الأب والابن، فمن المرجح أنها قد تبخرت في الأيام القليلة الماضية.
إذ تركت الدعابة المربكة التي نقلها السفير غوردون سوندلاند إلى ترمب عبر الهاتف، وذكرها الدبلوماسي ديفيد هولمز أخيراً ضمن شهادته في الكونغرس وبُثَّت لاحقاً إلى الجمهور، تركت أقوى العلامات في كييف.
واستطراداً، من المستطاع الإشارة إلى أن التعليقات المهينة التي تدّعي أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي سيفعل "كل شيء" يطلبه منه ترمب، قد عمّقت شعوراً بين مواطنيه بأن البلد المبتلى بالحروب لم يعد يؤخذ على محمل الجد من قِبَلْ حليفه العسكري الأساسي.
ومنذ تسلم زيلينسكي مقاليد الحكم، وجدت إدارته نفسها هدفاً لحملات غير منتظمة يطلقها البيت الأبيض للتأثير على قراراتها. وحاضراً، يتكشف باطراد مدى الضغط الممارس على أوكرانيا، بعد شهادات علنية درامية في جلسات الاستماع المخصصة لملف عزل ترمب [في الكونغرس].
وتقدم تلك الشهادات تفاصيل عن الكيفية التي انحنى الأوكرانيون، وربما على العكس من أفضل تقديراتهم، بهدف احتواء نزوات الرئيس الأميركي.
ومثلاً، ظهر سيل من الرسائل النصية التي تبين كيف احتج مسؤولون في إدارة زيلينسكي في البداية، لكنهم أُخذوا بأحلى الكلام كي يفتحوا تحقيقاً حول شركة غاز تشغّل هنتر بايدن ابن المنافس الأكثر حظاً لمواجهة ترمب في انتخابات 2020 الرئاسية.
ومن شأن تلك الخطوة لو حدثت، أن تفضي إلى تقويض الدعم المزدوج الممنوح لأوكرانيا من قبل الجمهوريين والديمقراطيين في واشنطن، الذي يشكل الحجر الأساس لسياسة كييف الأمنية. في المقابل، يبدو أن البديل الأكثر سوءً يتمثّل في استمرار الامتناع عن تقديم 391 مليون دولار تتخذ هيئة مساعدة عسكرية، في وقت تشتد حرارة الحرب مع الانفصاليين المدعومين من روسيا.
في ذلك السياق، أُنقِذَتْ إدارة زيلينسكي بفضل ملابسات خارجة عن إرادتها. وفي أوائل سبتمبر(أيلول) الماضي، عشية ما بدا أنه إعلان أوكراني مخطط له لإطلاق تحقيق في نشاطات شركة "بورسيما"، وأثناء مقابلة متوقعة مع قناة "سي آن آن"، عمد شخص إلى الإبلاغ عما حدث، فتسبب في نشر ارتباك عام. وقد أدت شكوى هذا المُبلِّغ إلى إطلاق فوري للدعم العسكري لأوكرانيا، وإلغاء المقابلة أيضاً، إضافة إلى بدء إجراءات العزل ضد الرئيس الأميركي.
في كييف دخلت إدارة زيلينسكي في أزمة. وفي هذا الصدد تحدث مسؤول كبير اشترط عدم الكشف عن هويته، مع صحيفة "الاندبندنت"، مبيّناً أن سياسة الحكومة الآن باتت تستند إلى عدم إجراء مقابلات إعلامية حول ذلك الموضوع.
ونتيجة لذلك، تظل أمور كثيرة غير واضحة، خصوصاً في ما يتعلق بما عرفته إدارة زيلينسكي، وكذلك زمان معرفتها به. وفي مؤتمره الصحافي الطويل خلال شهر أكتوبر (تشرين أول) الماضي، زعم الرئيس زيلينسكي أنه لم يكن على علم بوقف إرسال شحنة الأسلحة حتى بعد مكالمته الهاتفية سيئة السمعة في 25 يوليو(تموز) مع الرئيس ترمب.
وبعد ذلك، عمد الرئيس ترمب في صفحته على موقع "تويتر"، إلى استخدام نكران زيلينسكي في تدوينة كتب فيها "لم يكونوا [الأوكرانيون] يعرفون أن المال لم يُدفع، وحصلوا على المال دون شروط".
في المقابل، أشار آخرون إلى جدول زمني مختلف بشكل جذري. ومثلاً، أفاد فاليري تشالي، السفير الأوكراني السابق لدى الولايات المتحدة، إن كييف أُعلِمت بتأجيل إرسال المساعدة العسكرية في أوائل شهر يوليو الماضي. وفي مقابلة أجريت معه على محطة إذاعية محلية، أفاد تشالي أنه علم آنذاك بأن البنتاغون فشل في تجديد صفقات مع عدد من المتعاقدين الفرعيين.
