لا تبدو "خطة المساعدات الغذائية" التي أقرتها الجزائر لمناطق متضررة في الشرق الليبي وشمال مالي، معزولة عن خطة أمنية موسعة يقودها رئيس أركان الجيش الجزائري عبر المنطقتين العسكريتين على الحدود مع ليبيا ومالي. كل هذا في موازاة مشروع دبلوماسي أحيت من خلاله الجزائر دورها في ليبيا وتنتقل إلى طوارق مالي.
وعبرت مساعدات غذائية جزائرية الحدود البرية المشتركة مع مالي مساء الأربعاء، في سياق "خطة مستعجلة" تستهدف مناطق متضررة في كل من ليبيا وشمال مالي، بالتوازي مع نشر قوات إضافية للجيش الجزائري بين محورين حدوديين، النيجر مالي والنيجر ليبيا.
ونقل شهود من بلدة تينزواتين الحدودية مع مالي في أقصى جنوب البلاد لـ"اندبندنت عربية" وصول قافلة مساعدات غذائية في طريقها إلى مساحات واسعة شمال مالي، وهي مناطق مأهولة من السكان الطوارق وهم أمازيغ الصحراء يتوزعون بين بلدان عدة في الساحل الأفريقي ومن بينها الجزائر.
الطوارق بعد ليبيا
لطالما انخرطت الجزائر في اتفاقات أمنية مصيرية بين الحكومة المالية وأغلب حركات التمرد الطارقية في الشمال، بل إنها لعبت الدور الأبرز ما بين 1990 و2015. وشمل دور الجزائر رعاية اتفاقات سلام وعمليات جمع سلاح الميليشيات المنتشرة في شمال مالي. بيد أن هذا الدور تراجع بشكل ملحوظ في السنوات الخمس الماضية لتكتفي الجارة الشمالية بدور استخباري يستهدف تسليم إرهابيين جزائريين أنفسهم إلى الجيش، وهم مقاتلون سابقون في جماعات مسلحة تستفيد من حالة الفراغ في غالب بلدان الساحل.
وسلم أكثر من مئتي إرهابي أنفسهم في العامين الماضيين في منطقة آمنة في محافظة تمنراست الجنوبية الشاسعة عند حدود مالي والنيجر، وشملتها إجراءات عسكرية منذ بضعة أسابيع تزامناً مع عسكرة الوضع داخل ليبيا.
ووضعت الجزائر خطة أمنية تترافق مع خطة مساعدات عبر محوري ليبيا ومالي. ويقول شهود من بلدة تينزواتين الجزائرية إن المعابر البرية الرسمية بين البلدين ما زالت مغلقة منذ إقرار ذلك تزامناً مع الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد عام 2012. وتخضع المعابر البرية لإجراءات فتح مؤقتة مرة واحدة كل شهر، تؤشر فيها الجزائر على وثائق العبور لعائلات غالبيتها من الطوارق المتنقلين بين ثلاثة بلدان على الأقل، الجزائر ومالي والنيجر.
المثير للانتباه أن العبور عبر المنافذ الرسمية المشتركة على الحدود ليس ملزماً لسكان تلك المناطق في أقصى الحدود، فهم في العادة بدو رحل أو عائلات من الطوارق تعودوا العبور ذهاباً وإياباً في منطقة قاحلة تصعب مراقبتها بشكل مستمر (1400 كلم). مع ذلك، فإن مبادلات تجارية تعتمد المقايضة تحتاج إلى لمسة رسمية على جوازات السفر، علماً أن البلدين لا يفرضان تأشيرة على مواطنيهما.
المطلوب من الجزائر
تنافس محموم بين الجزائر وفرنسا في منطقة الساحل الأفريقي على أساس علاقات تاريخية تملكها الدولتان مع كبرى القبائل. فالجزائر تنصهر اجتماعياً مع القبائل الطارقية والعربية على امتداد المنطقة، فيما تملك فرنسا دور "المستعمر السابق" مقابل قابلية من أنظمة عدد من تلك البلدان بالدور الفرنسي عموماً.
يشير موسى وانكيلا الناشط الجزائري المقيم في تمنراست (2000 كلم جنوب العاصمة)، في حديث مع "اندبندنت عربية"، إلى أن "الوضع في شمال مالي مستقر أمنياً، فقط يظل المشكل التنموي المتصل بالاتفاقيات التي رعتها الجزائر منذ سنوات بين الحكومة المالية وحركات التمرد في الشمال وكثير من تفاصيله لم تفعل بعد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلفت وانكيلا إلى أن "الجزائر في سياق محاولتها إعادة تفعيل دورها في منطقة شمال مالي قد تعتمد على التكتلات المبنية على أسس اجتماعية بعيداً من الإدارة الدبلوماسية". ويقول "قبل أيام بدأت القبائل الطارقية والعربية تنظيم لقاءات بدأت من منطقة تبنكود في شمال مالي وتخص مسائل السلم وكيفية تفادي العمليات الانتقامية في شمال البلاد حيث تعتمد كثير من القبائل على منطق الإيغا، وهو مفهوم محلي يعني أن كل قتيل من قبيلة ما يقابله قتيل من قبيلة القاتل.
ويعتقد وانكيلا أن "المطلوب من الجزائر هو تفعيل الروابط الاجتماعية المبنية على الأسس التاريخية، مع تفعيل دورها الدبلوماسي في باماكو لإنعاش اتفاقيات السلام التي رعتها في العقدين الماضيين". ويضرب وانكيلا مثالاً ما تقوم به "فرنسا في تشاد، حيث اعتمدت على النسيج الاجتماعي لقبائل التبو وعلى اتفاقيات اجتماعية تعود إلى عام 1800 وتشمل مناطق من دارفور إلى أوزو".
الجزائر تغير لهجتها
وغيرت الجزائر من لهجتها مع "حركة أنصار الدين" لتصنفها في العامين الماضيين بالـ"إرهابية" بعدما ظلت تدفع عنها هذه التهمة في خضم مفاوضات رعتها سابقاً وضمت أيضاً "حركة تحرير أزواد"، فقد راهنت الجزائر على خيار المفاوضات بين السلطة في مالي، والجماعات "التي تنبذ الإرهاب" في شمال البلاد. وكان المقصود بذلك "حركة أنصار الدين" الطارقية المتشددة و"حركة تحرير أزواد" الانفصالية.
وتقوم خطة الجزائر على نصائح من مدير ديوان الرئاسة الحالي، نور الدين عيادي، وهو سفير سابق في مالي في فترة "تمرد" قوية قادتها حركات طارقية بدءاً من عام 2011 (بعد سقوط نظام معمر القذافي). ويميل عيادي إلى "استعادة الجزائر نفوذها وسط الحركات الطارقية والعربية القريبة من التيار العلماني في شمال مالي".
والإشكال وفقاً لمنظور الجزائر في الفترة الراهنة "تنموي بالأساس ويمكن معالجته وفق اتفاقيات الجزائر، على أن تسهم الأخيرة في جزء من تفاصيله في المناطق اللصيقة بالحدود مثل أشبرش المالية". لذلك، من المتوقع أن تلجأ الجزائر في مرحلة مقبلة إلى تخفيف العبء على المعابر الحدودية البرية، بمجرد إعادة تفعيل "لجان المراقبة الحدودية المشتركة بين الدولتين، وهي دوريات تشتغل في توقيت واحد وبخطة واحدة على طرفي الحدود الطويلة".