وأضاف تشالي في تلك المقابلة الإذاعية إنه نقل الأخبار المقلقة مباشرة عبر الكابل إلى مكتب الرئيس زيلينسكي. ولربما أهمل المكتب الرئاسي الرسالة أو لم يكتشف أهمية ما تضمنته. وبحسب المحلل السياسي المستقل فولوديمير فيسينكو، فإن العلاقات بين مكتب زيلينسكي ووزارة الخارجية مشحونة بالتوتر إلى حدٍّ ما.
وفي هذا الصدد، أوضح فيسينكو إن "زيلينسكي وفريقه حساسون بشأن الأمور المتعلقة بالثقة، وغير مقتنعين أيضاً بوزارة الخارجية ودبلوماسييها".
ثمة تأويل أكثر ترجيحاً مفاده أن موظفي زيلينسكي كانوا على علم بالمشاكل حينما أُجرِيَتْ مكالمة 25 يوليو، لكنهم يفضلون الآن عدم الإقرار بذلك خوفاً من توريط الرئيس ترمب في قضية مقايضة واضحة.
وفي وقت سابق، أقر وزير الخارجية الأوكراني السابق كليمكين في حديث مع الاندبندنت، أنه سمع "شائعات" حول مشاكل تتعلق بالمساعدة العسكرية "قبل فترة أبكر بكثير من هذه السنة". وفي البدء، لم تربط وزارة الخارجية [الأوكرانية] مباشرة بين هذه المشاكل ورغبة ترمب في إجراء تحقيق حول جو بايدن وابنه هنتر. لكن الترابط بينهما، وفق قوله، أصبح واضحاً "خلال يوليو"، أو بصيغة أخرى، قبل نشر خبر إيقاف المساعدة العسكرية على موقع "بولتيكو" يوم 28 أغسطس (آب) الماضي، بفترة أطول.
تجدر الإشارة إلى أن كييف ظلت قلقة من دونالد ترمب. فخلال حملته الانتخابية، أظهر الرئيس الأميركي اهتماماً ضئيلاً بأوكرانيا وحربها الداخلية. ولمّح إلى أنه قد يعترف بادعاءات روسيا عن ملكية جزيرة القرم. فمنذ تسلمه مقاليد الحكم، ظلت سياسة ترمب الخارجية مصطفة باستمرار مع موسكو. وقد دعم الرئيس فلاديمير بوتين على حساب مؤسسات بلده الاستخباراتية، وقوّض حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وانسحب فجأة من سوريا.
لكن لا أحد في كييف كان مستعداً لوقوع شبه انهيار في العلاقات الثنائية، على النحو الذي جرت فيه الأمور خلال الأشهر القليلة الماضية. إذ لم تعد أواصر العلاقة مع واشنطن فعالة الآن إلا على مستوى البنتاغون والكونغرس، وبحسب ما عرفته صحيفة الاندبندنت. أما في المجالات الأخرى، فإن الولايات المتحدة لاعب غائب إلى حد كبير.
ثمة أواصر تقليدية قوية تربط أوكرانيا بوزارة الخارجية الأميركية، والسفارة الأميركية في كييف، والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي، وقد تقوّضت كلها بفعل الفضيحة. وكذلك يتنامى توقّع مفاده أن سفير الولايات المتحدة في كييف، بيل تايلور، الذي يعتبر من المناصرين الأقوياء لأوكرانيا، قد يستدعى إلى واشنطن بعد انتقاده العلني لدبلوماسية ترمب الخارجة عن المنظومة التقليدية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سياق متصل، تملك أوكرانيا مشاكل أيضاً تتعلق بسفيرها. ولأسباب غير واضحة، تماطل واشنطن في المصادقة على بديل للسفير فاليري تشالي في واشنطن. وبحسب بعض التقارير، يسعى مكتب الرئيس زيلينسكي إلى اختيار مرشح ثالث لمنصب السفير لدى الولايات المتحدة.
وقد ساهمت كل هذه الأمور في خلق شعور بالتوتر في كييف. وكذلك يتساءل بعض الأشخاص عمّا إذا كان البلد موشكاً على أن يُضحى به في لعبة كبرى، مثل ما حصل مع الكرد في سوريا. ثمة شعور بأن أوكرانيا موشكة أن تُنسى من قبل أهم حليف عسكري لها.
من ناحية أخرى، لا تبدو الأمور أحسن بالنسبة إلى أوروبا. فهناك البريكست، ومشاعر التعاطف مع روسيا في إيطاليا، والمشاكل بين النمسا وهنغاريا، والسياسة الخارجية للرئيس الفرنسي الميالة إلى اتّخاذ منحى مستقل فيما يخص روسيا. وقد أضعفَتْ هذه الإشكالات الإجماع على تحقيق أمن أوكرانيا.
وفي هذا الصدد، ذكر فاليري كالنيش، أحد أبرز مقدمي برنامج حواري سياسي في محطة إذاعية محلية، إن "أوكرانيا ما عادت تشعر بالتضامن الذي شعرت به في عامي 2014 و2015... أصبح لأوروبا جيل جديد من الزعماء، وهم أناس لا يملكون خبرة بأهوال حربنا، ويرى بوتين دائماً خصومه باعتبارهم لاعبين مؤقتين موجودين اليوم ويرحلون غداً، فلا يراهم متكافئين معه. إنه باق في السلطة إلى أمد طويل".
في مقلب مغاير، يشير خبراء إلى عدم واقعية القول بحدوث انقلاب جذري في السياسات على طرفي المحيط الأطلسي، في الأقل، على الأمد القصير.
وفي هذا الصدد، أشار ستيفن بيفر السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، والزميل الأقدم في مؤسسة بروكينغز، إلى أن الكونغرس لديه اليد الطولى في الولايات المتحدة فيما يخص السياسة تجاه أوكرانيا، ويقف دائماً إلى جانب كييف.
وأضاف، "وقف حتى الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس، في وجه ترمب فيما يخص سوريا، ومن الواضح أنهم يهتمون بأوكرانيا أكثر من اهتمامهم بسوريا".
في نفسٍ مُشابِه، أفادت ماري مندراس، البروفيسورة في كلية العلاقات الدولية بباريس إن المشاعر الناجمة عن الأزمة تهدد بحجب ما وصفته بـ"أساسيات" الأمن. إذ مازالت أوروبا والناتو "ملتزمين" حماية سيادة أوكرانيا. لكنها أضافت أن جهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للانخراط في حوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وضع ديناميكيات جديدة إضافية في علاقة فرنسا مع أوكرانيا. ومثلاً، شجّع الرئيس الفرنسي نظيره الرئيس زيلينسكي على المضي قدماً في مسار شديد الخطورة، لعقد هدنة مع روسيا. فما زلنا لم نر إذا كان فلاديمير بوتين مهتم بشكل جدي بتلك المفاوضات.
وأشارت أستاذة العلوم السياسية مندراس إلى أن "المخاطر كبيرة، وماكرون يريد أن يقتنع بعلاقته مع بوتين... وكذلك يرى ماكرون أن تحقيق السلام في "دونباس" طريق لتعزيز هذا الهدف، ويتوقع أن تُقَدّم كييف تنازلات أكثر مما تقدمه موسكو".
في وقت ما على ذلك الطريق، انتقلت أوكرانيا من كونها طرفاً فاعلاً في العلاقات الدولية إلى موضوع للمفاوضات.
وأضافت مندراس، "أوكرانيا الآن مشكلة يجب عليك أن تناقشها... وهذا أمر تظن أنك تستطيع أن تقايض فيه... تُلام أوكرانيا بشكل جزئي على ذلك، لكن الرئيس الفرنسي بحاجة أيضاً إلى أن يتذكر بأن الكرملين لا يتمنى أن تكون أوكرانيا دولة ذات سيادة وديمقراطية".
في الإطار نفسه، توقّع وزير الخارجية الأوكراني السابق كليمكين أن تكون السنة المقبلة [2020] حاسمة لأوكرانيا، فإما النجاح أو الفشل.إذ أُجهِدَتْ كييف على جبهات متعددة امتدّت من سياسات الولايات المتحدة الداخلية إلى الحرب في الشرق الأوكراني، وشملت إمكانية فقدان مداخيل الترانزيت المتأتية من عبور الغاز الروسي في أراضيها مع البدء في تشغيل خط أنابيب "السيل الشمالي 2" في 2020.
وأضاف، "أنا قلق بشكل متزايد حول المحنة التي نجد أنفسنا فيها... ومقتنع أيضاً أن بقاءنا كأمة في خطر... لقد انتابني ذلك الشعور آخر مرّة إبّان ذروة الحرب في 2014. نحن الآن على شفا الهاوية مرّة اخرى. إنه وضع خطير إلى هذا الحد".
© The Independent